غوايات المعرفة والاكتشاف والحرمان

في رواية «جُوع» لمحمد البساطي

ممدوح فراج النابي

(1) مهاد:
لا يختلف اثنان على أن محمد البساطي يستمدُّ عالمه القصصي والروائي من واقعٍ مفرطٍ في القسوة يُمارِسُ قسوةً على أُناسٍ من الهامش (لهم لحم ودم)، بل أبلغ وصفٍ يُوصَّفون به، أنهم عالمُ المهمشين والمساتير. فإذا كان يحيي الطاهر عبد الله، تحدّث عن مساتير الصعيد ومهمّشيه، وسلّط عليهم الضوء في رائعته (الطوق والإسورة) وقصصه القصيرة(1)، فإن محمد البساطي لا يزال يوالي الاهتمام بهؤلاء المهمشين في إبداعه قاطبة (الروائي والقصصي(2))، ومن ثمّ صار العالم الروائي والقصصي تجسيدًا لعالم المساتير والمهمشين في الريف. رغم تداخل المدينة بعوالمها المختلفة في نصوصه الروائية (المدينة الأسطورية في رواية (الخالدية)، والمدينة الحُلم في (ليالٍ أخري) والمدينة بين بين في (دق الطبول)). هكذا طارد ابن القرية(3) الريفُ، وهو قاطن في المدينة، فكأنه لم ينسَ لحظةً أنه ابن الريف، حتى ولو عاش في المدينة، وتدّثر بغطائها، فالقرية تَلِحُّ عليه إلحاحًا يَنْدُرُ أنْ تجدَ له مثيلاً، ومع أن البساطي في معظم أعماله يَمْتَحُ من ذاكرةٍ أقلُّ ما توصف به أنها ذاكرةٌ حيةٌ، لم تفقدْ ولعها برصد التفاصيل الدقيقة، والتي تكون في الغالب تفاصيلَ منسيةٍ لا تهم حتى منْ يعيشون في القري أنفسهم. وفي مقابل هذا الإخلاص أولاً: لعمله الإبداعي، وثانيًا: ولاؤه لقريته، يُقدِّمُ نموذجًا للقرية غير التي قُدِمَتْ في الرواية، باعتبارها حُلمًا رومانسيًا، يتغنّي تحت ظلال أشجارها الوارفة المحبون، ويهيم العاشقون على جداولها المنسرب الماء فيها، في دعة ورقة. وإنما انتهج هو وزميله - من جيل الستينيات - "عبد الحكيم قاسم"(4) ابن قرية البندرة بالغربية، تقديم الريف كما يحسُّوه لا كما يتخيّلوه

(2)

في روايته قبل الأخيرة (جُوع) 2007(5)، يستكمل البساطي مشروعه الإبداعي الذي بدأه في أعماله الروائية، منذ رواياته الأولى (التاجر والنقاش، وصخب البحيرة، وفردوس)، ويستمر فيه حتى الآن، حيث تصدر له- قريبًا - رواية عن نفس التيمة بعنوان (غُرفٌ للإيجار) وهو الاحتفاء بعالم المهمشين، والمقموعين، أيًّا كان القمع الواقع عليهم من سُلطة سياسية أو واقع اجتماعي مُفْرِط في القسوة، أو ظروف اقتصادية. فأشخاص البساطي يُمثِّلون لواقعٍ مُزْرٍ، وفي ذات الوقت لعالمٍ منسي، يُمارس عليه أشكالاً، من القهر والتعذيب من قبل أفرادٍ ينتمون إلى بني جلدتهم ليسوا غرباء عنهم بل منهم، وهنا تكمن قمة المأساة والضراوة. كما أن من السمات البارزة في إبداع البساطي برمته، أن لشخصياته امتدادًا في جميع أعماله، فـ" فردوس" تراها عبر تنويعات مختلفة في قصص المجموعة (نوافذ صغيرة، وروايته الجديدة غرف للإيجار)، وأبطال (جوع) يتوزعون –أيضًا- على أكثر من شخصية داخل المجموعة، وكذلك الأمر لشخصيات (أسوار)، نرى موازيًا لشخصياتها في نموذج القصة المؤطرة بها المجموعة ككل. فنصبح بذلك أمام عالم مأساوي، مستمر وممتد في ممارسة غواياته على هؤلاء المهمشين والمقموعين.

والسمة الثانية للبساطي، أنه يركز فى عمله على لحظة حاشدة ومؤثرة من حياة شخصياته، يدفع بها إلى السرد دون أن يأبه بأن هذه اللحظة لا تمثل إلا جزءًا من القصة، لا يمكنه أن يكشف الحدث. فتقع المفأجاة لدينا، فهو خبير يعى اللحظة ذات الوقع، والتي منها نرى الحدث الكل وليس الحدث الجزء، بمعنى أن ما يشغل البساطي ربما لا يخطر على بال قارئه، حيث يفاجأ بما يريد أن يُسلط عليه الضوء، وما هو أهم مما كان ينتظره بعد نهاية القصة.عالم عجيب وتنويعات لشخصيات تكاد تكون غير مألوفة، لا لغرابتها، بل لملاصقتها لنا دون أن نشعر بها فيأتي الجوهرجي؛ ليعيد تلميعها، فتلقى البريق بعد الانطفاء الذي لازمها وهي في ظلنا.

(3)

يقدم لنا البساطي، عالَمًا مليئًا بالمآسي، والحكايات الصغيرة ذات المغزي الكبير، فيقدم لنا في هذا النص مأساة لأسرة فقيرة فقرًا مزريًا/ مدقعًا، فالأب/ زغلول عاطل، لا يعمل إلا أيامًا بسيطة، يكفي بالكاد حاجيات الأسرة البسيطة من طعام وشراب، ولا يسدّ ما اقترضته الزوجة/ سكينة من الجيران أيام مكوث الأب خاليًا من الشعل، على أملٍ أنْ يعمل الزوج وتُعوِّضُ الجيران ما استلفته منهم (زيت، خبيز، سكر....إلخ) لكن تبقى الأسرة على أمل أن يأتي هذا اليوم الذي لا يأتي كثيرًا، وإذا أتي لا يكفي لسداد ما اقترضته، فتبقى في البيت حزينة مكسوفة، حتى تمنَّ الأيام على زوجها بعمل، فتفي ببعض ما استلفتْ.

