لاشك أن الكثيرين سيكتبون عن روايات محمد البساطي الكثيرة الجميلة في هذا الملف، لأن رواياته الثرية الشيقة تستهوي الكثيرين لتناولها والكتابة عنها. ولأنها تبوح للناقد ـ مهما كان منهجه أو توجهه ـ بالكثير. وقد سبق أن كتبت عن كثير من روايات صديقي العزيز محمد البساطي، ونهلت من منابعها الثرة. لكنني أحب هنا أن ألفت النظر إلى قصص هذا الفنان القصيرة، والتي توشك أن تكون جواهر ثمينة يعكف عليها القاص كما يعكف الصائغ على جواهره، يشبعها صقلا وتوشية. ليس فقط لأن البساطي بدأ حياته الأدبية وهو في مقتبل العمر بالفوز بالجائزة الذهبية للقصة القصيرة التي كان يقدمها «نادي القصة» وقتها حينما كان لهذا النادي مكانة مرموقة في المشهد الثقافي فقد كان رئيسه الدكتور طه حسين، وسكرتيره قوميسار الثقافة المصرية وقتها يوسف السباعي، وليس لأنه طلع على الحياة الأدبية أول ما طلع بمجموعته القصصية الجميلة (الكبار والصغار)، ولكن أيضا وأساسا لأن مهارات محمد البساطي السردية التي تبلورت في فن القصة القصيرة ـ وهو فن عصي ومراوغ ـ هي التي اكسبت رواياته فيما بعد مذاقها الفريد، وطاقتها الشعرية والإيحائية الكثيفة التي تجعل هذه الروايات نسيج وحدها في المتن الروائي العربي. ولأن عالم البساطي الأقصوصي فسيح لايقل ثراء عن عالمه الروائي، فإنني سأكتفي في هذه الدراسة بتناول مجموعتين من مجموعاته القصصية.
1 ـ منطق القص وأحابيله المراوغة
يوشك عنوان إحدى مجموعات محمد البساطي القصصية «ساعة مغرب» أن يكون عنوانا لمنهج محمد البساطي الفريد في كتابة القصة القصيرة والرواية معا. لأن «ساعة مغرب»، ولاحظ أنها ليست «ساعة المغرب» فالتعريف يحددها ويوهن تأثيرها، هي الساعة التي يتراجع فيها وهج النهار، وتهدأ ضجته. وتنحسر فيها مشاغل اليوم تاركة فسحة صغيرة للتأمل فيما جرى أثناء النهار قبل حلول الليل والخلود لراحة النوم، أو الميتة الصغرى كما يدعوها المتصوفة. فهي ساعة الأضواء الخافتة الشفيفة، واللحظات الرائقة التي تزحف عليها العتمة بالتدريج. وهي ساعة ذات علاقة بما قبلها من نهار، وبما بعدها من ليل بدون شك، ولكنها تتميز عنهما بهذا الضوء الخافت الذي تتناهشة الظلمات، وتزحف عليه بإصرار حثيث. فهي ساعة تحوّل بالدرجة الأولى، لأنها الساعة التي يدخل بعدها النهار في كنف الليل. وهذا التحول هو السمة الأساسية في منهج محمد البساطي في كتابة القصة القصيرة ـ وهو أكثر كتاب جيلنا إخلاصا لهذا الفن العصيّ الجميل ـ وإن كان اتجاه التحوّل عنده، عكس اتجاهه في ساعة الانتقال من النهار إلى الليل، هو التحول من البهامة والعتامة والظلمة إلى المعرفة وضوء اليقين المقلق وإرهاف الوعي. وهو تحوّل يحرص على التخفي والمخافتة، لأن طبيعة الكتابة السردية عند محمد البساطي تنأى عن الأصوات الزاعقة، والتعبيرات المباشرة، والأضواء الساطعة. ألم يعنون محمد البساطي إحدى مجموعاته بـ(ضوء ضعيف لا يكشف شيئا)؟
لكن هذا الضوء الخافت الذي يزعم أنه لا يكشف شيئا، يكشف الكثير لمن يعرف منطق إضاءته المراوغ، ويمسك بمفاتيح شفراته السردية المعقدة برغم بساطتها البادية والخادعة معا. فمنهج الكتابة السردية عنده يحرص على اقتناص تلك اللحظات الدالة في حياة الشخصية أو الموقف، وإلقاء أقل قدر من الضوء عليها، حتى تبين ملامح الشخصية، أو يتبلور منطق حركة الموقف. ولأن الكاتب يتعمد أن يكون ضوؤه شحيحا وكلماته بالغة التركيز، فإن قراءة نصوص محمد البساطي تتطلب قدرا كبيرا من التركيز واليقظة، لأن إغفال أقل الجزئيات، أو أبسط التفاصيل، سيؤدي عادة إلى إسقاط مناطق كاملة من التجربة التي يعبر عنها الكاتب، وتتغياها الكتابة.
ولهذا تتسم الكثير من قصص البساطي بالتركيز والتكثيف، فهي قصص بالغة القصر والكثافة والتركيز. لايزيد طول الواحدة منها عادة عن صفحتين أو ثلاثة؛ لكنه قصر خادع، أو هو القصر الناجم عن حذف كل ما لا لزوم له، وتقليص النص إلى ما هو ضروري بل حتمي، والنأى به عن التزيد والإطناب. فليس ثمة شيئ محذوف كان من الضروري إثباته، فالكاتب لا يبخس المواقف أو الشخصيات حقها، بل يغدق عليها من اهتمامه دون إسراف أو تقتير. فعماد القصة عنده هو هذا التوازن الحساس بين الحذف والإفضاء. وهو حذف لا يخل ببناء النص، وإنما يضع على كاهل القارئ عبء التلقي الخلاق، الذي يربط بين الجزئيات وينصت لعلاقاتها الداخلية، ويحدس مسار الحركة الباطنية التي لا تطفو على السطح إلا نادرا. فالمضمر في هذه الأقاصيص أضعاف المفصح عنه، لأن الكاتب ينأى فيها عن المباشرة والزعيق، ويحرص على التكتم أو ما يسميه الانجليز بالحد الأدني من التعبير underststement الذي تكتسب معه الكلمات أقصى ما في قدرتها على التعبير، وتلعب فيه المفارقة دورا رئيسيا في عملية الإفضاء.
لذلك تبدو عنده القصص القصيرة عادة ـ وفي كثير من مجموعاته القصصية المختلفة ـ وكأنها قصص لا يحدث فيها شيئ، ولكنك ما أن تتأملها قليلا، وتربط بين خيوطها حتى تدرك أنها عامرة بالأحداث، ومترعة بالرؤى والإيحاءات. فمنطق شبكة العلاقات التي تربط جزئيات كل قصة هو منطق هذه اللحظات «ساعة مغرب» التي يشف فيها الضوء، وتشف معه الكتابة عن نوع فريد من الشعر هو شعر القصة القصيرة في أكثر حالاتها تألقا وثراءا بالدلالات. فقصص هذه المجموعة حريصة على أن ينهض منطق الإبلاغ فيها على الإيماءات العابرة التي تتحول معها اللغة إلى شفرة خاصة مثقلة بدلالات غير دلالاتها القاموسية المألوفة. وعلى أن يكون لتجاور الجزئيات فيها منطق الجدل الخلاق، وليس مجرد التتابع السببي أو التراكم الآلي المألوف. وربما كان منطق التجاور الجدلي ذاك هو الذي يجعل بعض الأحداث تبدو للقارئ المتعجل وكأنها أحداث مباغتة، فاجأته دون أن يتوقعها أو تحدس بها المقدمات. فإن شعر القارئ بذلك فعليه أن يعيد قراءة القصة، أو يعيد تأمل تفاصيلها بهدوء، دون أن يدع أي من التفاصيل، مهما كانت متناهية الصغر، تفلت من مجال هذا التأمل. لأن الإحساس بالمفاجأة في هذه القصص دليل على أن القارئ قد «سرح» أثناء القراءة ففاتته إيماءة هنا، أو لفتة هناك، وفوّت ذلك عليه إدراك منطق العمل الداخلي كله.
