المآسي الخفية في السجن كما يرويها حارسه

محمد البساطي في رواية «أسوار»

محمد برادة

في روايته الجديدة «أسوار» (دار أخبار اليوم القاهرة، دار الآداب بيروت 2008)، ينقل محمد البساطي عدسته وعُدته السمعية ولغته المكثفة، لينفذ إلى ما وراء الأسوار حيث يتجاور السجن مع المعتقل، ويتدثر اللاقانون بمظاهر الشرعية وطقوسها المُموّهة الحاجبة لانتهاك حرمة المواطنة.

تنبني الرواية على مجموعة من المحكيات يرويها ساردٌ هو ابن حارس سجن، خلفَ أباه بعد تقاعده، فورث وظيفته والشقة التي كانت عائلته تسكنها، وظل يتطلع إلى أن يعمل في المعتقل بدلاً من السجن، لأنه يضم معتقَلين سياسيين، سلوكهم خال من عنف السجناء المجرمين الذين يتعاطون الحشيش ويمارسون الشذوذ الجنسي ولا يبالون بالنظافة. لكن ما يحكيه السارد لا يقتصر على ما يعايشه داخل السجن، بل يمتدّ أيضاً إلى ما ينقله إليه صديقه شلبي الذي يعمل في المعتقل المفصول عن مبنى السجن ببوابة صغيرة وأسلاك لا تمنع الحراس من تبادل الزيارة وتداوُل الأخبار.

على هذا النحو، تأتي المحكيات في شكل قصص تنتظم وتلتحم من خلال السارد الذي يورد أيضاً مشاهد من حياته مع زوجته، كما يحكي عن إصابة والده بالخبل هو وحراس آخرون بعد إحالتهم على المعاش، ويصف تفقده لبرج الحَمام الذي بناه في سطح الشقة وشعور التآلُف الذي انتسج بينه وبين الحمام بعد أن تعود على التقاط الحبّ من راحة كفه... هو عالم مغلق في فضائه، إلا أن خلوة السارد مع الحمام فوق السطح، تفتح مجال الرؤية على التلال التي تبدو ممتدة على مرمى البصر، مثلما ينفتح السردُ على العالم الخارجي من خلال ما يكتبه المعتقلون في جريدة الحائط، أو من خلال الفضيحة التي استعان فيها الرائد المسؤول عن المعتقل بأحد السجناء، إذ كلفه بمهمة تأديب صحافيّ انتقد سياسة الحكومة، وأراد الرائد أن يتقرب للماسكين بالسلطة، فأخرج «أبو كف» وهيأ له سيارة تاكسي وبعثه ليضرب الصحافيَّ «من دون كسور أو عاهات»!

وفعلاً أنجز أبو كف المهمة، غير أنه اشتاق لزوجته فعرج على بيته في آخر الليل، ففوجئ بها نائمة مع عشيقها فقتله، لكن الزوجة هربتْ وعاد هو إلى السجن، وأنكر الرائد أن يكون أبو كف هو من قتل العشيق كما أكدتْ الزوجة...

تتوالى المحكيات عن السجناء وعلاقاتهم وصراعاتهم، وعن المعتقل والإهانات التي يتعرض لها مثقفون وأساتذة مناضلون أُلقيَ بهمْ وراء الأسوار من دون محاكمة، إلى أن تمكن السارد من استمالة «حضرة» الرائد (رشاه بقطعة حشيش)، فنقله من السجن إلى المعتقل وأصبح هو بدوره يجلد المعتقلين ويتحدث إليهم وهو مرتاح من وظيفته الجديدة.

تمضي الأيام ويبلغ الساردُ سن التقاعد هو وصديقه شلبي الذي بدأت تظهر عليه أماراتُ الخبل، فيلجأ هو إلى برج الحمام يستأنس به كل يوم قبل أن يأوي إلى فراشه: «أنام مبكراً وأصحو مع طلعة الفجر. شيء يوقظني. أستعيد اللحظات الأخيرة وأنا بين النوم واليقظة وما أكون رأيته في أحلامي. أكاد أكتشفه ثم يتوه مني بين رؤى تتزاحم» (ص 108).