 يعمل الزوج أعمالاً غير منتظمة، لا تدرُّ عليه مالاً يكفى الأسرة، فمعظم أعماله تعتمد أساسًا على قوة جسده الذي يحتمل أعمالاً يقوم بها رجال ثلاثة، ومع هذا فالسن يتقدم به، وعلى إثره عَجَزَ الجسد عما كان يقوم به سابقًا. وقد يعمل الزوج أعمالاً متقطعة (شيال، قهوجي، مبيض نحاس، أعمال بناء، سمكرة، خادمًا لأحد الأعيان، يعينه على ركوب دابته [كما في حالة الحاج عبد الرحيم الثري الذي عاد من الخارج، بمال كثير، وجسدٍ مترهل])، وفي بعض الأحيان يقوم بأعمالٍ تطوعية لا يأخذ عليها أجرًا، فمن عاداته أن يجلس في المعازى، وما أن ينتهي العزاء، ويقوم العمال بجمع الفرش والكراسي، يقوم متطوعًا بهمة – دون أن يطلب منه أحد ذلك - ويجمع الكراسي، ويحملِّها إلى العربة الكارو التي تنتظر، ومرة يحمل دولاب العروسة على ظهره بمفرده والعمال ينظرون إلى قوته وعندما تسأله زوجته عن النقود، يقول في رضا: "كله ثواب لله"، وقد يترك العمل رغم حاجته الشديدة لما يدره – حتى ولو كان قليلاً – من مال؛ لأنه يرفض الإهانة، وخاصة الشتيمة بالأم، التي يكرهها، ويرفض أن يقول له أحد. فنحن إزاء نمط من البشر رغم حاجتهم إلا أنهم يتعففون.

تبلغ قمة المأساة التي يجسدِّها النص، عندما ينهش الجوع بطون أفراد هذه الأسرة، فقد ظلوا يومًا ونصف اليوم دون أن يقرب الطعام أفواههم، وإزاء قرصة الجوع التي لا يشعر بها إلا منْ ذاقه، يتمردُ الابن على كسل أبيه وعدم عمله، فيذهب الابن/ زاهر إلى فرن المعلم عباس، فيعطيه الفرّان/ عم عبده العيش المكسَّر، ويملأ الابن حجره، حتى أنه لا يستطيع غلقه، ويعود مسرعًا إلى البيت؛ فيجدهم ما زالوا على قعدتهم فوق المصطبة، وبينما هو على حاله اللاهث من الجري، فتح أمامهم حجره بما يضمه من كسر العيش التي جمعها من أمام الفرن، فتقع المفاجأة على الجميع، فقابل الأب ما فعله بالرضا؟، أما الأم فأسرعت للداخل وأحضرت بصلتيْن، كانت تخفيهما ليوم يكون فيه طبيخ، كَسَرَهما الأب وتحلّقوا حول القفص، وأكلوا حتى الشبع... وما بقي علقته الأم في قفص، كان ينظر له زاهر ويشعر بالرضا والزهو.

وقد تحرص الزوجة على أن تعمل هي الأخرى؛ لتعين الزوج، فنراها تَرْقُبُ البيت الكبير أمام منزلها/ البيت ذي اللون الوردي، وتتمنى أن تدخله، أولا: لتكتشف ما فيه (فقد تاقها داخله من كثرة ما حًكى له عنه)، ثم لتعمل، وقد نجحت في أن تعمل بعد وفاة الزوجة، فتشغلها الفتاتان في أمور التنظيف والمسح والغسيل، وأيضًا الطبيخ ... بل عرضت عليها الفتاتان أن تأتي في المساء؛ لتكون بجوار الحاج الكبير/ عبد الوهاب بعد وفاة زوجته، لتؤنس وحدته، فهو يخشى أن يفاجئه الموت دون أن يشرب جرعة ماء أخيرة، وبعد إلحاح اقترحت الفتاتان أن تأتي بزوجها وابنيها، وتقبل رغم تأفف الزوج. وبالفعل استطاعت الأسرة في الأيام القليلة التي عملت فيها، أن تنعم بمعيشة أفضل ألف مرة مما كانوا يعيشونها، بل أن معدتهم الفارغة (والتي تطول أيام فراغها) اعتادت على أكل ما لم يسبق أن دخلها من قبل، من بقايا ما يؤكل داخل البيت (بط، فراخ، محاشي، وغيرها). هكذا تبسمت الدنيا لهم فعاشوا في ظل هذا الرجل، حتى يموت فتعود الأسرة لسابق مأساتها والتي اعتادت عليها. وقد تبسمت الدنيا لهم مرة سابقة يوم أن التحق الزوج بالعمل مع الحاج عبد الرحيم، لكن أيضًا لم تطل الابتسامة.

ومع سعي الزوجة للعمل وحاجة الزوج أيضًا له، إلا أنهما يتعففان عن أي شيء يجرح كبرياءهما، فالزوج طالما رفض العمل وآثر أن يبقى عاطلاً، مادام يتعرض للإهانة خاصة الشتيمة بالأم التي يرفضها. وبالمثل الزوجة ترفض أن تأخذ طعامًا (مع أنه زائد سوف يُلْقى كفضلات) ما لم تشعر أنها تعبتْ في مقابل حصولها عليه. فنحن أمام نموذجين لفئة من البشر مطحونة، ومع هذا ترفض أن تحصل على ما يسد جوعها دون حق. ويتوارث الابن الأكبر زاهر هذه الصفة، فعندما يعطيه صديقه عبد الله قرصًا من الطعمية، يرفض أن يأخذه رغم " جوعه الشديد "، فهو يمتثل هنا لقيم الأم التي غرستها فيه هو وأخوه رجب: بألا "يأخذا شيئًا من أحد" (الرواية : ص 104). وبعد أن يقنعه عبد الله بألا يخبر أحدًا عمن «يعطيه أرغفة العيش التي يُدِّلْي له بها بالسنارة، أو الأرغفة المحشية بأصابع الكرنب، أو الورقة الملفوفة بقونصة فرخة أو كبدة، أو رأس أرنب، أو جزء من الرقبة» يأخذ ما يعطيه، لكنه يحرص كل الحرص على ألا يأكل أمام عبد الله، يتحسسها في جيبه، وما أن يفترقا «حتى يخرج اللفة ويأكل ما بها» (الرواية : ص 107)، وقبل هذا يتذكر ماذا لو عرفت أمه، فهو يعلم أنها «ستسمعه الكثير من الكلام، ولا يجد ما يقوله» (الرواية : ص 106)؛ ولهذا يقرر ألا يخبرها.

لكن الشيء اللافت أن الزوجة/ سكينة، هي المتدبرة والمتصرفة، في شئون الأسرة، بل أن زمام الأمر بيدها؛ فالزوج أثناء عمله يُرْسلُ صبي القهوة، بالنقود، فتطبق يديها عليها، وتسرح طويلاً في المتطلبات والديون التي عليها. كما تدخر للزوج أيام جلوسه عاطلاً، عيشًا مقددًا تدسه له بجوار فراشه، وما أن يعود بعد تسكعه في المقاهي - والذي يطول - ينام على فرشته، وتسمع صوت أسنانه وهى تكسّر العيش الناشف، فلا يهون عليها، رغم حثها له بأن يسعى للعمل، بل وقد تحنُّ لجسده الذي فتّح مغاليق جسدها المغمض كما تعترف له في لحظات الصفاء والرضا، إلا أنها تكتم في داخلها. ويوم يتوفر المال لها، لا تنسى أن تشتري له جلبابين، وغيارين، وكذلك للولدين، كما اشترت له شبشبًا وهي المرة الثانية التي يلبس فيها شبشبًا «رغم أن المرة الأولى كانت يوم زواجه، وقد استلفه من واحد صاحبه»

ومع كل الظروف القهرية التي كبّلتْ الشخصيات (الزوج، الزوجة، الابن الأكبر/ زاهر) والمؤهلة لها لأن تنحرف وتسقط في الشَرَك اللإرادي «الانحطاط والسقوط الأخلاقييْن»، فالفقر وحده حسب إحصاءات مراكز البحوث مسئول بنسبة لا يستهان بها عن وقوع أفراده في الانحراف، بكافة مستوياته «سرقة، إجرام، رذيلة ... وغيرها» إلا أنها لم تقع أو تنزلق فيه، بل أخذت حيطة وحذرا، سما بها فوق الانحدار والسقوط الأخلاقي. فالمؤلف بانتهاجه مبدأ السلامة لشخصياته، والتي اتخذت مبدأ العفاف كسمة أصيلة في حياتها يقلل من تأثير الثالوث المهلك «الفقر، التخلف، غياب الدين»، لا لأنه يريد أن يضع أسبابًا بديلة فقط، بل ليقول أن مبدأ الخير والشر يتنازعان داخل الإنسان، وترجيح كفة أحدهما عن الأخر مبعثه افتقاد المرشد والموجه أولا وأخيرًا، وهذا ما لاحظناه في فعل توجيهات الأم لابنيها بألا يأخذا شيئًا من أحد. فالمؤلف احتكم إلى قيم الأم التي غرستها في ابنيها، وامتثل لها الابن الأكبر في علاقته بصديقه الغني عبد الله. والأم نفسها عندما تتاح لها فرصة العمل داخل البيت الذي تاقها اكتشاف ما بداخله، ما أن صرّحت لها الفتاتان بحاجة صاحب البيت لمن يؤنس وحدته، وينقذه من الموت إذا فاجأه وحيدًا، شعرت بالريبة واقشعرت، ولم تطمئن إلا بعدما أخبرتها بإمكانية إحضار الزوج والأبناء، وهذا ما حدث. حتى أن الفتاتين صرحتا لها بعدم رغبتهما في المبيت مع الرجل، رغم كونه عاجزًا، لأنهما لم تتزوجا بعد، وتخشيا كلام الناس، فقد احتكمت الفتاتان لقيم وعادات المجتمع اللتين يفرضان عليهما قانونًا عرفيًا، لا يحيد عنه أحد. كل هذا يبرر سمة العفاف التي ظهرت بها الشخصيات وعدم تطلعها إلى ما في يد غيرها، بعكس آخرين ورطوا شخصياتهم في وهدة الانحطاط والانحراف تحت مسمى الحاجة والعوز، هما اللتان فرضت عليهما التنصل عن قيمهما، واللوذ بقيم أخرى بديلة قادتهم للشرك والسقوط(6).

(4)

الفارق الذي يشعر به الأبناء أثناء وجودهم في بيت الحاج هاشم، وتَبدُّل نمط معيشتهم، فبعد أن كانا ينامان على فَرْشٍ من الحصير، صارا ينامان على فُرِش ٍ وثيرة، وبالمثل تناولهم «الأسرة جميعها» طعامًا لم تألفه بطونهم من قبل، كما تدرك الأم هذا الفارق، فمنذ لحظة ذهابهم عمدت إلى ارتدائهم ملابس نظيفة، وغسلت وجوههم ببروة صابونة كانت تحتفظ بها، وإصرارها على تبديل عاداتهم فتحرص على غسل أقدامهم قبل النوم، إلا أن الزوج هو الوحيد الذي كان يشعر بالامتعاض من هذا التغيُّر «وكأنه في قرارة ذاته يعلم أن ما هم عليه الآن طارئ، وسوف يعودون إلى سابق سيرتهم ما أن يموت الحاج وهو ما حدث بالفعل» فمنذ لحظة دخوله البيت يعترض على لهجة إحدى الفتاتين اللتين تعملان في البيت، ويعاتب زوجته قائلاً: «هي بتتكلم كده ليه من طرف مناخيرها» (الرواية ص 82). وزد على ذلك فإن هذا الفراش الوثير الذي صار ينام عليه «مع اختلافه عما كان ينام عليه من قبل» لا يشعر فيه بالراحة. وقد فسر هذا الشعور بعدم الراحة؛ لإحساسه بأنه في سجن(7)، وحركته مقيدة وكذلك تصرفاته.فالواحد على حد تعبيره [هناك] منزله على راحته، بعكس [هنا]. والعجيب أن الزوجة التي تشعر بحالة جوع لجسد زوجها، وقد بررت قناعتها برضاها من قبل لقلة عمل الزوج، وقلة الطعام، تشعر[هنا] بالغربة بينها وبين زوجها، وتقرر في جزم أنها «لا يمكن أن يأتي لها مزاج لعمل حاجة» (الرواية ص 84) فرغم تبدل المكان، وتحسن الظروف، إلا أن الرغبة الجنسية توءد في مهدها من كلا الطرفين: الزوجة التي لا يكون لها مزاجٌ لتقوم بالفعل، والزوج الذي يؤيد ما قالته الزوجة بقوله «واللي سامعك». وقد يكون تبرير الزوج منطقيًا، فهو يشعر بأنه محبوس وحركته محسوبة عليه، حتى أنه يمشي على أطراف أصابعه إذا عاد متأخرًا في المساء، كما يفتقد أشياءً كان يحبها ويفعلها، رغم كونه جائعًا، مثل المشي بالليل والتسكع على المقاهي، وهو ما كان يريحه على حد قوله. العجيب أن شعور زغلول بالغربة أخذ يتنامى داخله، فبعد يوم والثاني من إقامته داخل البيت قلّ كلامه «رغم أن هذا من طبيعته كما قالت زوجته»، وبدأت حالة من الزمجرة، والضيق والعبوس، تعتريه. وهو ما انعكس علي علاقته بابنيه، فبدا لا يطيق حركتهما أثناء النوم، وسرعان ما راح يزجرهما بعنف وغضب، يفسران ما أل إليه حاله.

*   *   *   *

كما أنّ الإحساس بالكرامة يبلغ ذروته لدى زاهر، فبعد أن توطدت علاقته بعبد الله، وصار يخرجان معًا، ويلعبان، ويصطادن السمك بسنارتيهما، كان والد عبد الله يسأله عن أصدقائه، فما أن عرف أن والد زاهر يجلس على المقاهي نَهَرَ ابنه، إلا أن العلاقة لم تتغير بينهما، وصار يتقابلان خفيةً، حتى حدثت الواقعة يوم أن ذهب زاهر إلى منزل عبد الله، و نادى عليه بالإشارة المتفق عليه (الصفير)، وظهر عبد الله على السطح ممسكًا بطائرة ورقية صنعها بنفسه، وبينما يتحدثان كان والد عبد الله يقترب بخطوات خفيفة من زاهر، فتأهب زاهر للانطلاق، لكن صوت والد عبد الله ألجمه في مكانه، فراح الأب يكيل الشتائم والتهديد لزاهر، وهو ممسك بجلبابه، كما أنه صفعه على وجهه، فما أن حاول زاهر التملص منه حتى انقطع الثوب من ناحية الكتف الممسك بها الأب. وما أن وجد الأب القطع حتى أمر بأن «يحضروا جلابية من هدوم الكلب اللي فوق» (الرواية ىص 111)، إشارة إلى ابنه، وما أنْ جاء الجلباب، رماه على كتف زاهر قائلاً: «خد بدل الخرقة اللي أنت لابسها»، لكن جاء تصرف زاهر رافضًا الثوب، بأن ألقاه على الأرض وجرى؛ ليؤكد قيم الاعتزاز بالنفس التي تربى عليه، فرغم فقره إلا أنه لم يكن منكسرًا ذليلاً، وهو نفس ما رأيناه مع نموذج الأب «تخليه عن العمل، إذا ما أساء أحد له وشتمه». أما التبرير المقبول لقبول زاهر الطعام من صديقه عبد الله رغم تحذير أمه له ولأخيه بألا يأخذا من أحد شيئًا، فهو أن ما كان يأخذه من صديقه لا يستطيع أن يذهب به إلى البيت لأنه لا يكفي لهم جميعًا، كما أن هذا الصديق لم يعايره مطلقًا بما كان يعطيه، بل أن زاهر كان يرد ما يأخذه في صور أخرى غير الطعام، فما أن يدخل عبد الله في خناقة بجسده النحيل عندما يعايره أصحابه بأبيه الذي يتعامل بالربا، كان زاهر بجسده القوي ينوب عنه في الدفاع. أو في صورة تعليمه لعبد الله السباحة التي كان لا يجيدها.

(5)

من الوهلة الأولى يبدو عنوان محمد البساطي(جُوع) يتناص مع عنوان رواية الكاتب النرويجي كنوت هامسون 1859-1952، والتي أصدرها عام 1890. بل أن جوهر الحكايتيْن يكاد يكون واحدًا، فكلتا الروايتيْن تُقدِّم واقعًا مزريًا اسمه الجوع، مع اختلاف الواقع عليه الجوع، سواء أكان يقع على الصحفي الشاب، كما في رواية هامسون، أو يقع على أسرة بأكملها كما في رواية البساطي. لكن الشيء الذي برع فيه البساطي – رغم جزمنا بأن البساطي لم يَطَلِّعْ على عمل هامسون – تجاوز دلالة الجوع الفعلي (الطعام والشراب) رغم تحققه في النص، بل أن النص في أساسه ينطلق منه ويعود إليه، إلى دلالات أكثر عمقًا ومغزى. فالبطل/ زغلول رغم جوعه وأسرته، وفشله في البحث عن عمل بدخله، يسد هذا الجوع، نراه يبحث عن سد جوعٍ أخر، يتمثل في جوعه المعرفي، وأسئلته الحائرة والمتعددة التي لا يجد لها إجابة. منذ أن عرف ذات ليلة جلسات الطلبة القادمين من جامعاتهم (حلوان – القاهرة – الإسكندرية) في الصيف، واستمع إلى أحاديثهم، فراح يتتبع جلساتهم، ويبحث عنهم في طول البلد وعرضها، حتى يعثر عليهم ويقعد بالقرب منهم، حيث تصله أصواتهم، بل أنه كان ينتبه لأحاديثهم حتى ولو لم يفهم منها شيئًا، ومرات عديدة ينتبه إلى «أنه كان يضحك عندما يضحكون، أو يهز رأسه موافقًا حين يسمع شيئًا فهمه وأعجبه» (الرواية : ص 22). ومن جراء ما اكتسبه من جلسات وعي أشبعت جوعه، وزادت من نهمه لإشباع هذا الجوع، يأخذ يبحث عن هؤلاء الطلبة في كل مكان، وما أن يفشل في العثور عليهم، يكتفي بأية تجمعات، لكن العجيب أنه لم يعد يعجبه ما يقولون، بل يرى قولهم تكرارًا لكلام قالوه في مناسبات عدة، بعكس هؤلاء الطلبة الذين يأتون بجديد دومًا: حكايات عن النساء، والعلاقات الخفية بينهم وبينهن، وحكايات عن السياسة والمظاهرات، وأحوال البلاد التي لا تعجبهم، فتبدأ أسئلتهم الشائكة والجريئة، عن وضع البلاد، وسوء الاستعمار الذي نهب خيراتها «تركي، فرنسي، إنجليزي، أو ما سيأتي بعدهم»، وموقف الشعب وخنوعه وسؤالهم المفزع: أين الثورات؟!

 وهي الأسئلة التي تجد صدى لدي زغلول، ويفكر في أن يصوغ أسئلته البسيطة عبر وعيه المحدود، وما نتج عن سؤاله المصيري، الذي سأله الشيخ رضوان، أستاذ الفقه والشريعة في الجامعة، من ضرب وإهانة وتقطيع ملابسه من قبل الشيخ ومن المحيطين بالشيخ، حيث اتهمه الشيخ بالمروق والكفر والعياذ بالله. فهذه الأسئلة رغم سذاجتها، هي تطور في وعي زغلول، من نِتاج معرفته [عن بعد] بهؤلاء الطلبة، حتى صار نهم إشباع جوع المعرفة أولى لديه من البحث عن عمل يسدُّ جوع البطن، وهو ما جعل زوجته سكينة تلعن اليوم الذي تَعَرف فيه على هؤلاء الطلبة، الذين أفسدوا زوجها، وعلّموه عاداتٍ، لم يكن يعرفها مثل السهر، والمشي طول الليل. ومثلما كان زغلول جائعًا للمعرفة، فإن زوجته سكينة كانت جائعة أيضًا للاكتشاف، حتى صار الاكتشاف غواية، تُطارد سكينة وتدفعها لإقحام نفسها في أمور لا تعنيها. فرغبتها الشديدة في اكتشاف ما بداخل البيت الكبير الوردي، المواجه لبيتها، جعلها تترقب الداخل والخارج، وتسمع كل ما يُقال عن ساكنيه، وأثاثه. كما دفعها هذا، وقد زادتها هذه المعرفة من محاولة الاقتحام، وهو ما تكرر أربع مرات حتى استطاعت أن تحقق ما كانت تصبو إليه. بل أنه قبل الدخول كانت توصي ابنها بأن يأتي لها بمخلفات ما تلقيه الخادمتان، علّها تعرف شيئًا، أو يقودها إلى وسيلة تصل عن طريقها للدخول، وهو ما حدث بالفعل في المرة قبل الأخيرة، حيث عَثَرَ ابنها على مكحلة، واتخذتها ذريعةً؛ لتطفئ الرغبةَ المتأجْجِةَ بداخلها، لكن ما أنْ دخلتْ حتى صدتها إحدى الخادمتين، ولكن تَغيّر الحال بعد وفاة الزوجة، فدخلتْ للمساعدة، ثم بعدها عُرِضَ عليها العمل والإقامة مع الحاج هي وأسرتها داخل المنزل، وإنْ كانت الإقامة استمرت أيامًا قليلةً، فعلى الأقل روت ظمأَ جوعِ الاكتشاف، وهو ما تحقّق حيث راحت في المساء تدخل الغرف (راجع ص : 75-76)، وتتأكد بنفسها مما سمعته عن الأثاث وغيره، من حكايات نمّت لديها غواية الاكتشاف.

إضافة إلى الجوع المعرفي، وغواية الاكتشاف، فإن الرواية تطرح مفهومًا آخر للجوع يتمثل في الجوع الجنسي. فالزوجة سكينة في حالة جوع جنسي لجسد زوجها، إلا أنها لا تجد في زوجها القدرة لري ظمأها الجنسي، وتلبية مطلب الجسد الجائع، لفقدانه عمله، وقلة الطعام وانهداد حيله من التسكع ليلاً. فأثناء حوار الزوج والزوجة بعد عودته من لقاء الطلبة، يشعر بالهرش، فسألها إنْ كانت نظفت سرواله مما به قبل غسيله، فترد الزوجة بأنها نظفته، وعندما سألته يشوف بتقعد فين ولا بترميه فين يدور هذا الحوار، الذي يكشف عن افتقاد الزوجة لجسد زوجها.

 - ما بقعدش مع غيرك، ولا بيخلعه عني غيرك.

- فترد الزوجة في أسى – مين يسمع ؟ أمتى؟ من شهر ؟

- يا ولية؟ والخميس اللى فات ؟

- ودى تحسبها ؟ غيرك يكّسف يقوله ؟

- ما كانتش مرة خابت.

- مرة واحدة ؟ طول الليل يمشي هنا وهنا لغاية ما ينهد حيله – أقول له إيه ؟

- رفسها – وجاءت الرفسة في فخذها – المرة الأولى التي يرفسها، انطوت وسكتت، وهو قام وسار مبتعدًا. [الرواية : ص ص 21-22]

وقد يسعى الراوي لإقامة نوع من التوازي عن طريق السرد، بسرد جانبي لا علاقة له بالحدث إلا إحداث المفارقة المطلوبة؛ ليكشف مخبوء سكينة وجوعها الجنسي، فعندما ظهر كلبان، ونط الذكر على ظهر الأخر ليحتويه بين سيقانه، فأحنت الأنثى رأسها لحظة، ثم فجأة نترته عنها، فتعلّق سكينة على المشهد الذي يبدو ذكّرها بحالها، وفتح المواجع: «قالت إن قفزته كانت من غير نفس – لمت الجلباب حول ساقيها» [الرواية ص 39]، فسكينة أحالت ما فعله الكلب على نفسها؛ مما يوحي بحالتها النفسية من جراء افتقادها لهذا الري، ري جسدها من قبل الزوج، الذي صار مثل الكلب يفعل من غير نفس. ويتكرر هذا الجوع الذي تشعر به الزوجة في مواضع كثيرة في النص، فبعد عودة الزوج من تسكعه وتراه مهدودًا بعد أن حمّل عربيتي الكارو بعد انتهاء المعزى، تقول سكينة في إشارة صريحة لرغبتها الجنسية «لا يظهر عليه التعب إلا حين يعود إلى البيت، ظهري، جنبي، طيب الحمد لله على كل حال» [الرواية ص 15] فالسخرية البادية في حديثها تنبئ عن غضب مكتوم من انهداد حيل الزوج من العمل المجاني، والذي ينعكس على ممارسته معها، فالتعب البادي عليه إشارة واضحة لعدم قدرته الجنسية. فالحوار الذي دار بين سكينة وزوجها زغلول، عندما شاهدا العربات المحمّلة بالخزين للولد والبنتين (أبناء صاحب البيت الوردي) يكشف عن جوعها لجسده، فما أن رأى العسل الأبيض وأقفاص الحمام المحملة. - قال : تبقى دي عربية ابنه، عايز يشد حيله.

- طب وأنت يا زغلول عمرك ما أكلت حمام وحيلك مشدود على الأخر

- ومالت وضربته خفيفًا على كتفه – قال زغلول :

- وقفص بط – وفراخ – يا قوة الله – المرة دي قفص سمان.

- وعرفت إزاي ؟

- شفته مرة، أصغر من الحمام.

- وأكلت منه ؟

- أبدًا – اللي أكلوا بيحكوا – لحمه ناعم وحلو – وبيعمل في الراجل عمايل

- مالت قليلاً نحوه: بيعمل إيه ؟

-  وأقولك ليه كفايه اللي عندك

- والنبي تقول لي.

- بيقولوا الواحد ما يقمش عن الواحدة طول الليل.

- طب ما أنت يا أخويا من غير سمان، ودفعته خفيفًا من كتفه.

- شفتي العربتين بتوع البنتين ؟ ولا قفص حمام – ولا سمان – يبقي الحاج موش راضي عن الرجلين.

-  ويمكن موش راضي عن البنتين.

- آه يا سكينة – كل ده يطلع منك.

- أنا كنت قطة مغمضة لغاية ما عرفتك.

وتركت رأسها تسقط على كتفه – مدّ يده داخل جلبابها همست :

- إيدك سخنة.

تسللت يدها تحت جلبابه، وحكت وجهها بذراعه :

- قال سمان قال – ييجوا يشوفوا.

- تساندا ودخلا البيت  (الرواية : ص 65-67)

الحوار الذي دار بين الزوج والزوجة، يظهر جوع جسدها لالتهام جسد زوجها، كما أنه يكشف عن فحولة الزوج عن طريق غير مباشر، فالزوج يري أن هذا الحمام والسمان، يزيدان من قوة الرجل، لكن الزوجة ترى أن زوجها يمتلك قوة هائلة دون حاجة لمثل هذه المحفزات، وتمتلك الدليل على ما تقول، من خلال عبثها بما في داخل جيب زوجها.

