(نزلتُ) ضيفاً على مباحث أمن الدولة ثلاث مرات؛ إثنتان منهما بمقرها ذائع الصيت، بشارع الفراعنة، بالإسكندرية؛ أما المرة الثالثة فكان المضيفُ فيها هو جهاز أمن الدولة بمدينة (مصراتة) الليبية، في فبراير 1981. وقد لا تساوي تجربتي شيئاً، مقارنة بأهوال شهدها آخرون، غير أنني أقصد بالحديث عنها الدعوة إلى تبادل الإتناس بهذه التجارب المريرة، لتخليق مناخ عام يرفض عودة هذا الجهاز كأداة لقهر الإنسان، إن أريد له أن يرجع ليعمل، بحق، في حماية أمن الوطن. تمت أولُ استضافة بالعام 1978، وكنت أستعد للزواج، وسلمني الاستدعاءَ مندوبٌ قابلني في محل عملي، بالمعهد القومي لعلوم البحار والمصايد، بالأنفوشي، فحمدت الله أنه لم يأت إلى البيت، فقد كانت أمي مريضة، وربما أثر فيها هذا الحدثُ شديدُ الوقع على عامة الناس. وذهبت في الموعد المحدد، حيث أوصلني فردٌ من مكتب الاستقبال – حيث أخذوا مني ساعتي وحقيبتي وحافظة نقودي - إلى مكتبٍ في طابق علوي، يغمرُه ضوءُ الشمس النافذُ إليه من باب شرفة، وتتوزع في أركانه نباتات ظل عديدة. طلب مني المرافق أن أجلس وأنتظر، ومضى.
جلست، محاولاً أن أنشغل عن مخاوفي بتفحص المكان، فلم أفلح في التوقف عند شيئ بعينه، كأن الأشياء في الحجرة مرتبة بحيث تنزلق من عليها العينان، ليعود الضيف إلى فوضى الأصوات المدمدمة بداخله، وإلى تساؤلاته التي لا إجابة لها. وكانت الأفكار تتداعى في ذهني، تفقد بمرور الوقت ترابطها، مخلفة شعورا مبهماً، هو خليط من القلق والتوجس. وحاولت أن أتماسك، مقنعاَ ذاتي بأن ما يحدث لي مقصود، حتى أنهارُ داخلياً، وأصبح مُهيأً تماماً للاستجابة على النحو المطلوب؛ غير أن إدراكي لذلك لم ينفعني كثيراً، إذ توارى مع مرور الوقت الذي فقدتُ القدرة على تقديره، في غياب ساعة يدي، وعدم وجود ساعة حائط بالمكتب الذي يجثم فوقه صمتٌ ثقيلُ الوطأة؛ وتهيأ لي أنني أمضيتُ في جلستي دهراً طويلاً؛ واكتشفت أنني، منذ أجلسني المرافق بالمكتب لم أحاول، حتى، تعديل جلستي، فبقيت طول الوقت أضم ساقيَّ، وأضع كفيَّ تحت فخذيَّ، كما لو كنت مجبرا على ذلك؛ فسحبت الكفين، ولكني لم ألبث أن أعدتهما تحت الفخذين، وبدوتُ كما لو أنني أكبِّــلُ نفسي.
وكنت قد وصلت لحالة من الضجر والإعياء حين دخل إلى المكتب رجلٌ في حلة سوداء، اتخذ موقعه خلف المكتب، غير ملتفت لوجودي. رفع سماعة الهاتف ونطق بكلمتين؛ ثم فتح ملفاً أمامه قلَّب أوراقه لدقائق قليلة؛ وأخيراً رفع رأسه وبدأ كلامه معي كأنه يستأنف حديثا كان يدور بيننا. وبالطبع، فإنني لا أتذكر الآن من الحوار إلاَّ سؤاله لي عن علاقتي بفؤاد حجازي، وهل عرض عليَّ الانضمام للحزب الشيوعي؛ وطلب مني أن أفسر حماستي لتوزيع بعض كتبه في المعهد، وعلى رواد ندوة الإثنين القصصية بقصر ثقافة الحرية (مركز الإسكندرية للإبداع حالياً). وفوجئتُ به يقرأ عليَّ عناوين الكتب (الأسرى يقيمون المتاريس – سجناء لكل العصور – نافذة على بحر طناح .. إلخ)، وعدد النسخ التي وزعتها من كل كتاب؛ وكانت الإحصائية دقيقة على نحو يثير الدهشة، ويؤكد أن بالمعهد عميلاً وثيق الصلة بي.
