بعد انفراط عقد نظام البغي في مصر المحروسة، انبرى كثير من رجال الشرطة للدفاع عن أنفسهم ضد اتهامهم بأنهم كانوا خط الدفاع الأول عن البغي والفساد. وسير بعض هؤلاء مظاهرة تعلن التحاقهم بالثورة، وتعلن البراءة من دماء شهداء الثورة المباركة، مؤكدين أن غالبية لم تشارك في الإجرام، وأن الإثم الأكبر هو إثم النظام الذي زج بالشرطة في هذه المعركة، وخاصة وزير الداخلية السابق حبيب العادلي وأمثاله من أركان النظام. وفي ظاهر الأمر، يبدو أن هذه الحجة وجيهة، لأن غالبية رجال الشرطة لم يكونوا وحوشاً، وجهاز الشرطة بطبيعته يقوم على هيكل تراتبي يفرض فيه على الرتب الدنيا تنفيذ الأوامر. ولكن من جهة أخرى فإن العضوية في جهاز كلف مهمة وحشية، وأصبح أداة في يد عصابة إجرامية تناصب الشعب العداء، تفرض بالضرورة أن يكتسب هذا الفرد شيئاً من الوحشية وأن يتطبع بطبائع الإجرام.
ولكن الأمر الأكثر أهمية هو أن كثيراً من هؤلاء يميلون إلى أن يصبحوا أكثر وحشية مما يتطلبه النظام، رغم أن وحشية الأنظمة ظلت تتزايد باضطراد. فقد ظل وزراء الداخلية في مصر يفصلون الواحد بعد الآخر لاتهامهم بأنهم لم يكونوا قساة بما فيه الكفاية، حتى انتهى الأمر إلى حبيب العادلي الذي بذ أقرانه. وفي هذا الإطار يتنافس المتنافسون من الجنود والضباط في من هو أحق بالثقة من قياداته، أي من هو أشرس في تعامله مع العباد، وأقسى قلباً تجاههم. وقد بلغ الأمر أن الشرطة أصبحت تبادر كل من يقع في يدها بالإهانة والتحقير والتعذيب، حتى بدون التعرف على تهمته. وقد كانت الطامة الكبرى من وجهة نظر الأنظمة أن وحشية وإجرام رجال الأمن تخرج عن السيطرة، فتتحول إلى عبء على النظام بدلاً من أن تكون أداة لحمايته. وإذا نظرنا إلى الأسباب المباشرة التي عجلت بسقوط نظامي مصر وتونس، فإننا نجد أن تجاوزات الأجهزة كانت في المقدمة. ففي تونس مثلاً كانت اعتداءات رجال الشرطة الاعتباطية على الشاب محمد البوعزيزي وإهانته وضربه لدرجة دفعه للانتحار هي الشرارة التي فجرت الثورة على النظام، بينما صبت ممارسات الشرطة والأجهزة الأمنية ضد الاحتجاجات التي نتجت الزيت على النار. ولم يكن الاعتداء على البوعزيزي أو مضايقته في رزقه من ضرورات بقاء النظام، بل بالعكس، كانت مصدر خطر. ونفس الشيء يمكن أن يقال عن الممارسات التي أعقبت حادثة البوعزيزي، والتي وصفها شهود العيان من استفزاز للمواطنين، وتخريب للمنازل والمتاجر، ونهب للممتلكات، وتحقير للناس واعتداء على أعراضهم، وهي ممارسات تجمع بين ممارسات السلطات الاستعمارية وسلوك العصابات الخارجة على القانون.
وقد انقلبت الأمور حين أصبح رئيس النظام مضطراً تحت ضغط الغضب الشعبي العارم للاعتذار علناً عن سلوك جلاوزته، ومقابلة ضحاياهم للتعبير عن أسفه. أي أن النظام أصبح يدافع عمن كان من المفترض أن يدافعوا عنه. ذلك أن السلوك الذي اجترحه أعوان الأمن في تونس لم يكن ضرورياً بأي شكل للحفاظ على بقاء النظام، ولكنه وجه ضربة للنظام أقوى من الضربة التي كان يمكن للمعارضة الضعيفة أن توجهها. لقد اجترح جلاوزة الأمن معجزة تحويل شاب لم يسمع باسمه أحد إلى بطل قومي فجر ثورة أطاحت بأعتى نظامين في العالم العربي، والحبل على الجرار. شيء مماثل حدث في مصر، حيث كانت إحدى شرارات الثورة قيام رجال أمن في الإسكندرية بضرب المدون الشاب خالد سعيد حتى الموت على مرأى ومسمع من المارة وفي رابعة النهار في حزيران/يونيو من العام الماضي. ولم تكن جريرة خالد سوى أنه نشر على الانترنت شريط فيديو يصور بعض رجال الشرطة وهم يتقاسمون 'غنيمة' من المخدرات والأموال التي صودرت من المجرمين. وقد استنفرت هذه الجريمة البشعة أكثر من نصف مليون شخص سجلوا أسماءهم في صفحة على الفيس بوك بعنوان 'كلنا خالد سعيد'. هنا أيضاً، تم توريط النظام من قبل عناصر إجرامية فيه كانت تدافع عن سلوكها الإجرامي، ثم دفع النظام كله الثمن.