صحيح أن قصص محمد البساطي من النوع الذي قال عنه أستاذنا يحى حقي في معرض تعريفه للقصة القصيرة الجيدة بأنها «قصة ذات مقدمات ضافية محذوفة». وأن محمد البساطي قد بلغ بالحذف في نصوصه منتهاه، حتى شفّت القصة واقتربت من تخوم الشعر. لكن متانة الكتابة وتماسك البناء الفني في القصة يمكنان القارئ برغم هذا الحذف، بل وبسببه أحيانا، من إدراك غنى النصوص الداخلي الفادح، ومن الدخول في شبكتها التحتية الشيقة، والاستسلام لاحتمالاتها التأويلية المتعددة. فهي ليست من القصص التي تمنحك كل ما لديها من القراءة الأولى، ولا تعود بك حاجة معها لقراءتها من جديد. ولكنها من النوع الذي يحتاج إلى قدر من المعاشرة، وتوثيق العلاقة بعالمها، والإنصات لهمس تفاصيلها، حتى تبوح لك بكل ما لديها من مذخور الرؤى والتجارب. عند ذلك يكتشف القارئ أن ثمة جملة هنا، أو كلمة هناك مرت عليه عفو الخاطر، ولكنها تكشفت مع الألفة والمعاشرة عن مفاتيح أساسية للعمل، أو عن جوانب جوهرية في التجربة. أو يكتشف أن القصة التي وصلته في القراءة الأولى ليست إلا الأحبولة التي يوقع الكاتب قارئه في إغوائها ليخفي في تضاعيفها القصة الأهم، والتي أوحت بها بعض الكلمات والإيماءات القليلة.
فقصص محمد البساطي، برغم قصرها وكثافتها، من القصص الجيدة التي تتعدد فيها مستويات السرد، وتتراكب فيها أكثر من قصة لتنهض من خلال جدل هذه المستويات وتراكب القصص التجربة الإنسانية الخصبة التي يريد الكاتب إدخالنا في شبكتها، كي نعيد على ضوئها رؤية حياتنا من جديد. لأن القصة عند محمد البساطي تنطوي عادة على أكثر من مستوى، حتى ولو بدت بعض هذه المستويات واهنة، لاتكاد تبين. يبدو فيها الحدث وكأنه عرضي، عادي، عابر، مألوف، أو كأنه ليس حدثا يستحق القص. ولذلك فإن بساطته أوعفويته المتناهية في بعض الأحيان تثير لدى القارئ تأويلا سرعان ما يكتشف بعد إكمال القراءة أنه ليس التأويل الصحيح، أو بالأحرى ليس التأويل الوحيد بأي حال من الأحوال. وأن ثمة قصصا أخرى تنبض تحت جلد هذا الحدث العادي، أومأت بها كلمة هنا، أو ملاحظة عابرة هناك، وأن لهذه القصص جميعها علاقة بالقصة الأولى بين تلك القصص المتواشجة، وأحيانا بالقصة الأولى في المجموعة القصصية، لأن انتقاءه لقصص مجموعاته يتسم هو الآخر بالرهافة والتواشج ـ التي منحت القارئ الانطباع الأول عن النص، أو المستوى الأول الذي تلقاه منه. تتضافر معه مرة، وتعارض حدوسه أخرى، ولكنها تدخل معه دائما في جدل خلاق يثري القراءة والتلقي معا. وبدون اكتشاف القارئ لتلك الشبكة المتداخلة من القصص المتراكبة في كل نص، وإدراكه لتراكب مستويات هذه القصص وتفاعلها، تظل قراءته لأي نص من نصوص محمد البساطي ناقصة، لا تشارف حدود بصيرته القصصية الثاقبة التي تنفذ إلى عمق الموقف وسر الشخصية.
فبالإضافة إلى هذه السمة المميزة لبنية القصة عنده، ثمة مجموعة أخرى من الرؤى والحدوس التي لاتنهض من أي قصة على حدة، وإنما من وعي الكاتب بوشائج العلاقات الداخلية بين القصص التي تضمها المجموعة. فلترتيب القصص عند محمد البساطي منطق يمنح المجموعة نوعا من التماسك الداخلي، أو يولد عبره الكاتب ذاكرة المجموعة الداخلية التي تسرى في الكتاب كله كما تسري الدماء داخل الجسد الواحد، فتمنحه حياته المتميزة، وتشارك في صياغة شخصيته. وقد شاهدت عن قرب قلق الكاتب وهو يرتب القصص، تروده في هذه العملية المعقدة حدوس قد لايفلح عادة في التعبير عنها، أو تبريرها. وقد قال أستاذنا يحى حقي ـ رحمه الله ـ مرة «إن القصة القصيرة مخلوق بروحين» تكتسب أولاهما حينما تنشر وحدها لأول مرة، وتكتسب ثانيتهما عند نشرها في مجموعة. ويعي البساطي أن المجموعة لاتكسب قصصها هذه الروح الثانية، ولا تتبلور شخصيتها المتميزة كمجموعة إلا عندما يكون لترتيب قصصها، ولتتابع الحالات والعوالم التي تعرضها هذه القصص منطق متماسك، حتى ولو كان مراوغا، ولايبوح بمنطقه من القراءة الأولى. فمحمد البساطي من أكثر كتاب جيله قدرة على ترتيب قصص مجموعاته بحساسية دالة. يبدو معها للوهلة الأولى وكأن القصص تتلاحق كيفما اتفق، ولكنك ما أن تتأمل منطق التجاور والتتابع الذي تتلاحق به القصص، حتى تكتشف أن هذه العفوية البادية تخفي في طواياها منطقا محكما، لا سبيل إلى فض مغاليقه إلا بتأمل المجموعة ككل.
فللمجموعة القصصية لديه وحدة تشبه وحدة العمل الفني الناضج، سواء أكان قصة أو رواية. وهي وحدة برغم أهميتها وتماسكها ليست وليدة التخطيط المحكم لكل مجموعة قبل كتابة قصصها، بقدر ما هي نتيجة طبيعية للحالة المزاجية أو الإبداعية التي تسيطر على الكاتب أثناء كتابة مجموعة من التجارب المتناغمة، أو الدخول في عدد من العوالم المتساوقة، ثم ترتيب هذه التجارب بعد اكتمالها بعناية وحساسية. فليست هذه الوحدة ناجمة عن التعمل أو التقصد الذي نجده لدى غيره من الكتاب، والذي ينفّر تعسفه القراء، ويسم العمل بقدر من التكرار واللجاجة، كما هي الحال في بعض أعمال إدوار الخراط القصصية. ولكنها تتسم بقدر كبير من التلقائية والعفوية التي قد لا تلحظها العين، فيضيع على القارئ بعض تأثيرها. خاصة وأن عادات القراءة المتقطعة لقصص أي مجموعة، والتعود على تلقي المجموعات القصصية باعتبار أن قصصها لا تجمعها إلا وحدة الكاتب، وربما وحدة المرحلة التي كتبت فيها من مسيرته الأدبية، تساعد على إغفال هذا الجانب في المجموعة وتجاوزه. وربما كانت هذه الوحدة هي التي دعت صديقنا الراحل عبدالحكيم قاسم إلى دعوة مجموعاته القصصية الأخيرة باسم «الديوان» أو «ديوان قصص» بعد أن ترسخ في أدبيات الشعر الحديث مفهوم محدد للديوان يميزه، عن المجموعة الشعرية، بوحدة العالم وتناغم جزئيات التجربة.
2 ـ «ساعة مغرب»: شعرية السرد وتعدد مقترباته
إذا بدأنا بعد هذه المقدمات في التعرف على عالم مجموعة محمد البساطي القصصية ـ وهي المجموعة الأولى بين المجموعتين اللتين اخترت تناولهما في هذه الدراسة ـ وعلى طبيعة شبكة العلاقات التي تربط قصصها، سنجد أنها تتكون من سبع عشرة قصة إحداها مكتوبة بضمير المخاطب هي «سفر» بينما توشك القصص الباقية أن تتوزع بالتساوي تقريبا بين الكتابة بضمير الغائب (تسع قصص) والرواية بضمير المتكلم (سبع قصص). لكن المثير في هذه القصص أن الرواية بضمير المتكلم فيها هي في أغلب حالاتها بضمير المتكلم الجمع، وكأن الصوت المسيطر عليها هو صوت «النحن» الجمعية، وليس صوت «الأنا» الفردية، باستثناء «مقعد في الحديقة»، و«أنت أيضا» وهما قصتان مرويتان بضمير المتكلم المفرد، الذي إذا ما تفحصناه سنجد أنه أوثق صلة بـ«النحن» الجمعية منه بـ«أنا» المتكلم الفردية. وحتى يوهن الكاتب من أثر «الأنا» الفردية، فإن المجموعة تورد كل قصة من القصتين المرويتين بضمير المتكلم المفرد بعد قصتين مرويتين بضمير المتكلم الجمع. حيث ترد «مقعد في الحديقة» عقب «ساعة مغرب» و«فخ»، بينما تجيئ «أنت أيضا» عقب «محابيس» و«انتظار». فإذا أضفنا إلى هذا كله أن القصص المروية بضمير المتكلم بالرغم من تجمعها في مجموعتين متعاقبتين من القصص، هي القصص أرقام 3-5، و9-12، فإنها تظل محصورة بين القصص المكتوبة بضير الغائب، والتي تبدأ بها المجموعة وتنتهي. ولهذه المرواحة في منظور القص دلالاتها التي تشير إلى أن الرؤية السائدة في المجموعة تستلهم الروح الجمعية العامة، وتصبو للتعبير عنها، أكثر مما تنزع إلى بلورة الصوت الفردي بالرغم من اهتمامها به.