دق مستجوبي جرسا على سطح مكتبه، فجاء من يحمل زجاجة مياه غازية، قدمها لي، فأخذتها وأسرعت أشرب منها. لانت ملامح الوجه الشمعي المحايدة، وربما يكون رسم ابتسامة صغيرة؛ وقال إنهم كانوا يعلمون أنني مواطن طيب، وقد استدعوني لحمايتي من الانزلاق في جيوب سرية، تعمل ضد الوطن. وسألني عما إذا كنت مستعداً للإبلاغ عن أي محاولة لتجنيدي في الحزب الشيوعي، من فؤاد حجازي أو غيره. وخرجت من مبنى الفراعنة الكئيب، وقد قررتُ أن أمحو تلك المقابلة من ذاكرتي، ونجحتُ في التخلص من التفاصيل، إلى أن جاءتني، في السنة السابقة لأحالتي للتقاعد، دعوة ثانية لزيارة المكان ذاته، لا بصفتي صديقا لشيوعي، وإنما – على النقيض – للشك في قيامي بتأسيس فرع لتنظيم القاعدة في معهد علوم البحار!
وتتلخصُ الحكاية في رسائل إلكترونية كنت أرسلها إلى مجموعة من الزملاء والأصدقاء، حول بعض الأحوال السيئة والتجاوزات الجارية في المعهد، وقد رأيت أن أضعها في صورة ساخرة، فجعلتها على لسان شخصية وهمية، هي (بن لادن البحري)، المتزعم لـ (تنظيم القاعدة في معهد علوم البحار). ولا يمكن لأي عاقل أن يستشف من ذلك غير جانب المزاح، فمن الصعب تصديق وجود هذه الشخصية وهذا التنظيم، بما يصدر عنهما من رسائل إليكترونية مثبت بها عنوان مرسلها، ولا يصعب على أجهزة التجسس المتطورة لدي عناصر أمن الدولة التوصل إلى رقم الهاتف الذي تمرر من خلاله هذه الرسائل في الإنترنت. كما أن محتوى الرسائل كان معروفا لكل العاملين بالمعهد، من سرقات علمية، إلى تزوير نتائج أبحاث، إلى تدليس في توزيع مكافآت المشروعات العلمية، إلى شبهات في التعاون العلمي مع الدولة الصهيونية، إلى زملاء أزواج يعدون الرسائل العلمية وأبحاث الترقية، من الألف للياء، لزوجاتهم، وغيرها من أوجه فساد تجسد ضياع البحث العلمي في أحد مراكزه الوطنية؛ ولم يكن لي فضل فيها سوى جهد التجميع والصياغة، والإرسال. ويبدو أن الشبكة العنكبوتية قد نشرت الرسائل في دائرة واسعة، أقلقت إدارة المعهد، وأجهزة الأمن، فاتفقا على إنذاري بـ (قرصة أذن)، كما أخبرني رئيس المعهد فيما بعد.
وكانت المقابلة الثانية مختلفة عن الأولى، إذ بدأت بانتظار طويل في قاعة استقبال عامة بالطابق الأرضي من مبنى الفراعنة الذي ذهب الآن إلى غياهب النسيان، مع عدد من المستدعين؛ ويبدو أن القاعة كانت قريبة جداً، على نحو مقصود، من قاعات أخرى، داخلية، تتصاعد منها أصوات صراخ وتأوهات ألم. وكانت مقابلتي مع أحد الضباط، لم يكن وجهه غريباً عليَّ، إذ كنت ألمحه بين الحضور في كثير من المؤتمرات العلمية والاجتماعات العامة بالمعهد؛ وقد علمت فيما بعد أنه المختص بالجامعة ومراكز البحث العلمي بالثغر. والحقيقة أنه كان متفهماُ، وابتسم حين قلت له إن توصيفي في الملف يقول بأنني متعاطف مع الشيوعية، فكيف أكون منتمياً للقاعدة. ووعدني بلقاء آخر حين قلت له إن ما ورد بالرسائل الإلكترونية هو جزء يسير من أحوال سيئة عديدة تسيئ إلى صورة مركز للبحث العلمي في بلادنا، وتحول دون أدائه للدور المطلوب منه في خدمة خطط التنمية. وقلت له أن اللجوء إلى هذا الأسلوب في مواجهة المفاسد لم يكن إلا رد فعل لغياب الحوار، ولانعدام من يسمع، أصلاً. وقد رجعت إلى تلك الرسائل فيما بعد، وصغت منها نصاً سردياً، من صنف أسميه (المقصة)، لجمعه بين طبيعة المقال وأسلوب القصة، أعطيته عنوانا هو أحد عناوين روايات نجيب محفوظ القصيرة : التنظيم السري؛ ونشرته، منذ سنة تقريباً، في مجلة (الكلمة) الإلكترونية، التي يصدرها ويرأس تحريرها الدكتور صبري حافظ؛ كما أختتم به مجموعتى القصصية الجديدة (كأنني هو .. كأنه أنا).
كما سجلت التجربة الثالثة في ضيافة أجهزة أمن الدولة، في قصة عنوانها (ظلام)، تضمها مجموعتي القصصية (الأشرعة الرمادية)، الصادرة عن سلسلة "المواهب" بالعام 1987، وتحكي عن اصطدامي بالنظام البوليسي للحياة في الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى، خلال تعاقدي للعمل كمدرس للكيمياء، من أكتوبر 1980 إلى مايو 1981. وكنت على استعداد تام لتقبل نموذج الثائر الذي جاء ليخلف عبد الناصر، حتى بعد أن لمست بنفسي التغلغل الأمني في ذلك المجتمع، الذي كانت تصوره أجهزته الدعائية على أنه أرض الأحلام لكل العرب، فقد اكتشفتُ – على سبيل المثال – أن بعض الزملاء من المدرسين كانوا يحملون، بالإضافة إلى وظائفهم الظاهرة، رتباً في سلك الشرطة، ورأيت بطاقات بعضهم الشرطية. وبدأ الاصطدام حين ذهبت، في وقت فراغ بين حصتين من اليوم الدراسي، إلى (منشأة) للملابس، أبحث عن معطف لابنتي الصغيرة؛ وفجأة، صرخت امرأة تونسية مدعية أن حافظة نقودها سُرقت منها؛ فأسرع العاملون بالمنشأة يغلقون الأبواب، لحين مجيئ الشرطة. فرضختُ مع بقية المحتجزين، إلى أن تقدم فردان إلى المسئول عن المنشأة، وتفاهما معه، فسمح لهما بالمغادرة. قررت أن أحذو حذوهما، لا لشيئ، إلا لأن موعد الحصة التالية كان قد أزف، فذهبت إلى المسئول، وطلبت منه أن يسمح لي بالمغادرة، مع استعدادي للخضوع للتفتيش؛ فلم يهتم – حتى – بالنظر إليَّ، واكتفي بنهري قائلاً : أسكت يا مصري !. كأنه يسبني !. قلت : لن أسكت، وحاولت أن أناقشه، فانتفض، وأشار إلى بعض مساعديه، فانقضَّ عليَّ اثنان، جذباني إلى الخارج، حيث كانت سيارة مفتوحة الباب بانتظاري، لأدخل إلى المقعد الخلفي بينهما، بينما جلس مدير المنشأة إلى جانب السائق؛ وتبادل الأربعة توجيه أقذع الشتائم لي، ولجميع أفراد أسرتي، ولأنور السادات، مع لكمات بالوجه، ولكزات في البطن والصدر، وقد شل التتابع السريع للأحداث تفكيري، ولم أكن بقادر على إبداء أي مقاومة إزاء هذا التفوق العددي البين.
وعند مبني حائل اللون، يلفه صمت كصمت القبور، أنزلوني، وأدخلوني عبر دهليز طويل، مشيعا بمزيد من الخبطات والركلات واللكمات والسباب، حيث ألقي بي في مكان تام الإظلام، لم أر فيه شيئا غير الظلام، ولم أسمع صوتاً بعد صوت ارتطام الباب. وبقيت واقفا زمنا طويلاً، حتى تعبت، فتهاويتُ جالساً على الأرض، غير عابئ بالمياه التي أحسست بها تحتي، ولا بالبرودة الشديدة تفترس لحمي عددا من الساعات، قضيتها تنهشُ الهواجسُ ذهني، أكاد أموت خوفاً من أن يكونوا مسوا زوجتى وابنتي بسوء. وانتهى ذلك الحفل الوحشي بإخراجي من الجُـبِّ المظلم، وكان النهار قد غاب منذ ساعات، وألقى بي إلى الطريق العام، حيث استجمعت قواي، متلهفاً للاطمئنان على بيتي. وفي الصباح، كان أول شيئ قمت به هو تقديم استقالتي، غير أن الإدارة التعليمية رجتني إرجاء إنهاء تعاقدي لحين انتهاء العام الدراسي، فصبرت حتى مايو، على مضض.