يتكرر جوع الزوجة لجسد زوجها عندما ينتقلان إلى منزل الحاج هاشم، لكن الشعور بالغربة، وخاصة الزوج، تجعل من تحقيق الفعل الجنسي صعبًا.

(6)

لم يُقدّم المؤلف اسمًا للمكان الذي دارت فيه أحداث روايته، باستثناء الوصف التجريدي الذي يؤكد أننا بصدد مكان ريفي، وهو مع ذلك لا يقتصر على ريف معين سواء في الدلتا أو في الصعيد، وإغفال اسم المكان له دلالته العميقة، فالكاتب لا يريد أن يجعل الفقرَ يرتبط بمكانٍ معين، وأنه أراد أن يدق ناقوس الخطر بأن مثل هذه الأسر منتشرة في كل بقعة، في الصعيد أو في الريف على حدٍ سواء. فالقرية التي دارت أحداث الراوية فيها أشبه بالقرية الكونية تتشابه مع أية قرية في أي مكان

(7)

يكاد يكون الكاتب محمد البساطي، هو الوحيد الذي يتعامل مع تقنيات الرواية بحرفية عالية، فمسألة منْ يتكلم داخل النص؟ مسألة شديد الأهمية لديه؛ حيث يسيطر الراوي الغائب/ هو على النص كله، ومع أنه غائب إلا أننا نلمح تقمص هذا الراوي/الغائب بعض أصوات الشخصيات التي يروي عنها (زغلول، سكينة، زاهر). فمنذ المشهد الافتتاحي للنص، نكتشف قرب الراوي من المروي عنهم، ومعرفته الدقيقة بتفاصيل حياتهم، وعاداتهم ومن هذا: «كعادتها حين ينفذ العيش من البيت تصحو في البكور وتقعد على المصطبة، والطرحة ملمومة في حجرها، وتكون غسلت وجهها ولبست الجلباب الوحيد لديها، عاش معها سنوات، نحل كثيرًا واختفى لون وروده، هي لا تنام به، تكتفي بالقميص الداخلي بما فيه من رقع» [الرواية ص 7، والتشديد من عندنا] على الرغم من سيطرة الراوي الغائب على السرد، حيث يرصد الراوي مشهدًا متكررًا، وهو ما ينبي عن وضعية [ما] للمروي عنه، يريد أن ينقلها الراوي للمروي عليهم، عبر الاستنتاجات التي يتوقعها المروي عليه من تأكيدات الراوي [قد وضعنا تحتها خطًا في النص المقتطف]، وهو ما يوحي بكسر المسافة الإيهامية التي يصنعها الضمير الغائب، حيث يوحي أن الراوي مفارق لشخصياته وأحداثه، ودوره يقتصر على الرصد فقط، لكن تتبع كلمات مثل «كعادتها، والوحيد لديها، و عاش معها سنوات، اختفي لون وروده، لا تنام به، تكتفي» يشير إلى ذوبان هذا الوهم، وتدفع بالمسافة التي يخلقها الضمير الغائب، وأن ثمة تطابقًا أو تماهيًا بين العالميْن، ونصبح بإزاء راوٍ يعيش مع هذه الأسرة أو يقع في منطقة وسيطة/ قريبة، تجعله يرصد عن قرب، بل يتتبع جلساتهم على المصطبة مثلما تجلس الأم، أو يتجول بعدسته القريبة مع الزوج على المقاهي، ويصغي معه إلى أحاديث الطلبة، أو يسمع الشتائم التي يلقيها الزبائن عليه في المقهى أثناء عمله، ومن ثم لا يودُّ أن يعود، أو السير مع زاهر والذهاب معه إلى الفرن ورؤيته وهو يكنس كسر العيش، أو سباحته مع صديق عبد الله، أو حتى صيدهما السمك.

إمكانية الراوي الغائب ومواصفاته في القص(8)، لا تعطي الإحساس الذي تشعر به في تعامله مع المروي عنهم، لكن تماهي المسافة بين الراوي، وما يروي، تكشف عن سمات جديدة يوظفها المؤلف/ البساطي في تعامله مع هذا الراوي، بل يعطيه مواصفات الراوي الأنا في كثير من الأحيان(9)، حتى أن الحيادية التي يقدمها هذا الضمير يخترقها البساطي من خلال الحس التعليقي داخل النص، وهو ما يكشف عن تموقع المؤلف الضمني/ المؤلف في النص، بمسافة قريبة تسمح له بالتعليق؛ ليقيم المواقف والأحداث بمرورها عبر رؤيته التي تختلف عن رؤية الأشخاص الذين يروي عنهم، ومن ثم نجد ثمة تعاطفًا ما أو نبرة تهكمية أو ساخرة، أو غيظ وحنق فيما يرصده. وقد يتجسد الحس التعليقي عبر استفهام على نحو ما نجد عندما يشعر الزوج بالجوع بعد اسيقاظه وقد نام الأربعة جوعى، فيحث زوجته على الإسراع للبحث عن طعام يسكت به جوعه، وهو يعلم مسبقًا بعدم توفر الطعام، فعلى الفور يتدخل الراوي الضمني/ المؤلف متساءلاً باستنكار: «وما بيدها أن تفعل؟» (الرواية ص7). فتساؤل الراوي الضمني الموجه للزوج جاء استنكارًا لموقف الزوج العاطل، وفي نفس الوقت كتعاطف مع الزوجة الحائرة والعاجزة عن فعل أي شيء. بل أن هذا الاستنكار يتحول إلى حنق على الزوج، عندما يقول الراوي الغائب أن الزوج نفسه هو الذي صرف آخر ما معها من نقود، فيضع الراوي ما صرفه الزوج بين جملة اعتراضية، هكذا – اشترى به سيجارة، وهو لا يدخن – فدلالة الجملة الاعتراضية توحي بالحنق والغيظ من هذا الزوج المروي عنه، فكأنه يقول له فعلت ما فعلت على ترف زائد وتأتي لتأمر وتنهى وأنت عاطل.