وحتى نتعرف على طبيعة هذه الرؤية الجمعية، والتي لابد من صياغة قسماتها عبر حالات فردية، لأننا إزاء جنس أدبي يؤثر التعبير عن الحالات الفردية، ولا تتيح مساحته الوجيزة تقديم بانوراما جمعية شاملة إلا فيما ندر، علينا التريث عند قصص هذه المجموعة واحدة إثر الأخرى وتأمل عوالمها، ولغتها، وبنيتها السردية التي تساهم بدور ملحوظ في تخليق تجاربها وصياغة رؤاها. لأن للبنية السردية في النصوص الجيدة محتواها، ودوافع استراتيجياتها النصية. وليس هذا من قبيل التأكيد المكرور على التفاعل بين الشكل والمضمون في العمل الأدبي، وإنما من قبيل لفت نظر القارئ إلى أن للشكل نفسه محتواه، ودوافع توليده داخل النص، بمعنى أن ثمة دلالة فاعلة في العمل الأدبي لكل استراتيجية من استراتيجياته النصية، من اختيار منظور القص، إلى تحديد الصوت المسيطر عليه، إلى انتقاء لغته، إلى اختيار نوعية التتابع التي يتخلق عبره عالمه. وبدون الاهتمام بدلالات كل هذه العناصر، تظل القراءة ناقصة، مهما تعددت مستويات المعنى التي تستشفها القراءة منه.
وتبدأ المجموعة بأطول قصصها قاطبة وهي قصة «أبا الحاج» المروية بضمير الغائب. يسيطر فيها منظور الكاتب العليم بكل تفاصيل العالم القصصي على السرد، والذي يفرض بحضوره الخفي عليه قدرا من التوازن المطلوب في هذا النوع من القصص الذي يتعامل مع خلل توازن القوى داخل عالم النص. لأن سيطرة هذا المنظور هي التي تتيح للبنية السردية أن تمنح «البنت» الصغيرة الهضيمة القابعة في قاع السلم الاجتماعي صوتا مساويا لصوت «الحاج عبدربه» الذي يحتل أعلى درجاته. وكأن البنية السردية تعدّل من جور البنية الاجتماعية التي وضعت «الحاج عبدربه» على رأس السلم الطبقي للقرية، وتركت البنت في قاعه بلا معين. وتبدأ القصة بهذه الجملة الدالة «رأى الحاج عبدربه لدى عودته من العزبة أن يختصر الطريق» التي توشك أن تلخص القصة كلها. فاختصار الطريق بين الرغبة والفعل هو الذي هدم الحاجز الطبقي الصلب بين البنت القابعة في قاع السلم الاجتماعي والحاج عبدربه الذي يحتل قمته. وهو أيضا الذي هدم الحاجز الزمني بين عبدربه العجوز، وتلك البنت الشابة المترعة بالحياة، والمتفجرة بألقها الدفاق، بطريقة اكتسحت كل العراقيل. فقد كانت البنت المستحمة عارية في الماء، تغسل ملابسها في الترعة، وقد ظهرت له وهي تغني بصوت خافت وكأنها الجنية التي لافكاك من ندائها الآسر، أو كأنها جنيته هو وحده التي لابد له أن يلبي نداءها المغوي الذي لم تتفوه به أبدا، لأنه نداء الحياة الذي لا راد له.
فالنداء نابع من داخل الحاج عبدربه، قبل أن تنطلق به أغنية البنت التي تستحم في الترعة، وتغسل ملابسها فيها. لأننا نعرف، بعدما وقعت الواقعة، أن الحاج عبدربه قد أحيل كبغال البلدية إلى الاستيداع مبكرا، وحل أولاده الثلاثة وزوجات بناته الأربع مكانه، وهو لايزال على قيد الحياة. أو هو الذي أحال نفسه للتقاعد بلا مبرر، عندما بدأ «دون أن يقصد ينسل شيئا فشيئا من بينهم» حتى جاءت هذه البنت، فذكرته ـ دون ذنب منها أو جريرة ـ بأنه لايزال عامرا بالحياة. فانقض الحاج عبدربه، كالجوارح الكاسرة، على البنت بقوة الغريزة التي تريد أن تدفع عنه «ساعة مغربه» التي أتت بلا أوان. فلاتزال به نأمة، ولايزال به شبق عارم للحياة، لا يعبأ بعواقب المغامرة، ولا بما تعرضه له من أخطار. وتوشك القصة كلها، بعد مقطعها الأول البالغ الكثافة والتركيز، أن تكون رصدا لساعة الأفول، التي لم تنفع المغامرة في رد عواديها عنه، بل لقد سارعت من إيقاع زحفها الوئيد. لأنها ترصد هذا الأفول وقد وقع في قبضة حضور البنت/ الحياة الرازح، فازداد وعي الحاج عبدربه بمأساويته. ويطرح المقطع الذي يحدد جغرافيا بيت الحاج عبدربه، بعدما سقطت زوجته، ولم يعد باستطاعته الانفراد بها، عالم الحاج الواقع في قبضة «ساعة المغرب» الفاجعة تلك، في مقابل العالم الخارجي الواقع في أسر حضور البنت/ الحياة، والتي يخايله شبحها أينما حل.
فالقصة في بعد من أبعادها هي قصة التغير الذي انتاب القرية، وصعد ببعض رجالاتها الذين استجابوا للتغير، بينما تعسرت أمور الذين تمسكوا بتقاليد العالم القديم. ولكنها أيضا قصة الموت الذي يدفعه الحاج عبدربه عن نفسه بكل ما بقي لديه من قوة. فالحاج عبدربه من الذين سقطوا بين العالمين. فلاهو استجاب لمتغيرات العصر، كمن باع الأرض واشترى عربات النقل، و«جرى القرش في جيبه»، ولا هو استسلم لـ«ساعة المغرب» التي أدركته منذ أن سقطت أمرأته بالسلّم، وأصبحت رهينة فراشها، بنصف جسد ميت، يخيم وجوده الميت على جسده الحي بموت مماثل. وماذا عليه هو أن يفعل ولايزال في جسده بقية حياة، تطالب بحقها في عالم له تقاليد صارمة، إلا التخبط الذي تدور القصة عنه. فمنذ أن انتزع هذا الحق في لحظة توشك أن تكون مفصولة عن الزمن، وعن الأعراف الراسخة، وهذه اللحظة تطارده دون أن تطلب منه شيئا، أو تستأديه ثمنا. بل تظل فقط معلقة حول رقبته، تذكّره بوضعه الغريب ذاك، أوتطارده أينما توجه، وكأنها لعنة أغريقية لافكاك منها، ولايعرف لها ترياقا. فالعلاقة الغريبة بينه وبين البنت، منذ أن أخذها، دون ممانعة منها أو مقاومة، هي ـ في بعد من أبعاد النص ـ العلاقة بينه وبين الحياة التي يتشبث بها، بينما كل شيئ يدفعه إلى الموت الذي يستسلم له في نهاية المطاف.
ويستحق الحوار في هذه القصة وقفة قصيرة. لأنه من الحوارات القليلة في المجموعة المكتوبة بالعامية المصرية، بينما تجنح جل القصص الباقية إلى استخدام فصحى مبسطة في حواراتها. والواقع أن شعرية الحوار العامي لعبت دورا بارزا في خلق حالة الالتباس الشيقة التي ينطوي عليها الموقف. فما أجمل الحوار الذي يدور بينه وبين هذه البنت الصغيرة الملغزة كالحياة نفسها، بمنطقه الواضح الذي يستعصي على التفسير، وبعبثيته البادية التي تتخفى وراء هذا المنطق البسيط. فحينما يطردها بعد المواقعة «إبعدي يابت! إبعدي!» ترد عليه بسؤال استنكاري «أبعد فين يابا الحاج؟». ولما يسألها «بنت مين يا بت؟» تجيب «أيوه. عارفة. عايز تموتني». أو عندما يسألها «وعايزة أيه؟» تجيب بسؤال آخر «وحاعوز إيه؟»، أو «تكوني عايزة تجوزيني؟» فتجيب باستنكار دال « أجوزك؟ أجوزك إيه يابا الحاج». هذا الحوار، الذي لا يكشف الموقف بل يزيده إلغازا، هو أحد أدوات تعميق المتاهة التي وجد الحاج عبدربه نفسه فيها منذ البداية. وهو أحد المفاتيح الهامة لهذا النص القصصي الجميل. لأن طبيعة هذا الحوار الملغزة تؤكد استحالة التواصل الحقيقي بين الحاج وهذه الفتاة الغضة، بين الشيخوخة ومقتبل العمر، بين الموت والحياة، فالتواصل بينهما لايتحقق إلا من خلال اللغة العضوية وحدها ـ بالجنس والضرب والطراد والتوتر ـ ولا تستطيع اللغة المنطوقة أسره في كلماتها.
وتنتهي القصة بهذه النهاية الدائرية التي تعيد القارئ إلى لحظة البداية، وتؤكد من جديد تلك المسحة الحلمية الشفيفة التي تتسم بها القصة كلها. لتكشف لنا أن البداية التي كانت عامرة بالشبق والحياة، واقعة هي الأخرى في قبضة موت ما. فحينما دارت المواجهة بين الحاج والفتاة وهما وحدهما، تحت الشمس الحارقة، على الترعة، وسط الحقول، عربدت فيه الحياة، وأخذ يعيد النظر في حياته بهدوء يناسب شيخوخته، ويتعرف على ما سرى فيها من موات. لكن هذه الإعادة تتم فيما يبدو بعد فوات الأوان، فلا تنفع كل محاولاته، لا على صعيد طرد شبحها الملحاح، فقد أخذت البنت تتراءى له أينما ذهب، ولا على صعيد الاندماج من جديد في حياة القرية. أما في النهاية التي تدور في الغرفة المعتمة التي لايبدد ظلمتها غير ذبالة مصباح عتيق، وتتكاثر فيها أشباح الأبناء، فإن استعادة اللحظة المستحيلة تتحول فيها إلى شارة للموت، وإلى حلم بعيد عصي على التحقق. فالمواجهة بين مشهدي البداية والنهاية في هذه القصة، وبين مكانيهما المتناقضين بثنائيات: الاتساع ــــ الضيق
الماء ــــ الجفاف
الحقل ــــ الحجرة
الشمس ــــ الظلمة
الحياة ـــــ الموت
هي المواجهة بين ميلاد البداية وموت النهاية. لكن هذا الموت كان ثاويا هو الآخر في مشهد البداية، فليس ثمة مفاجئات في قصص محمد البساطي. وليس هذا نابعا من أن الموت هو الحقيقة الوحيدة المؤكدة منذ صرخة الميلاد. ولكن من أن صرخة الميلاد المرتجى في آخر العمر، في هذه القصة الجميلة، هي نفسها صرخة الموت التي لا راد لها.
فإذا انتقلنا إلى القصة الثانية «صبية»، وهي أيضا قصة مكتوبة بضمير الغائب، ومن منظور المؤلف الذي يومئ للقارئ بأننا بإزاء حياة حافلة تتابع دوراتها بلا كلل، سنجد أن ثمة خيطا غير مرئي يربط هذه القصة بالقصة السابقة. لأن هذه القصة توشك أن تقدم لنا ما جرى لبنت من بنات القرية، كتلك التي انتهكها الحاج عبدربه، وحاول التنصل من فعلته. وهناك أيضا أكثر من وشيجة تربطها بسابقتها. أولاها أن نفاق بطلتها الاجتماعي من نوع ذلك النفاق الذي مارسه الحاج عبدربه، وإن كان أقل منه خطرا، لأنها لاتؤذى بفعلتها إلا نفسها. وثانيتها أن قسوة الحياة في عالم محمد البساطي توهن الإنسان، وتفت في عضده، مهما كانت الشريحة الاجتماعية التي ينتمي إليها. وثالثتها، وأهمها جميعا، أن هذه البطلة التي تبيع جسدها، ولا تعرف سبيلا لدرء خطر الحمل الذي لا تنفع معه موانع الحمل، تعيش هي الأخرى «ساعة مغرب» زمنها القديم الذي كانت تستمتع فيه بزياراتها، وبانطلاء كذبتها على الجميع. فكلما تمادت الحياة معها، كلما انفضح أمرها تدريجيا، وألمت بها هزيمة من نوع تلك التي أودت بحياة الحاج عبدربه في القصة السابقة. لأن مسيرة الزمن الحثيثة تفعل فعلها ببطلة قصتنا، وقد استأدتها الحياة ثمنا فادحا يتجسد في عدد الصبية الذين يتكاثرون عاما بعد الآخر.
وتكاد هذه القصة في بعد من أبعادها أن تكون قصة العلاقة المعقدة بين المدينة والقرية. ولأنها علاقة لها طابع عام، لذلك كانت فضاءات هذه القصة الأثيرة هي الأمكنة العامة: محطة الأتوبيس، وحارات القرية وشوارعها، ودكان البقالة الكبير عند النهر، ومحطة القطار ـ وهي كلها أماكن القرية العامة التي تنهض بمهمة حلقات الوصل بين المدينة والقرية. وحتى عندما تكون البطلة في البيت، فإننا نراها فوق السطح تنشر الغسيل، وقد تحلق حولها أبناؤها، وكأنها تعرض على القرية غسيل المدينة فيها. أما المدينة فإنها غائبة عن المشهد، لأن الحياة التي تعيشها البنت فيها هي نقيض الحياة، أو هي الحياة بالنفي والتي أصبح تغييبها من أفق القصة شارة سلبيتها وسر جراحها الدفينة. وإن كانت هي التي تضع في أحشائها بذرة الحمل الجديد الذي تأتي به إلى القرية لتضعه فيها، ثم تتركه لأمها الكسيحة كي تتولى أمر تربيته. ولا نجد في مشهد القصة من حضور للمدينة إلا في تلك اللعب والهدايا التي تملأ بها الحقيبة وتجيئ، لتعود بها فارغة. وثمة جدل وتناظر دال بين العودة بالحقيبة الفارغة إلى المدينة، وبالمرأة التي تخففت من حملها، واستردت عافيتها بعد الوضع، واستعادت عودها الملفوف. تجيئ حقا للقرية بحقيبة مليئة، ولكن بجسد مرهق ينوء بحمله الذي لن ترعاه المدينة، وإن كانت هي السبب فيه. وكأن القرية تبعث للمدينة دائما بأزهى أبنائها، فتمضغهم آلة المدينة القاسية، وتعتصر ما بهم من حياة، ثم تلقي بهم وقد تحولوا إلى نفاية لاجدوى منها كي تتكفل بها القرية من جديد. أما المدينة، فإنها ترسل للقرية لعبها الفارغة واختراعاتها وهداياها التي قد تستثير حب الاستطلاع لفترة، وقد تدهش القرويين لحظة، ولكنها تمنحهم شيئا لا يدوم، ولا قيمة له. وتمضي الحياة في دورتها التي لا تعرف العدل أو الكلل. ويتبقى الصبية الذين بلغ عددهم أحد عشر في القرية، وتذهب هي إلى المدينة ولاتعود.
وكأنما بقي الصبية في القرية ليحكوا لنا، أو يحكي لنا نظراؤهم من فتية القرية بعض قصص تلك المجموعة الشيقة المروية بضمير المتكلم الجمع، والتي يسيطر عليها صوت «الفتية» في أكثر من قصة، وهم يجوسون بحذر في مناطق من الخبرات البشرية الجديدة. فالقصة التالية «ساعة مغرب» مروية بضمير المتكلم الجمع على لسان مجموعة من الفتية الذين اجتازوا عتبة المراهقة كابن بطلة قصة «صبية» الأكبر. يقيمون علاقة سرية بامرأة في ساعة مغرب مؤقتة، فقد جنت عليها الحياة، بقدر ما جنت على بطلة القصة السابقة. فزوج هذه المرأة قد مات في الحرب، وتركها في شرخ الشباب. ومن يسأل أي حرب؟ عندما تكون القصة قصة مصرية من قصص محمد البساطي التي تركت الحروب بصماتها على عالمه بوضوح. فهل مضى عقد واحد من الزمان لم يكتب فيه على مصر أن تخوض حربا جائرة، تخسر فيها عددا من أبنائها؟ وعمومية الحرب في القصة تجعل المرأة هي الأخرى ضحية من ضحاياها. تأتي ساعة المغرب، ولا تعير الفتية التفاتا، وتذهب إلى العشة، تنتظر من عليه الدور منهم كي تشبع به حاجة جسدها، وتشبعه معا، دون أن تتبادل معه كلمة واحدة. ثم تعود أدراجها إلى بيتها الذي يقع في ضواحي البلدة، ونصف الفدان الذي تزرعه خضارا. ويستمر الأمر على هذا المنوال لفترة، ثم تكف المرأة عن المجيئ في موعدها مع نزول العتمة. ويعرف الفتية أنها تزوجت، وعندما تمر عليهم مع زوجها وولداها، بعد زمن بدا وكأنها لم ترهم.
هذه القصة القصيرة البالغة الكثافة والتركيز تنطوي على تجربة إنسانية باذخة في غناها وثرائها بالدلالات. هي تجربة نضج من نوع غريب لا يناسب حداثة عهد أبطالها بالحياة، ولا طبيعة التجربة الحسية التي أتيحت لهم. فهي تجربة حسية بالمعنى العضوي الكامل للكلمة، لذلك كان الشجار، واللكمات، والخمش، والتمرغ في الطين، والاغتسال، والملابس المبللة شارات هذا الطقس العضوي الذي يرسي الفتية دعائمه، ويحافظون على أسراره دون اتفاق. تكشف لنا أحداثها عن التواصل الحميم بين الفتية في يفاعتهمK بالرغم من العراك والعنف الظاهري. كما أنها تكشف عن نوع من التواطؤ أو الاتفاق غير المعلن الذي يتجاوز كل صيغ الاتفاق العلني في صرامته. فقد اتفق الفتية على كتمان سر المرأة، دون أن تطلب منهم ذلك. ومن هنا كانت نهاية التجربة على النحو الذي انتهت عليه مترعة بالحزن والألم، بالنسبة للفتية الذين يروونها، ومؤذنة بتفكك أواصر هذا التواصل الحميم بينهم. لكن هذا الأمر لم يكن مباغتا بأي حال من الأحوال لمن يحسن قراءة قصص محمد البساطي. حيث تبدو أحداثها الشحيحة وكأنها مباغته، لم تمهد القارئ لمقدمها، ولم تمنحه فسحة كافية من الوقت ليهضم ما جرى، ولكنه ما أن يتأمل تفاصيلها حتى يكتشف أنها مهدت لكل شيئ.
وقد فعلت قصتنا ذلك حينما بدلت السرد فيها من ضمير المتكلم الجمع إلى ضمير المتكلم المفرد. وانتقت أحد الرواة ليحكي لنا ما يدور في «العشة». بادئا بـ «حين تكون ليلتي أغتسل في مياه القناة، وأزيل ما لصق بي من طين أثناء العراك، وأذهب للعشة» ومنتهيا بـ«في كل مرة أقول أنها ستلتفت قبل أن تخرج، وتراني ما أزال راقدا أريدها فتعود. غير أن كنت أسمع صوت الشبشب في قدميها يبتعد». ومع أن هذا التبديل لم يستغرق إلا فقرة واحدة، عاد بعدها السرد إلى ضمير المتكلم الجمع، واستعادت بها القصة منظورها الجمعي، إلا أنها كانت كافية للإرهاص بالنهاية القاسية. لأن هذه الفقرة التي تصف ما يدور بين المرأة وكل من يأتي عليه الدور، وبلغة حسية وعضوية واضحة، تشي بعرضية هذه العلاقة بالرغم من حميميتها. فهي علاقة عضوية صرفة، لا أثر فيها للعواطف، ولا يتبادل طرفاها أي كلمة، وكأنها طقس من طقوس تلبية حاجات الجسد. وهي علاقة نعرف من هذه الفقرة أن المرأة هي الطرف القوي فيها، وهي صاحبة الإرادة النافذة. فهي التي تقرر، وهي التي تسيطر، وهي التي تقود. ولذلك كان طبيعيا أن تظل أمنية الفتى دون جواب، أمنية مستحيلة، لأن الحياة بحركتها ومطالبها تنأى عن رومانسية الفتية وعاطفيتهم.
أما القصة التالية «فخ» فإنها مروية هي الأخرى بضمير المتكلم الجمع، ومن منظور مجموعة من «الصبية» لا «الفتية» هذه المرة. وتبدأ القصة بالزج بهم تحت السرير لمشاهدة أحد تجليات الخطيئة في أكثر صورها سفورا، وهي علاقة ضابط الدورية بمسدسه وخناجره (لاحظ انتقاء القصة للأدوات التي تغري الصبية ودلالاتها على الانتهاك) بأم أحد هؤلاء الصبية التي دفعها حظها العاثر ـ كبطلتي «صبية» و«ساعة مغرب» ـ إلى اقتراف إثم لا ذنب لها فيه. وقد جاء الصبية هذه المرة بدعوة من أبنها الذي لا يغامر مثلهم بصعود الشجر، أو الاستحمام في الترعة، وما حاجته إلى هذه المغامرات، وهو الذي يعيش كل يوم مأساة خيانة أمه لذكرى الأب، الذي كان موظفا بالمجلس البلدي ومات قبل الأوان. وبعد أن جاء بهم الولد إلى البيت، وزج بهم تحت السري في انتظار المشهد الموعود، أتى لهم بالطعام الذي أكلوا منه وأخذتهم بعد الأكل سنة من النوم، فأيقظهم حينما وصل العشيق، ليروا لنا، بضمير المتكلم الجمع، التجربة التي شاهدوها معه. وهي أقرب ما تكون إلى تجربة الاغتصاب منها إلى تجربة الجنس المحرم.
وتقدم لنا مشاهدتهم للتجربة عبء الاستباحة، وكأنما الصبية أنفسهم، ومنطق الحياة العادي هو الذي يستباح معها في هذا الفعل الأثيم. فلم يعد باستطاعة الصبية متابعة اللعبة التي بدأت بحب الاستطلاع، وانتهت بهم وقد تراجعوا إلى الحائط، مبتعدين في انزوائهم، وكأن الحائط يحول دونهم والهرب من أن يكونا شهودا على هذا الفعل المبهظ لبراءتهم وانطلاقاتهم. وتقيم القصة علاقة تضاد واضحة بين الإبن الذي حرمه الأب من اللعب مع أبناء القرية، وواصلت الأم حرمانه ذاك باعتبار أن هذه هي «رغبة المرحوم»، وبين الصبية بجرأتهم على مالايستطيع ممارسته، وعجزهم عن تحمل ما يحتمله كل ليلة من قهر كظيم. وهي علاقة تضاد تجعل ما يتعرض له الإبن أكثر عنفا من كل نشاطات الصبية، التي حرم من ممارستها. ولكن الإبن يريد أن يثبت للصبية بدعوته إياهم أنه لايقل عنهم خبرة بالحياة، ومعتركها القاسي. ومن هنا تتضاءل كل خبراتهم وتبهت أمام الخبرة الجديدة التي يتيحها لهم. خبرة مواجهة الألم إلى حد الخرس والانزواء قرب الحائط. وبذلك يكتسب «الفخ» في هذه القصة أكثر من دلالة. فهو فخ للصغار، بقدر ما هو فخ للمرأة، وحتى للضابط الذي يفضحه الفخ أيضا.
وهذه القصة، فضلا عن هذا كله، هي إحدى قصص العلاقة المعقدة بين القرية والمدينة، في عالم محمد البساطي. حيث كانت الأم تذهب للمدينة وفي يدها مظروفا أصفر، به أوراق تحاول بها الحصول على معاش لا تؤهلها له سنوات خدمة الزوج القليلة. وهي أصلا أمرأة تربت في المدينة، ولكن انتهى بها الأمر إلى الحياة في القرية بأفقها المسدود، وحاولت أن تخترق بلغة المدينة الحصار الذي ضربه عليها الموت في القرية: موت الزوج، وموت الحماية التي وفرها لها قبل وفاته، فقد عرفت أن الضابط هو الذي سيكتب المذكرة التي تتيح لها الحصول على معاش استثنائي، ولذلك فهي بمنحها نفسها له غصبا، تحاول أن تضمن أن تجيئ المذكرة التي سيكتبها في صالحها، وفي صالح ابنها اليتيم، الذي تريد أن تضمن له الحياة التي وفرها له المرحوم، دون أن تعرف أنها بفعلها ذلك تعمق من إحساسه باليتم والضياع، فقد جسدت بفعلها ذاك «ساعة مغرب» الإبن، ومغرب كل صيغ البراءة التي يسعى للاستمتاع بها. وهذا الإحساس بالضياع واليتم هو الذي تجسده القصص التالية، وأولاها هي «مقعد في الحديقة» التي تنتقل فيها السرد من الرواية بضمير المتكلم الجمع، إلى الرواية بضمير المتكلم المفرد. لكن هذا الضمير لايقدم لنا قصة الأنا في مواجتها للنحن، بقدر ما يقدم لنا تبدد الأنا وضياعها كشارة لتبدد النحن. وسأكتفي بهذا القدر من التحليل بالنسبة لتلك المجموعة، كي أنتقل إلى مجموعة تالية هي (الشرطي يلهو قليلا).
3 ـ الشرطي يلهو قليلا .. والسهل الممتنع!
يبلغ القص عند محمد البساطي في مجموعته (الشرطي يلهو قليلا) درجة عالية من الدقة والرهافة والعمق والشفافية. تذكرنا في كثير من الأحيان بدقة أستاذنا الكبير يحيى حقي وشفافيته وعمقه، وإن اختلف منهج القص فيها، وتميز العالم بسمة بساطية واضحة. وليس من قبيل التزيد استخدام هذه الصفة «بساطية» ليس من اسم البساطي وحده، ولكن من البساطة ورحابة البساط معا. لأن محمد البساطي استطاع أن يبلور لنفسه لغة متميزة، وعالما شديد التفرد والخصوصية. يتعرف عليه بسهولة من قرأ روايات محمد البساطي العديدة ومجموعاته القصصية الكثيرة، وخاصة في المرحلة الأخيرة من كتابته التي تتسم بالتركيز والتكثيف ونصاعة القصد، دون أن ينال هذا كله من بساطة السرد الظاهرة، إلى الحد الذي يمكن معه القول أننا هنا بإزاء ما يدعوه البلاغيون القدامى «بالسهل الممتنع». لأن هذه المجموعة القصصية الصغيرة شديدة الغنى والدسامة، ومترعة بالرؤى والدلالات. كل قصة من قصصها الأثنتي عشرة تكفي لأن يكتب عنها مقالا بأكمله، نتأمل فيه بنيتها المراوغة السلسة البسيطة والمعقدة في آن. لأن توازن السرد التجسيد والتلخيص، وبين المشهد والحدث، ودقة اختيار زواية القص والتحكم في منظوره، وما يمكن دعوته بدوافع المنظور، أي رواية القصة من زاوية تكشف لنا عن دوافع راويها، وعن أعماقه الدفينة بقدر ما تكشف عما يدور فيها من أحداث، وما يمور تحت جلد هذه الأحداث من رؤى وانفعالات، يحتاج في كل قصة من أقاصيص هذه المجموعة المرهفة إلى تأمل وتحليل وتمحيص. كما أن تراكب طبقات المعنى والدلالة في كل قصة يحتاج هو الآخر إلى أكثر من محاولة تأويلية. يتغير فيها التأويل بتبدل سياقه، وتباين دوافع كل قراءة من قراءاته.
ومن البداية نجد أن أقاصيص هذه المجموعة تنقسم إلى قسمين كبيرين: ينتمي أولهما إلى عالم القرية الشمالية الواقعة بالقرب من بحيرة المنزلة، والذي تدور فيه معظم أعمال محمد البساطي القصصية منها والروائية. بينما ينتمي ثانيهما إلى عالم المدينة، مدينة القاهرة على وجه التحديد، الذي تدور فيه بعض رواياته وعدد لابأس به من أقاصيصه. ويوشك كل من القسمين أن يقدم لنا قدرا من التكامل والتواصل بين مفرداته، أو يشكل نوعا من الحلقة القصصية التي تتراسل حلقاتها وتتحاور، لتبلور لنا عالما تغني فيه كل أقصوصة بقية الأقاصيص. وتضيف إلى دلالاتها دلالات جديدة لا تبدو للعين المتفحصة من الوهلة الأولى؛ ولكنها تتخلق من خلال علاقات التجاور والتحاور والتفاعل والتضاد. وإذا ما بدأنا بالقسم الأول، وهو القسم الذي تبدأ به المجموعة أقاصيصها الأولى «مناغاة» و«أحتجاج» و«فتاة القصر» و«المجرى» و«ثرثرة» و«طه حسين» وتنتهي بـ«الطرحة الأخيرة» سنجد أننا بإزاء حلقة قصصية متكاملة عن عالم القرية الأثير تتناجى فيها الأقاصيص وتتحاور بشكل فريد لا مثيل له إلا في مجموعة محمد البساطي الجملية (منحنى النهر). لكن هذه الأقاصيص السبع وهي تكتب عالم القرية لا يفوتها أن هذه القرية تقع في مجرة كونية أوسع، وفي بلد منكوب هو مصر العقدين الأخيرين العصيبين في نهاية القرن العشرين، حيث يعاني فيهما مسارها كله من التردي والتدهور والهوان. فالقصاص يختار عددا من اللحظات المقتطعة من مسارات الحياة في القرية، قادرة على أن تكتب تواريخ حافلة ومهمة. شهدها الكاتب، وأراد أن يدون شهادته عليها، في هذه الأعمال الرقيقة الحيية الجميلة، وأن يسجل فيها رأيه في كل ما يدور في هذا الواقع وهذا الزمن الردئ، دون أن يضع حصان السياسة قبل عربة الفن. وإنما يجعل الفن القصصي الجميل نبراسه وغاية سعيه الحثيث لبلورة موقف فكري وسياسي مشرف مما يدورفي هذا الواقع المتردي، ولكن بأسلوب فني مشرق وعذب وبسيط.
ولنبدأ بأولى قصص المجموعة «مناغاة» وهي قصة تبدو للوهلة الأولى وكأنما لا يحدث فيها شيء. لأنها تروي لنا بضمير الغائب الذي يتماهى مع ضمير المتكلم الجمع قصة مجموعة من فتيات القرية اللواتي يعملن في حقول الأرز وقد استيقظن مبكرات، ووقفن عند حافة النهر ينتظرن الجرار الذي يأتي ليأخذهن إلى الحقول اللواتي يعملن فيها. وبينما هن في انتظار هذه الجرار يسمعن مناغاة طفل في صندوق في النهر. ويرين الطفل ويسمعن مناغاته أكثر من مرة، وقد اختفى الصندوق تحت الكوبري، ومال مع حركة الطفل أكثر من مرة حتى خفن من حركته العفوية وهو يكركر بالضحك لهن، فقد يميل الصندوق ويغرق بالطفل في النهر. ولكن الصندوق يميل بحساب، ويجرين بمحاذاة الصندوق في النهر، ويمضي الصندوق بالطفل. «يتهادى مستقرا مع التيار، والطفل بداخله منحنيا يلعب في قدميه. ينظر إليهن عندما يتردد تصفيقهن وغناؤهن ويضحك. يخضن في المياه حتى تصل إلى ركبهن. كن قريبات منه. ولو سبحن قليلا لأمسكن به»(ص7). ولكنهن لا يسبحن نحوه، لأن صفارة الجرار تفاجئهن، والسائق على مقعده يلوح لهن، فينصرفن عن الطفل إلى عملهن.
والقصة في مستوى من مستويات المعنى لقطة شعرية للحظة حلمية بين اليقظة والنوم. تتم في هذا الوقت الذي يقع بين الفجر والصبح ويتلفع بالضباب والغموض. هي لحظة مناداة العمل واليقظة وطرح التصرفات العفوية جانبا. ولكنها في الوقت نفسه توشك أن تقدم لنا قصة النبي «موسى» معكوسة. فالطفل ملقى في النهر في صندوقه، لكن المصرية هذه المرة ليست امرأة فرعون التي تستجيب لغواية المناجاة، وتقع في الشرك الذي نصبته لها أم «موسى» اللئيمة، وإنما هن مجموعة من الفلاحات العاملات في حقول الأرز؛ اللواتي لوحتهن قسوة العمل، وشظف العيش الذي لا يسمح بترف إنقاذ طفل متروك، ودروس الصراع العربي الصهيوني. لذلك بقي الطفل في اليمّ في صندوقه. ألا يكفينا ما انتابنا من جراء انقاذ «موسى»؟ ليتنا تركناه في اليمّ في المرة الأولى، وبقي قومه عبيدا عند فرعون، ولم يحررهم لينهبوا أرضنا في نهاية المطاف، بعد أن تآمروا من قبل على نبينا. ولكن النسوة المصريات تعلمن بحدسهن الدرس، وتركنه هذه المرة في اليمّ برغم غواية المناغاة، وكأنهن يقلن للجميع: إن من الضرورة تجنب غواية هذه المناغاة التي لا تجلب لنا إلا الشر، والتي لانزال نعاني من شرورها حتى اليوم.
وتقدم لنا القصة التالية «احتجاج» واحدة من هؤلاء النسوة وهي تزود عن كرامتها المهيضة باسلوبها الخاص. وهي قصة تذكرني بقصة يحيى حقي العميقة التي تحمل نفس العنوان في مجموعته (أم العواجز). لأنها عن نفس الموضوع وهو إنسانية الخدم المهدرة، وكيف أن احتجاجهم على الإهانة وردهم لكرامتهم أمر بالغ المراوغة، يتم بطريقة غير مألوفة بسبب تعقيد الوضع وسطوة التراتبات الاجتماعية. وإذا كانت القصة تبدو للوهلة الأولى وكأنها قصة الصعود الحثيث لهذا الجد الكبير «سليم» من طبقة اجتماعية إلى أخرى، والتناقض الحاد بين هذه الطبقة الصاعدة التي ينتمى إليها الراوي، والطبقة التي تكافح للتشبث بالحد الأدنى من الوجود والكرامة. فقد اشترى الجد «مساحات واسعة من الأرض البور برخص التراب. أيام الانجليز والألمان. كان يقول أن الحرب لن تدوم. والأرض سيأتي يوم وتصلها المياه. هو وثلاثة من البلدة كانوا يشترون»(ص 10) ـ وسيكون هؤلاء هم الأربعة ملاك الأرض البور التي تحفر الترعة لتصل المياه إليها في القصة التالية. لكن القصة في مستوى آخر من مستويات الدلالة والتأويل هي قصة هؤلاء الفقراء الذين يشتغلون لدى أغنياء البلد خدما وهم صغار، ويستأجر كبارهم فدانه القديم بالمزارعة بعدما فتح الله عليه، وبنى لنفسه ولأسرته قصرا في الأرض الجديدة. وها هي الدار قد آلت للحفيد/ الراوي الذي يحافظ على شكليات العز القديم، ولكنه لايستطيع أن يمنع تيار التدهور الذي يتبدى في الحديث عن بيع الفدان القديم في الضفة الأخرى من النهر، وفي إغلاق المضيفة، ونقصان عدد المزارعين، وفي الحجرات التي خلت في البيت القديم، وفي بلوغ الحفيد الأربعين دون زواج يدر الأولاد، الذين يملأون الغرف الخالية.