إذن ليس صحيحاً ما يقوله هؤلاء التائبون من الشرطة ورجال الأمن من أن المسؤولية في جرائم النظام تقع على فرعونه وهامانه، وأن جنودهما من ذلك براء. بل بالعكس، إن الممارسات الإجرامية التي تمت بمبادرات مستقلة من بعض أفراد الاجهزة البوليسية والأمنية لم تكن بأوامر مباشرة ولا حتى بعلم من كبار قيادات النظام. ولكن هذا لا يعفي هذه القيادات من المسؤولية، لأنها هي في الأساس التي قننت وشرعت لهذا السلوك الإجرامي حينما كلفت هذه الأجهزة مهمة إجرامية في الأساس، وهي قمع الشعب وإهانة كرامة المواطنين وحرمانهم من حقوقهم الأساسية. ولكن قادة الأنظمة كانوا يعتقدون بأن هؤلاء سيمارسون الإجرام فقط لحساب سادتهم، وسيكونون من 'الأمانة والنزاهة' بحيث لن يقوموا بعمليات 'اختلاس' عبر ممارسة الإجرام لحسابهم الخاص.
المفارقة هي أن هذه الأنظمة حين تكتشف أن 'حراس النظام' هؤلاء أصبحوا يعملون لمصلحتهم الخاصة المتناقضة مع مصلحة النظام لا تجرؤ على مواجهتهم، لأنها تصبح أسيرة لهم. ذلك أنها تخشى إن استنت مبدأ المساءلة والمحاسبة أن يؤثر هذا في معنويات المدافعين عنها ويجعلهم يترددون في ارتكاب الجرائم الضرورية حين تلح الحاجة لذلك. وهي تخشى كذلك أن يؤدي الاعتراف بالخطأ من قبل أعوان النظام بزعزعة الثقة فيه وسقوط هيبته. ولذلك فإن ردة الفعل العفوية عند هذه الأنظمة لدى اكتشافها خصخصة الإجرام هي التستر والإنكار، وربما ارتكاب جرائم جديدة، كما فعل نظام بن علي حين قام بإرهاب من احتجوا على الجرائم، وكما فعلت الشرطة المصرية حين سعت إلى إرهاب الشهود ومحاولة اختراع كذبة أن خالد سعيد مات بسبب تناول المخدرات (وفي هذا تصديق لاتهامه الشرطة بأنها مؤسسة لتوزيع المخدرات، وإلا كيف يحصل معتقل في زنزانة على مخدرات بمجرد دخولها؟). ولو كان لدى قادة هذه الأنظمة شيء من العقل لكان من مصلحتهم التحرك الرادع والفوري ضد من ورطوهم هذه الورطة وألقوا بهم إلى التهلكة وزودوهم بالمعلومات الخاطئة. وقد روت والدة رمز الثورة التونسية محمد البوعزيزي أن الرئيس التونسي بن علي حين استقبلها كان يحمل معلومات كلها خاطئة ومزيفة عن الأسرة وحالها، بينما ظلت السلطات المصرية من قمتها إلى قاعها (وللقارئ أن يحدد أين يقع كل منهما) تدافع لزمن طويل عن الرواية الكاذبة عن ظروف موت خالد سعيد.
وفي مصر التي تنصب فيها المحاكم العسكرية تحت قانون الطوارئ لأفراد يمارسون حقوقهم، بل واجباتهم، المدنية، تم تقديم المتهمين بقتل المدون سعيد إلى محكمة عادية تعاملت مع القضية كما لو كانت قضية مخالفات قيادة سيارات. ولو أدرك هؤلاء حقيقة الأمر، لكانوا نصبوا المحاكم العسكرية لهذه الفئة لينقذوا أنفسهم، لا أن يتورطوا معها أكثر في هذا الإجرام 'الإضافي'. ولا يعني هذا أن مثل هذه التصرفات ستحمي هذه الأنظمة من الانهيار الحتمي، ولكنها ربما ساعدت في إطالة عمرها قليلاً، بحيث تكون وفاتها 'طبيعية' بالتآكل، وتعطيها فرصة لإصلاح نفسها. وقد كانت أمام هذه الأنظمة فرصة للإصلاح، أضاعتها كذلك. فلو أن حسني مبارك كان اتخذ قرار تعيين عمر سليمان نائباً قبل عامين، وطرح عندها التعديلات الدستورية التي اقترحها عشية رحيله، لكانت المعارضة هللت ورحبت وعدت هذا فتحاً مبيناً. وبالمثل لو كان بن علي عرض منذ سنوات توسيع الحريات قليلاً واقتصد في تزوير الانتخابات لكانت المعارضة هناك أيضاً قد فرحت بذلك. ولو أن سيف الإسلام القذافي عرض ما عرضه أمس الأول من 'إصلاحات' قبل عام واحد من الآن لكان سجل اسمه في عداد المصلحين وجنب أباه الثورة التي أطاحت بالنظام حكماً.