أراد الحارس السارد الذي ورث الوظيفة عن أبيه، أن يقنع ابنه بالسير على الطريق نفسها، لكن الابن رفض بشدّة: «كبُر ابني. صار له شارب. لم يستمر في المدارس. تعلم القراءة والكتابة واكتفى. حاولتُ أن أصحبه للمعتقل يعلمونه هناك. كان حاسماً: - لن أدخله إلا سجيناً» (ص 90).

إن ما يميز شكل رواية «أسوار»، هو أنه يتنامى عبر فقرات طويلة وأخرى قصيرة، وكتابة شذرية تعتمد التوازي والسرد الأفقي، ما يؤول إلى نسج حلقات تبرز عالمَ ما وراء الأسوار بتنوّعه وتعدّد أصواته وإطلالاته على الخارج. ويحرص البساطي على أن يتعامل مع مختلف مكوّنات النص على قدم المساواة، لا فرق بين السجناء والمعتقلين والمسؤولين عن الإدارة والحرّاس، والحمام الذي يزور بُرج السارد بانتظام... تتتابع المحكيات لتصهر عناصر العالم الروائي الذي سرعان ما يبدو مستقلاً عما عداه.

وهو، فعلاً، عالم تحدّه أسوار تقيم مسافة بينه وبين المجتمع «العادي»، السويّ، لأن منْ يوجدون داخله ارتكبوا ما يستدعي معاقبة القانون لهم؛ إلا أن نزلاء فضاء الأسوار ليسوا كلهم مجرمين، لأن المعتقل يضمّ مناضلين وسياسيين جاهروا بالنقد وطالبوا بإصلاح المؤسسات، فلجأت الحكومة إلى اعتقالهم وزجتْ بهم في المعتقل من دون محاكمة. من هنا، يتخذ المعتقل صفة أخرى غير تلك التي يحددها القانون لمعاقبة من يهددون أمن المجتمع، فيغدو رمزاً لمنع مواطنين وأعين من ممارسة حقهم في إبداء الرأي والعمل على تطوير أحوال الناس وضمان حريتهم. يصبح المعتقل، من هذه الزاوية، معادلاً لممارسة إيديولوجية تنفذها السلطة السياسية ضد من ينتمون إلى المجتمع المدني، ويسعون إلى إصلاح الخلل السياسي المتمثل في نظام الرأي الواحد الملغي لتعددية الديموقراطية وأسسها الصراعية.

يبدو ما وراء الأسوار ذا وضع اعتباري ملتبس، باطنه غير ظاهره، لأن صفة المؤسسة الحامية للقانون تنتفي من خلال انتهاك مُمنْهج ومتستر لوظيفة السجن. ذلك أن المشرفين على المعتقل لا يكتفون بقمع المناضلين المحبوسين من دون محاكمة، بل يشاركون في تعذيبهم وتحقيرهم مستعملين سجناء الجنايات في ضربهم وامتهانهم. بل إن الرائد المشرف على المعتقل أمر المسجون «أبو كف» بأن يؤدب صحافياً، خارج الأسوار، تجرّأ على انتقاد سياسة الحكومة...

من ثمّ، لا تحيلنا رواية «أسوار» فقط على السجن في وصفه مؤسسة تحمي المجتمع من المجرمين ومنتهكي القانون، وإنما ترسم ملامح للأجهزة السرية التي تسهر على تنفيذ خطط الاختيار الإديولوجي العام للدولة والمتمثل، هنا، في قمع الأصوات الرافضة وكتم أنفاس المدافعين عن الديموقراطية. لذلك أعتقد أن قراءة «أسوار» لا تكتمل إذا اقتصرنا على الخطاب المتداول بين شخصياتها والذي يضطلع بتتميم ملامح وتضاريس الفئات والأفراد الذين يؤثثون محكيات الرواية. هناك ضرورة ربط ما وراء الأسوار بالفضاء الخارجي، أي استحضار التوازنات التي يقيمها الحاكمون للحفاظ على استمرارهم داخل المجتمع المصري في «ظلّ الدولة البوليسية وأجهزتها القمعية» كما كتب ذلك معتقلو الرأي في جريدتهم الحائطية.