وفي بعض الأحيان يعطي الراوي الضمني صوته للشخصية التي يروي عنها، في دلالة واضحة لتماهي الصوتين: صوت الراوي و صوت الراوي الضمني، وتوحد مواقفها ورؤيتهما للأحداث، فيوم أن عرف زغلول/ الزوج على الطلبة، وراح يترقبهم ويجلس بالقرب منهم ليسمع أحاديثهم، وما تبعه من تبدل في شخصيته وتمرده، و إلحاح الأسئلة الشائكة عليه، والأدهى تسكعه على المقاهي وسهره إلى آخر الليل، عند هذا يتوحد الصوتان صوت الراوي الغائب مع الراوي الضمني ليعلنا عن تذمر سكينة لهذه المعرفة فيقولان: «كان يوم أسود يوم عرف التلاميذ» (الرواية ص 22). كما يضع الراوي الغائب مسافة مكانية وزمانية بينه وبين الأحداث والأشياء، فيحكي ما يسمع بعد أن يصوغه أو يرشحه وعي وسيط من القارئ والعالم، فنرى الأشخاص مفارقة لطبيعتها، وتبعًا لهذه المسافة التي يخلقها الراوي تكثر نسبة الأفعال التي يرويها عن آخرين مجهولين بالنسبة لنا مروي عليهم، وهذا ما نجده عندما تسترق الزوجة للحكايات التي تروى عن البيت الكبير، فالراوي يشير في كل ما يرويه أن ما سمعته الزوجة جاء من آخرين ممن دخلن البيت، فتكثر عبارات (قالوا، سمعت، حكاه زغلول...)، وبالمثل يتكرر الأمر نفسه عند الحكايات الخاصة بالحاج عبد الرحيم فتترد عبارات مثل: «وقالوا أن هذه المرأة..، أو قالوا له أن الأيام قادمة..». ويميل الراوي إلى استدعاء الحكاية من الذاكرة/ الماضي «راجع في ذلك حيث الزوج عن شبابه ومعرفته بالنساء، وأيضًا ماضي الحاج عبد الرحيم».

(8)

ينهض السرد في الرواية على المراوحة بين الوصف والحوار، فيغيب السرد الخالص، فالراوي يعمد إلى هذا متكئًا على ما يمنحه الضمير الغائب من مواصفات خاصة تسمح له بأن يكون راويًا محايدًا، فيم يسرد عن هذه الأسرة المكلومة. فمنذ المشهد الاستهلالي ينفتح السرد على وصف من قبل الراوي الغائب لهذه الزوجة، يبرز لنا قلة حيلتها وعجزها عن تدبير الطعام لأفراد هذه الأسرة المُنْتَّظر قيامهم من النوم بعد لحظاتٍ، ولا يجدون ما يسدون به فراغ بطونهم التي نامت وهي جائعة، ومن ثم يلح السرد – رغم حياديته البادية –على إظهار معالم البؤس التي ترزخ فيها هذه الأسرة، بدءًا من خلو معدتهم - جميعًا-من الطعام، والذي يصل إلى أيام، إلى وصف قعدة الزوج عاطلاً بلا عمل، إلى وصف حالة الزوجة ونهمها في دخول البيت الكبير المواجه لبيتها، علّها أولا: تظفر بفرصة عمل تسهم بدخلها في سد فجوة الجوع، وثانيًا : لإشباع نهمها في اكتشاف محتويات البيت، التي زادت الحكايات التي سمعتها من فضولها لدخوله. لا يقف الراوي عند وصف أماكن، وإن وقف فهو يصف الحارة الضيقة التي كانت شاهدةً على مأساة طلاق الزوجة بعد تطيُّر زوجها من كسر زجاج الدولاب، ليشير دلاليا إلى أن هؤلاء الناس لا يشتركون في ضيق ظروفهم فقط، بل وفي ضيق المكان. فالمكان الحارة شاهدةٌ على مآسي متعددة ليس بأبشعها الجوع، وإنما الفقر المُذِّل الذي يَدْفَعُ بوالد العروس بأن يتممَ زفافها بالسَلَفِ، لكن للأسف ترجع العروسة في اليوم الثاني، لا لشيء إلا أن زوجها يتطيَّر رغم أنه يؤم الناس للصلاة وفي أحيان يخطب في مساجد بعيدة لا يوجد فيها متعلمون. قمة التناقض التي يفرزها البناء الاجتماعي/ الطبقي.

وها هو وصف الحارة كما جاء على لسان الراوي : «الحارة ضيقة، حيث بيت العريس، لا تدخلها العربة – أوقفوها على رأس الحارة – أنزل الرجال الأربعة الدولاب من فوق العربة، وساروا به إلى داخل الحارة كانوا محنيين، تلامس وجوههم الدولاب، وقد شمر كل منهم جلبابه وعقده حول وسطه ينقلون أقدامهم في حذر والعروق نافرة بجباههم.» [ الرواية ص 10]. يكاد يكون هذا المقطع، هو الوحيد الموصوف بدقة وتتبع، من قبل الراوي، والذي حاول أن يكون في وصفه محايدًا، إلا أن هذا لم يحدث، حيث يتدخل الراوي من خلال تعليقاته التي تشي بقرب تموقعه في بؤرة سردية محايثة (لاحظ التشديد). وفي كثير من الأحيان يختلط الوصف مع الحوار، ويتداخلان معًا. فأثناء وصف الراوي لما حدث مع زغلول بعدما سأل الشيخ رضوان، عن أسئلته الشائكة، وما تلاها من رد فعل غاضب من الشيخ رضوان، فلا يقتصر الراوي على وصف العقاب الذي نزل على زغلول، وإنما يتدخل أثناء الحوار الذي جاء من طرف واحد (طرف الشيخ رضوان) فيسرد الراوي: «أدهشته الرفسة قبل أن توجعه، أطاحت به خطوات للوراء، وقلبته على ظهره، ثنى ركبتيه ورفعهما كساتر لحمايته، صيحة الشيخ أوقفت الحركة في الشارع، ودفعت الزبائن بما فيهم النسوان إلى خارج المحل.

- بتعدل على ربنا يا بن الكلب.

تفادى زغلول ضربة قدمه، وكانت مصوبة إلى بطنه، ووقف، احتوته قبضة الشيخ، يجره متراجعًا للأريكة، يمشي والشراب في قدميه وعيناه تبحثان عن الحذاء، وربما أراد أن يستخدمه في ضربه بعد أن أوجعته يداه.» [الرواية ص، ص 36-37]

العجيب أن الوصف يأتي دائمًا مع الوقفة السردية(10)، التي تبطئ حركة السرد، لكن هنا الوصف لا يوقف السرد بل على العكس يُنمِّيه، إذْ من الممكن أنْ يسير الوصف و السرد معًا(11)، فالراوي بهذا الوصف الذي يوقف حركة السرد ظاهريًا، يضع المبأر/ زغلول في بؤرة سردية، واضحة ليكشف عما يعانيه، من فقر مادي إضافة إلى فقره المعرفي، الذي يُوْقِعه صيدًا سهلاً في يد الشيخ رضوان، ويعاقبه على تجرؤه على الذات الإلهية، فلو تتبعنا المشهد الموصوف والممزوج بالحوار، نكتشف وصف الراوي لملابس زغلول الداخلية، وما بها من علامات لفقر مزرٍ، فبدنه العاري " شديد الشحوب "، و"عظام صدره بارزة "، وسرواله " بلون الطين ". بل أنّ ما يهمُّ زغلول، وما جعله يتحدث (لا حظ أن الحوار كان من طرف واحد هو الشيخ رضوان)، هو تقطيع الجلابية. لكن المشهد لم ينته فالشيخ رضوان هاله ما رأى، فتركه على الفور، وفي نفس الوقت أمر أحد أقاربه الذي يدير له المحل بأن " اقطع خمسة متر وارميها في وشه " (ص 38)، فالعجيب لم يأت بعد، حيث لملم زغلول الجلباب المقطوع حول جسده، ومشى رغم مناداة قريب الشيخ له بأن ينتظر حتى يقطع له القماش.