ولعل العبرة من هذه التجارب لحكام السودان وغيرهم من المتثاقلين عن الإصلاح، هي أن المبادرة بالخير والإصلاح قبل فوات الأوان، والتخلي عن وهم أن القدرات الإجرامية لأجهزتهم الأمنية والسياسية والإعلامية هي خط الدفاع الأول عن النظام، في حين أنها قد تكون المقتل. فممارسات أجهزة الأمن قد توجه الضربة القاضية للنظام، ويكون ضررها أكبر من ضرر المعارضة، أما أجهزة الإعلام وأبواق الدعاية فإنها قد تضلل الحاكم من حيث يتوهم أنها تخدع المواطنين. والمواطنون لا يحتاجون لـ'الجزيرة' أو الانترنت حتى يدركوا أن جل ما تفيض به الأجهزة الإعلامية الرسمية هو محض هراء. أما الأجهزة السياسية الحزبية وغيرها من أدوات التهريج والغوغائية، فإنها قد تكون في معظم الأحيان عائقاً أمام الإصلاح، لا معيناً عليه. ففي الغالب تقوم على رأس هذه المؤسسات جماعات تزايد على الحاكم وتزين له باطله، وتتبنى المواقف المتشددة، ثم تتبخر عند أول اختبار. وشأنها في ذلك شأن منافقي المدينة الذين قالوا لإخوانهم الكفار لإن أخرجتم لنخرجن معكم، ولئن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون.
بالنسبة للوضع في السودان فإن الحكم هناك عانى من تجاوزات أجهزة أمنه التي ورطته في محنة بعد أخرى، ليس آخرها أزمة دارفور التي تعهد البعض بإنهاء التمرد فيها في أسبوع واحد، وها هي دارفور بعد سبع سنوات من تلك الفرية تواجه مشاكل أكبر من تلك التي كانت فيها عند اندلاع التمرد. وقد ظل النظام كذلك يضيع الفرصة بعد الفرصة للخروج من ورطته السياسية، حيث أتيحت فرصة مع اتفاق الخرطوم للسلام عام 1997، ثم بعد اتفاق جيبوتي مع الصادق المهدي عام 1999، ثم مع اتفاقية السلام عام 2005، فاتفاقية القاهرة مع التجمع الوطني الديمقراطي، واتفاقية دارفور عام 2006، وأخيراً مع انتخابات عام 2010 التي لو تمت إدارتها بحكمة لكانت البلاد شهدت الانتقال السلس للديمقراطية بدون الحاجة إلى مفاوضات أو مماحكات. ولكن تلك الفرصة ضيعت أيضاً. في هذه الأيام نسمع من أهل الحكم مرة لغة حسني مبارك الذي قال لرسول أوباما الذي جاء يمحضه النصح بضرورة الرحيل بما تيسر من الكرامة بأنه منتخب من الشعب ولن يتزحزح من مكانه تحت أي ضغوط خارجية أو داخلية، ثم كان ما كان. وفي مرة أخرى يتحدث النظام بلغة سيف الإسلام القذافي حين يهدد بإغراق البلاد في الدماء إذا نهض الشعب لتحديه، وينسى أن ترداد هذه التهديدات الجوفاء قد يصبح مصداقاً لاتهامات المحكمة الجنائية الدولية في حق النظام ومسؤوليه.
مهما يكن فإن أي نظام يعتقد أن بقاءه يعتمد على ما بيده من قوة مادية بديلاً عن شرعية الرضا الشعبي هو نظام ساقط حكماً، ومن الحكمة للقائمين عليه تخير مراقدهم في المقابر أو ملاجئهم في المنافي بدون تأخير. ولكن العاقل من يسارع بتبني الإصلاحات الحقيقية والفاعلة التي يرتضيها الشعب. ويبدأ الإصلاح بالاعتراف بالخطأ. فما يسمى بالحزب الحاكم في السودان عجز رغم احتكاره الحكم والمال والفضاء الإعلامي خلال عقدين من الزمان عن أن يكتسب شعبية تؤهله للحكم برضا الشعب، مما اضطره لاستخدام أساليب ملتوية للبقاء في الحكم. ولعل فرصته الأخيرة في تحقيق شيء من الشعبية، أو على الأقل تقليل الكراهية له بين الناس، هي أن يسارع إلى تبني الانفتاح والإصلاح، كما فعل الرئيس الراحل السادات في مصر في أول عهده، ثم حسنى مبارك، قبل أن يرتد كل منهما على عقبيه فينال بئس المصير.
وسنقدم في مقالة قادمة إن شاء الله شكل الإصلاحات التي نراها قد تفي بالغرض، عسى ولعل، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن