بعد بيات شتوي طويل لازم العيون العربية، التي طالما حملقت باطمئنان في ما يحدث حولها في العالم وفي واقعها الذي لم يكن يحدث فيه شيء، إما لأنها كانت تؤثر السّلامة وبالتالي يصبح القليل الذي يسدّ رمق الخبز والحرية يملأ بما فيه الكفاية الوجدان التائق للوجودية، وإما انها كانت تدسّ رأسها في الرّمل وتفتح ذهنها للتأمل في صمت، صارخة في اعماقها صراخ الغاضب، ثم تفتح عينيها في الواقع وتبتسم لأنّها تضع دوما صوب ناظريها النظرية الاستبدادية، إما القبول بالوضع القائم وإما الفوضى، فكانت تختار الوضع القائم على ما يمكن ان يعكّر عليها صفو ما تبقى لها من جدوى المعاش.
استفاق الفينيق العربي أخيرا بعد استنهاض طويل لرماداته المتبقيّة من الأسطورة الأولى التي ردّدها مرارا الوعي الإنساني عن الكرامة، حيث يؤكد علم النّفس على أن الفقر ليس مهينا في ذاته بقدر ما يعتبر المساس بكرامة الإنسان هو المهين الأكبر لوجوده، وبالتالي كان الرّماد الذي ابتُعِث منه فنيق الكرامة العربية، يزخّ مطرا ربيعيا من سموات حابلة بالأمل، وتكسير قوي لحواجز الخوف بعد ان بلغ السيل الزبى، وفاض الكيل بالإستياء من الأوضاع المزرية القائمة، حيث لا حرّية ولا تعبير، لا كرامة ولا أدنى شرط يمنح الإنسان الأمل في أن يقوم صباحا ويتنفّس شيئا من حركة الشارع المفضية بداهة الى الوجود، على أساس ان الشارع هو محل الإنتاجية والمؤدّي الى مساراتها، فلكي يلتحق الإنسان بأعماله ونشاطاته لابد له من الحركة في الشارع، فهذا الأخير هو المعبر من الإنسان الى ذاته من حيث انه يحقق له وجوده عبر العمل، وحفظ ماء الوجه الذي يتحقق عبر عدم مدِّ اليد، ويحقق له أيضا هويّته عبر تأكيد قيمته، ولهذا كان شارع بورقيبة في تونس السّفينة التي استقلتها الجموع الغاضبة كي تبشِّر بطوفان ما بعد الطوفان التاريخي، وترسم مسار نوح (ع) صوب المآلات القصوى للرّسو، فأينما وضعت الجماهير ارجلها تحسّست جيّدا مواطئ الأقدام، وبعد ذلك توجّه انظارها نحو الأفق البعيد الذي يحوي نقطة التلاشي، حيث تلتقي عندها خطوط المد المطلبي الذي راهنت عليه من خلال احتجاجها وصحوتها، ثم ثورتها من أجل الديموقراطية والعدالة واسترداد الحق في الثروة والحياة، بعد ان كان هذا المركب حكرا على من بأمرهم يأتمر الكل الوطني.
لقد استراح الجسد الرّمز للبوعزيزي في مدائن الدّيمومة حيث كان اعلانا انسانيا عابرا للكونية الواعية بأنّ القهر لا يمكن ان يُقهر الا بقهر أكبر منه، يطبّق على النوازع التي تشد الكائن البشري الى الهدنة الطويلة مع الأوضاع المزرية مؤجّلة استياءه الى حين يثور رمز ما في خلال المد البشري الهائل ضد غرائزية الجسد الهاربة من المساس بالجمالية المقدّسة لنسق العضل المفتول. أعادت الظاهرة البوعزيزية ترتيب الأنساق في الوعي العربي، وحرّكت الأفهام نحو طرق بديلة للإحتجاج حينما توصد كل طرق التنفيس عن الحق المهضوم الفئوي أو السّياسي، لقد تناثر الجسد البوعزيزي رمادا لعنقاء اسطورية آيلة للاحتماء بالظل الإنساني المهيّأ أبدا لاحياء طقوس الإنحراق عند عتبات البعث من جديد لنحت ملحمة الثورة ضد الأوضاع المزرية.
لقد انحنى العنقاء التاريخي امام بقايا الجسد المشوي المعاصر، مُسَلِّما مقاليد الانبعاث لشهامة ذلك العربي الباحث عن ظله، وعن ظل استبد به لون الغيم الباهت فأرداه قتيلا عند مداخل الصمت وجميع العتمات الممكنة في ذهن ومخيال المستبد، الذي سوّلت له هنيهته الزائلة والمليئة بالاطمئنان الى سكوت المقهور ورضوخه للجبروت، سوّلت له كل الموبقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي جعلت منه صاحب كل اليقينيات الممكنة التي تخرج به عن طبيعته البشرية، فيصدّق اوهامه ويستمر في تراخيه المستحيل في هاوية الخلود الوهمي، الى أن يستفيق على نقر عنيف يقضم آخر خشبات ابوابه المتعدّدة بعدد دقات قلبه الفزع دوما من أصغر حركة يثيرها انفلات هر في ليل ظليم.
أعاد شارع بورقيبة في تونس الإحساس الى خَدَر الأوصال التي ما كانت تمتد الى الأفق البعيد الذي طالته لولا حركة الجسد المجيدة في استنارة طيفية عبرت وعي البطّال الجامعي بائع الخضروات على قارعة الأرصفة في فضاءات الخضراء، قد يكون هذا من الصّدف التي اشتغلت عليها افهام الفلاسفة فنسفت وجودها بالبتة، ذلك ان التصور المسبق لحدوث الأشياء هو العادم لمصادفاتها، فلولا ان الأزمة دفعت الجماهير الى الشارع لما حدثت همّة الغضب. لقد تنفس الشارع في تونس نسيم الحرية فتوسّعت شرايين قلبه واندفق اوكسجين الحياة قويا في أوصاله حتى سُمع له دبيبا بأرض الكنانة فتوجّست خيفة في البداية امداء التراب بميدان التحرير، لكنه نزع اخيرا عن وجهه برقع الحشمة المزيّفة وخرج سافرا وجهه ينظر صوب الأفق الدافق من رهق الأشياء في طوب الهرم، وغرق الفرعون في يمّ الطغيان، كان الليل يُسمِع الصبايا حكاية شهرزاد التي عبرت بغداد وأطاحت بعنجهية شهريار حين استسلم لسحر الحكي في تداعيات القول لديها، وحلّت بالمخيال العربي ضيفة في الليالي المقمرات بنور السكون الذي قد يكون الفرعون عزم على ان يصدر مرسوما توريثيا بتأبيده، لكن خانته الفراسة حين منع الجماهير المتواصلة عبر نِتَّاتها (النت) من التلذذ بعجائبية الحكاية، فنزلت الى حيث القمر أرسل اشعته وسكب لجين السكون السحري الذي سال من مجلس شهريار في حضرة شهرزاد التي كانت قد انتقلت لتوّها من اسطورية الحياة المستحيلة في جسد البهاء البوعزيزي، لتكمل الحدث وفق تناغمات الف ليلية معاصرة وتفاهمات شهريارية ببنود شهرزادية.
ضربت الخيمة والتمّ شمل الشباب واستمع الملتحي لأول مرة للفتاة البهية السافرة، دون مانفستو الشروط المتبادلة، كان يكتشف لأول وهلة خطوط الحياء الدافق الذي أعاد الحياة للأجساد المحنّطة منذ عهد رمسيس والفراعنة مؤسّسي بدايات الإستحياء والقتل، كان الجميع يهيّئون صدورهم المعرّاة من كل شيء الا الخفق الدافق من شريان ظل ينبض للأمل القادم في ثورة الشباب وفرح الشارع وانتفاضة الميدان، لقد داهمهم شواظ الفرعون واغتال منهم من أصبحوا وفق البيان الجسدي البوعزيزي "ورود مفتحة في جناين مصر". لا تقولوا إن ميدان التحرير انموذج الحرية والجمال في عصر يغتالهما، يمثل المحاكاة لـ"هايدن بارك"، إن "هايدن بارك" لم تتعب لسماع مصائر اللغة في قصائد الشعر على قارعة عكاظ والفضاءات المشمولة بروح الإنطلاق في عرض الصحراء العربية العملاقة، إنه النّفس التحرري القديم والقادم من حرائق اللغة التي تفيض بنسائم الحرية في بهاء عظمة المتنبي:
الخيل والليل والبيداء تعرفني *** والسيف والرمح والقرطاس والقلم
لقد أعاد الشارع والميدان للجسد رمزيته وللشعر بهاءه، وللحكايا متونها الغائبة وتلاشيها الممتد من رونق العمر الى فتنة النهايات غير القابلة للتفاوض والمساومات في العصر العربي المُفَيْنَق برماد الحلم والموت السعيد..