صحيح أن الحفيد يقرأ الكتب التي اشتراها الجد، ولم يستطع لأميته قراءتها، ويستمتع بالترتيبات التي استحدثها، ويواصل الاستفادة من طقوس التراتب الاجتماعي، التي تدفع مزارعي الفدان القديم الفقراء، إلى إرسال خادم يومي منهم لشراء لوازم البيت، أو تلبية مطالب السادة، وقضاء مشاويرهم. ويتبدل هذا الخادم بين يوم وآخر، من عجوز مرة، إلى صبي غالبا، حتى كان يوم وجاءت فيه فتاة صغيرة في الخامسة عشرة من عمرها. ويتفرس الراوي في ملامح أنوثتها البازغة، فخذيها الملفوفين، وصدرها الناهد «أطيل النظر إليها مشدوها من الرغبة التي اجتاحتني»(ص17). ولا يستطيع الراوي السيطرة على هذه الرغبة التي اجتاحته فيسير «إليها. تدفع يدي عنها، تحاول أن تزحف بعيدا. أزيح الجلباب عن ساقيها وأميل فوقها. وجهها الصامت، ويداها تصدانني. تدفعني بقدميها وتفلت راكضة إلى الباب»(ص17) ولكنها لاتهرب من المواجهة، فقد انتصرت فيها وعاد السيد إلى الكنبة لاهثا. وتبقى لتكمل عملها اليومي، لكنها لاتعود أبدا، إذ يجيء بعدها العجوز، وكأنما ليسجل احتجاجهم الصامت على محاولة السيد المخفقة. لكن القصة ليست بأي حال من الأحوال قصة هذه المحاولة المخفقة من أحد سادة آخر الزمن للتعدي على كرامة الفقراء أو استباحة حرماتهم. ولكنها قصة التدهور الذي جعل السادة الجدد لايعرفون الأصول، ولا يحترمونها أو يحترمون أنفسهم بها، ولا يستحقون لذلك مكانتهم. لأن القصة تقيم تعارضا بين سلوك الجد وحكايا الجدة عن الزمن القديم، وكيف كانت كلمة الجد قانونا يحترم، وبين عبث الحفيد الخائر الذي يعد نموذجا جيدا لسادة زمن التردي والهوان.
أما «المجرى» فإنها تتحدث عن واقع يبدو الأن موغلا في القدم، وتسعى الأقصوصة لتسجيله قبل أن يتبدد كلية من الذاكرة. وهو الواقع الذي كانت فيه الكراكات تشق الترع والمصارف، وتؤسس بنية تحتية للزراعة المصرية، منذ أن بدأ محمد علي شق الترع والرياحات، وحتى شق الخديوي اسماعيل قناة السويس. وقد استمرت هذه الأشغال العمومية بإيقاع مختلف طوال النصف الأول من القرن الماضي. تعكس حركتها لا خطة طموحة لبناء دولة حديثة كما كان الحال مع محمد علي أو حفيده اسماعيل، وإنما علاقات القوى الإقطاعية التي كانت سائدة قبل الثورة المصرية عام 1952. حيث كان، لمن كانوا يدعون بأصحاب المصالح الحقيقية، دور مرموق في توجيه حركة هذه الأشغال العمومية، بالطريقة التي تخدم مصالحهم. لكن القصة ليست درسا في هذا التاريخ الذي تستثيره في ذاكرة المتلقي ـ أو شريحة محددة من المتلقين الذين يدركون هذا التاريخ. ويعرفون أنه قد ألهم الكثير من الأعمال الأدبية المصرية المرموقة من أقاصيص محمود البدوي الرقيقة الجميلة، وحتى رواية (الأرض) لعبدالرحمن الشرقاوي ـ ولكنها قصة عن حدث يوشك أن يكون كوميديا ساخرا، ولكنه مكتوب بحساسية شعرية متناهية، وهو وقع قدوم الكراكة وعمالها لحفر الترعة، التي كان الناس ينتظرون حفرها لأمد طويل. لأن القصة تبدأ: «جاءت الكراكة أخيرا لحفر الترعة، تسحب وراءها ثلاثين نفرا بخلاف الملاحظ الذي جلس جنب السائق. كان مخططا للمجرى أن يبدأ من النهر خارج البلدة، ويتخذ طريقه وسط مساحات مترامية من الأرض البور وينتهي إلى البحيرة»(ص25).
وهي بداية نعرف منها أن كثيرين كانوا ينتظرون حفر هذه الترعة. نعرفها من كلمة واحدة «أخيرا» دون تزيد أو ثرثرة. وتبدأ عملية الحفر، وتسجل لنا القصة تأثير وصول الكراكة وعمالها على القرية، وكيف أن جماعة العمال أخذت تتحرك رويدا خارج القرية مع امتداد الحفر لأكثر من كيلومتر ونصف. ثم تقوم الثورة، ويأتي رسولها بعد أيام برسالة لإيقاف الحفر، لأن الترعة لن تخدم غير الأرض البور التي يملكها أربعة أو خمسة أفراد»(ص27) وتغادر الكراكة وعمالها، ويترك المشروع ناقصا. ويبدأ المجرى الناقص في تهديد حياة الناس. «وبدأ الأهالي في إرسال الشكاوي، يستنجدون بالمديرية من المجرى الذي يهدد حياتهم، بعد أن أصبح مقلبا لقاذورات البلدة. ويفرغ فيه البعض مراحيضهم، ويؤي الثعالب والثعابين التي تزحف في الليل إلى البيوت»(ص27) وبعد أيام تجئ أنفار لردم الترعة، وما كاد يمر الشهر حتى انتهوا من ردم الجانب القريب من البيوت. وذات يوم يجيء ملاحظ الحفر وفريق الكراكة يحتج على ردم العمل الذي استغرق منهم «عام ونصف ونحن نحفره»(ص28). ويبدأ الشجار بين عمال الحفر وعمال الردم. وقد أصر عمال الحفر على تكملة حفرهم، بينما عمال الردم يواصلون ردم ما حفروه، وإن بوتيرة أبطأ. هذه هي أحداث هذه القصة التي توشك أن تكون استعارة قصصية شفيفة لما حدث في مصر في النصف الأخير من القرن الماضي. حفر وردم، ولانزال «محلك سر» بل للأسف نتقهقر إلى الخلف بوتائر متسارعة منذ عقد السبعينات وحتى الآن.
أما قصة «ثرثرة» فإنها تبدو للوهلة الأولى وكأنها بالفعل ثرثرة ليلية لا معنى لها، غير أن ذاكرة النص الداخلية تكشف بإشارتها السريعة الواثقة كضربة فرشاة رسام ماهر، حول ابتعاد الراوي «إلى الشط مبتعدا عن ضجة التليفيزيون» (ص13) عن أن الحدث يدور في زمن آخر بعيد عن زمن «المجرى»، زمن التليفزيون الكريه الذي قطع العلاقات بين البشر، ومكن المؤسسة المتربعة على مسيرة التردي من إحكام قبضتها على كل شيء حتى أنها قضت على كل خيال. وجعلت رغبة الرجل الغريب في الحديث عن القرية لابنها، وفي تنبيهه لما يدور فيها من تدهور يوشك أن يفضي إلى وقوع الكارثة نوعا من «الثرثرة» المغيظة لأن كل من ينبه الناس لمن هم فيه من ترد وهوان لا ينجح إلا في إثارة غيظهم. فافتراضات الرجل التي تشير للكوارث الكامنة في رحم هذا الواقع المتحلل «ياسيدي أفرض. عيال لعبت في الفلنكات والمسامير. والفلنكات أصلا خربت، والمسامير أكلها الصدأ»(ص32) لا تفلح في إيقاظ الراوي من دعة لحظة الهروب الهادئة من «ضجة التليفزيون» وضجة الواقع المترع بالتردي والخراب. بل تثير حفيظته وغضبه. ولذلك يشعر الرجل باليأس من الموقف كله «تغضب أو لا تغضب. تنظر إلى القضبان ولاترى غير القضبان. تنظر إلى النهر ولاترى غير المياه. كل واحد وما يراه» (ص33) ويتركه بعدما يأس من أن يضيء بصيرته، وأن يمكنه من أن يرى ما وراء القضبان التي سجن نفسه فيها في هذا الواقع الذي يريد فيه الهرب من ضجة التليفزيون ولكنه لا يدرك أن هذه الضجة قد استولت عليه واستلبته تماما. إذ يبدو أن الغريب قد أخطأ هو الآخر. لأن توقعه في إمكانية التواصل سرعان ما يخيب «الناس تبدو في الليل غيرها في النهار. فاهم قصدي؟ واحد هادئ، مستريح. تكلمه يرد عليك. في النهار عرقان. تعبان. لايطيق أن توقفه أو تكلمه كلمتين»(ص23) فهذا الرجل/ الراوي لم يتخلص بعد من إرهاق النهار، أو بالأحرى إرهاق الواقع الذي يطبق بخناقه على الجميع ويسجنهم في قضبانه المؤسفة.