وفتح الأسوار على الخارج هو ما يبرز مصدر الاختلال، حيث تبدو صورة المجتمع منقسمة إلى أقلية تمسك بزمام السلطة والثروة، وأكثرية مبعدة عن تدبير شؤون المجتمع ومعرّضة للرقابة والزجر والعقاب والقوْلبة داخل معايير سائدة.

ويمكن أن نستحضر روايات سابقة للبساطي تحيل على هذه الخلفية «الاختلالية» للمجتمع المصري التي يكتب نصوصه لانتقادها أو الحلم بتقويمها، على غرار ما نجد في روايته «الخالدية» (2004) ، حيث تخيل الكاتب بلدةً ذات بنية اجتماعية ثنائية تشطر السكان إلى فئتيْن: الذين يملكون السلطة والمال، والذين لا يملكونهما، وجعل من المأمور أداة لإصلاح الخلل المتمثل في وجود «البر القديم» الذي يسكنه الفلاحون المعدمون، والبر الجديد الذي يسكنه أصحاب الثروات والنفوذ وتسهر الشرطة وأجهزة الدولة على حمايته من غضب أهالي البر القديم... ونجد في «أسوار»، أن من كان سالم في «الخالدية» يشخصهم على مستوى الرمز، هم من يتعرضون للتعذيب والامتهان؛ لكنهم على رغم القمع يعبرون عن انتقاداتهم من خلال جريدة الحائط التي تسمح بها إدارةُ السجن لأنها تريد أن تتعرف الى أفكار المعتقلين وأفكار رفاقهم خارج الأسوار. ومع أنهم يدركون أسباب السماح لهم بالجريدة، فإنهم استمروا في كتابتها لأن الكلمات المعبرة عن الحقيقة لا بد أن تجد صدى في نفوس الآخرين ابتداء من حراس المعتقل ونزلاء السجن.

إلا أن ما يميز هذه الرواية عن روايات سابقة للبساطي، هو أن «أسوار» تركز منظار الرؤية على مؤسسة يفترض فيها أن تخدم مبادئ الدولة والمجتمع، بينما تستخدمها السلطة، هنا، كجهاز إيديولوجي يضطلع بالتخويف والقمع وفرض الطاعة على المواطنين الرافضين الظلم، التوّاقين إلى الإصلاح... وفضلاً عن ذلك، استطاع البساطي، من خلال لملمة التفاصيل وتأطير الفضاء ورسم تضاريس الشخصيات، أن يحافظ على الحضور البشري وتلقائية ردود الفعل عبر السلوك والحوار والأفعال المتناقضة حيث تتجاور قيمُ الخير والالتزام مع قيم الانتهاز والطغيان. وهذا يتجلى في إيلائه نفس الاهتمام لجميع العناصر المكوّنة لعالم الرواية، من دون تحيز سافر لاتجاه أو شخصية ومع الحرص على تنويع سجلات الخطاب والأصوات المتكلمة داخل النص. وتضطلع اللغة المقتصدة الدقيقة، بتحقيق تعبيرية تعتمد الإيحاء المُكثف والسخرية اللاذعة، والتقطيع المشهدي الدّال .

من هذا المنظور، تغدو «أسوار» رواية مستقلة بعالمها، حية بشخوصها وفضاءاتها، كأنها تحكي عن أجواء بعيدة من ما يعيشه المجتمع؛ لكن عندما ننتهي من قراءة الرواية، نحس أنها بمثابة إيقونة مُصغرة تتحولُ إلى أليغوريا تنضح بالإشارات التي تستحضر ما يحدث في عالم واقعي فتبدو مصر وكأنها إيقونة الأسوار المغلقة على السجناء والمعتقلين والحراس والضباط المشرفين على مؤسسة يدور فيها صراع غير متكافئ بين أقلية متنورة، متمردة، وأجهزة السلطة الحاشدة لآليات القمع والتعذيب... من هذا المنظور تكون «أسوار» بمثابة عالم مُصغر له شخوصه وفضاؤه ولغته الخاصة، وعبر مسالكه نستشفّ دلالات وإحالات على العالم الموسع الذي تتحدر منه عناصر التخييل الجامعة لمحكيات الرواية.

 

الحياة     - 20 أغسطس 2010