ومع أنه لاتزال هناك ثلاث أقاصيص جميلة من عالم القرية لم يتناولها التحليل توشك أن تكون محورا مغايرا لهذا المحور الذي تناولناه وهو محور تجربة النضج والتقدم في العمر واكتشاف بدايات الرغبة الشبقية وأول تفتح لبوابات الحلم في «فتاة القصر»، ثم عذابات تجربة النضج والاختلاف وتقدم الزمن بالراوي وأقرانه معا في «طه حسين» وحتى الاستجابة لنداء الموت الصافي والمغوي في «الطرحة الأخيرة»، فإن مساحة هذا المقال تحتم علينا الانتقال إلى القسم المديني من الأقاصيص للكشف عن بعض كنوزه. والواقع أن ثمة خيطا ينتظم قصص المدينة يبدأ من تجربة التفتح على عالم الحب والعطر والخداع في «عطر خفيف» بينما الراوي في الثامنة من عمره تصحبه بنت الجيران إلى موعدها الغرامي، وتتستر وراءه، ثم تكافئة في النهاية بتلك الضمات الحسية التي يتحول فيها إلى بديل للحبيب، أو إلى حبيب تعويضي. ويستمر عبر تجارب تردي الواقع المصري في العقدين الأخيرين في «الشرطي يلهو قليلا» و«معرفة قديمة» ثم يصل بنا في نهاية المطاف إلى تجربة الموت والتشبث بالحياة في «صحوة» وأمسيتان». ولنبدأ بقصة العنوان التي يستلزم اختيار الكاتب لها عنوانا للمجموعة منا نوعا من الاهتمام الخاص بها. فالعنوان نفسه ينطوي على مفارقة دالة تكشف عنها بنية القصة التي تقيم مواجهة بين ما يدور فيها من أحداث، وما يستدعيه «الشرطي» من ذاكرته من أحداث مماثلة، ومغايرة معا عاشها مع اسرته هو الآخر عن سفح الهرم. لأننا نبدأ بهذا الشرطي المكلف بحراسة الهرم في ليلة صيف، وقد جاء إلى موقعه مصطحبا عشاءه «ملفوفا في ورقة جرنان. رغيفان وأربعة أقراص طعمية وقطعة جبن قديم، وبصل أخضر تتدلى عيدانه من اللفة. بيده الأخرى قلة ماء التقطها في طريقه من فوق عربة ترمس»(ص47) ومن هذه الإشارة العابرة إلى التقاط قلة الماء من فوق عربة الترمس، ندرك مدى استئساد الشرطي على صاحب عربة الترمس الفقير، وانتزاع بعض من رأسماله منه.
ويبدأ الشرطي نوبة حراسته بالبحث عن مكانه المألوف بين حجرين من حجارة الهرم، يضع فيه ما يحمله من عشاء «ويأخذ جولته المعتادة حول الهرم. سنوات وجولته لاتسفر عن شيء. ومن يسعى لإيذائه!(ص48). لكن الليلة غير كل تلك الليالي والسنوات. لأنه عندما انتبه من نعاسه رأى رجلا أجنبيا يصطحب امرأة «حين مرا من أمامه لمح وجهها. تقاطيعها مألوفة. مصرية، وربما عربية. ضحكتها أيضا. وانجليزيتها المتعثرة وهي تبحث عن الكلمات مثلما يفعل وهو يكلمهم»(ص48) ويظل الشرطي يتتبعهما بنظراته. فهو راوي القصة، ومن خلاله نتعرف على تفاصيل كل ما جرى بينهما منذ احتواها بين ذراعيه ويداه تنشهان مؤخرتها، ومنذ أن أخذا يشربان الخمر، وحتى عراها تماما وأخذ يمارس معها الجنس، ويراقب مؤخرة الرجل في حركتها الناعمة. وبدلا من أن يثور «الشرطي» الذي استأسد من قبل على بائع الترمس وانتزع واحدة من قلله، يفكر في طراوة الرمال وصلابتها، وفي أنه «لم يخطر لي أبدا، ولا امرأتي»(ص50) أن يمارسا الجنس لا على رمال الأهرام، ولا حتى على الحصيرة في حجرة نومهما التي يزحم الأطفال فيها السرير. و«يقعي على بعد خطوات. يحدق ساكنا إلى الهرم. همسهما. احتكاك جسديهما ويقف ساكنا على جانبي قدميه الداميتين مبللا بالعرق». والسؤال الذي لابد سيطرأ على بال القارئ عقب قراءته لهذه القصة هو: ماذا جرى لهذا الشرطي وهو يرى الأجنبي ينتهك حرمة الهرم، ويستبيح المصرية ولا يحرك ساكنا. صحيح أنها جاءت معه، وأنها تمارس الجنس برضاها، لكن الشرطي الذي يعشق الهرم الأكبر خاصة، ويتذكر كيف بناه المصريون القدماء مما قرأه بكتاب المطالعة، لم يثر ولم يحرك ساكنا وهو يرى الفحشاء ترتكب في حرمه، وضمن حدود دركه المسؤول عنه. لأن القصة في مستوى من مستويات التأويل هي قصة في مدى تغلغل الخنوع في الواقع المصري، والهوان أمام الأجنبي خاصة بعد عودة الاستعمار بوجهه القبيح وممارساته الأقبح.
أما قصة «معرفة قديمة» فهي قصة تكشف عن تمكن الكاتب من عملية الكتابة وقدرته على استخدام تجارب سماعية، وإيهام القارئ بأنها تجربة حقيقية عاشها الكاتب وخبر شخصياتها. فقد سمعت هذه القصة من راويتها الصديقة منى أنيس رئيسة القسم الثقافي بجريدة «الأهرام ويكلي» الأنجليزية. أو بالأحرى سمعتها تروي أخبارا متفرقة عن هذا العجوز الانجليزي الذي تجاوز الثمانين، ويعشق مصر، ويعيش على الكتابة الصحفية فيها، وكان هذا يتم أكثر من مرة في حضور محمد البساطي. لكن القصة التي كتبها محمد البساطي، وإن استخدمت قماشة هذه الخبرة السماعية، إلا أنها أحالتها إلى تجربة إنسانية عامة عن استحالة استعادة الماضي، أو استحالة الإمساك بالزمن وهو ينسرب من بين أصابع الأنسان. وكيف أن الإنسان كلما تقدم به العمر، وازدادت خبرته بالحياة كلما تشبث بعدد من اللحظات الإنسانية التي تجعل لحياته معنى. وكلما أصبح غير قادر عن التخلي عن هذا الماضي الجميل الذي يخايله دوما، بصورة تحول دونه والتأقلم مع الواقع الجديد. وفي القصة علاوة على ذلك المعنى الإنساني العام مستوى آخر من المعنى يتعلق بعملية التمسك بالماضي الاستعماري الانجليزي والوعي بإشكاليته معا. صحيح أن البطل «فرانك» يستنكف منادته بكلمة «خواجة» ويصر على استعادة لحظات التواصل القديمة مع صاحب المطعم، إلا أنه عندما ييأس من تحقيق هذا التواصل المفقود، يقرر السفر إلى الهند بحثا عن زمن قديم مضى هو الآخر كما مضى زمن هذا الانجليزي العجوز إلى غير رجعة. لأن الاستعمار الذي عاد إلى منطقتنا من جديد، وإن رجع بمساعدة انجليزية، إلا أنه ليس نفس استعمار «فرانك» القديم، ولكنه أشد منه قبحا وبشاعة.