*   *   *   *

إلى جانب الوصف، ينهض السرد على الحوار، فلا يكاد يخلو نصٌ من نصوص البساطي الطويلة أو القصيرة من الحوار. فالحوار هو العنصر الرئيسي المشكِّل لبنية النص لديه، ومن ثم يكشف الحوار عن استراتجية سائدة فيما يكتبه البساطي، تتمثل في أن الحوار يُنْبي على المسكوت عنه، دون مباشرة فجة، وهو ما تكرر كثيرًا داخل النص، هذا من جانب، ومن جانب أخر، أنه من النادر أن تجد مشهدًا حواريًا دون تدخل من الراوي، أو دون تعليق، أو وصف حركة أو إيماءة رأس، أو غير ذلك. أو ما يسمى إيحاءات المحاكاة، حيث يهتم السارد برصد حركات الشخصية، وإيماءاتها، وطريقة أدائها الجملة الحوارية فعلى الجملة يمكن القول أن راوي البساطي قليلاً – على حد تعبير شحات محمد – ما يوسم بأنه متطفل Intrusive، إذْ هو غالبًا ما يتوارى على مسافة ٍ لا تلبث أن تزول ليظهر صوته أو أثر صوته(12(. ومن أبرز هذه الحوارات التي تتجلى فيها سمات الحوار وخصائصه عند البساطي، الحوار الذي دار بين العريس خليفة، ووالد العروسة خليل، فبعد أن جاءت العروسة بعدم يوم من زفافها طالقة، ذهب الأب للزوج المطلق ليعرف السبب فيدور بينهم الحوار التالي :خليل – وربما لم يبلغه ما يتهامسون به، وإلا كان له تصرف آخر لا يعلم به إلا الله – قال:

- أشتري دولاب تاني والسلام. والقطن لن يكفي أبدًا.

خطف رجله لبيت – خليفة – العريس – قال:

- آخده معايا – يختار اللي يعجبه.

خليفة استقبله واجمًا مطرق الرأس – قال :

- ولا عايز دولاب ولا غيره.

خليفة رجل يعرف الله، وختم القرآن، ويفتي أحيانًا في أمور الدين، ويسمح للبعض بتقبيل يده مغمغمًا :

- استغفر الله.

وحين يمر بمصلى وقت الصلاة يقوم بالأذان ويؤم المصلين بها، غير أنه لم يحاول أن يؤمهم في الجامع، فيه مشايخ قادرون على صده. خليل غير فاهم، نظر إلى خليفة حائرًا ويداه منقبضتان في حجره:

-      وغضبك ده كله ؟ حصل – قضاء وقدر.

انفعل خليفة بشدة.

.................

- قل لي ياخليفة – أنت دخلت بالبنت ؟

-  طبعًا دخلت.

-  والبنت سليمة ؟

- أستغفر الله – دماغك شطحت.

- الحمد لله ..  ]إلى آخر الحوار ص ص 11-13[

يكاد يكون هذا الحوار أطول الحوارات في النص كله، ورغم أن قصة الجواز وما نتج عنه من طلاق غير داخلة في حبكة السرد المتعلقة بمأساة أسرة زغلول، إلا أن التماس الوحيد الذي يربط بين الحوار والنص، أن أفراد هذه الأسرة يشتركون في الفقر، وإن كان الفارق الوحيد هو اعتماد هذه الأسرة على مصدر دخل يتمثل في القطن الذي به يسدد الأب مديونية الزواج (وإن كان لا يكفي)، فالراوي هنا حسب ما نرى يتدخل ولا يترك الحوار يجري بين الطرفين: الزوج والأب، فتعليقات الراوي تشي بقرب وجوده داخل النص، ومن بؤرة سردية محايثة بالشخصيات، التي تجعله يتابع الإيماءات، والانفعالات، وحركات اليد وتعبير الوجه. كما يكشف الحوار من جانب موازٍ عن طبيعة هذه الشخصيات التي تنتمي إلي بيئات ريفية، فالأب لا يعنيه الطلاق بقدر ما يعنيه إن كان هناك سبب يشينه هو وبنته؛ لذا نراه يلح إلحاحًا عجيبًا لمعرفة السبب، فالسبب الذي أعلنه الزوج جعل الألسنة تقول كلامًا دفع بالراوي الضمني أن يقول " لو سمع ما يتهامسون، وإلا كان له تصرف آخر لا يعلم به إلا الله"، وعندما يطمئنه الزوج بعبارة موجزة لها دلالتها " أستغفر الله " يبدأ مسار الحديث يتغير. ومن جانب أخر حرص الراوي على أن يظهر سمات الزوج (يعرف الله، وختم القرآن، ويفتي أحيانًا في أمور الدين، ويؤذن للصلاة، ويؤم الناس)؛ لبين لنا في مفارقة عجيبة أثر المعتقد الشعبي وتأثيره على الزوج (كصورة مطلقة لأنماط البشر الذين يعيشون مثله)، فالزوج نحّى كل هذه الصفات واستسلم للتطيّر، وكأن مثل هذه الصفات تجد لها مرتعًا في مثل هذه البيئات وتلك العقليات التي لا تُعْمل العقل، بل تأخذ الأشياء كمسلمات دون نقاش، أو تمرير حتى على العقل، وهو نفس ما حدث لزغلول عندما سأل الشيخ رضوان، فالشيخ لم يتقبل مثل هذه الأسئلة، وإنما رفضها رفضًا مطلقًا، وعاقب بها زغلول. كما يكشف الحوار عن سمة أخري تتمثل في الاختزال والتجريد، فلا كلمة زائد أو وصف بلا معنى، وهو ما تكرر داخل النص كله، فاللغة عارية حتى من الزخرف، والكلمات محدودة، هدفها التوصيل والإبلاغ، لا الثرثرة والإطناب ومن مثل هذا حوار الزوجة مع الصبي الذي أحضر لها النقود، فجاء على النحو التالي:

-      يعني واقف؟

-      الغيار.

-      غيار إيه ؟

-      غيار زوجها – نسيت – ترددت –لم تصبر على عد النقود، وعدتها – تحسبها وهي تدخل البيت لتأتي بالغيار [الرواية ص 16-17[

فالسرد هنا مبني على الحوار، بل الحوار المقتضب، والمختزل إلى حد التجريد. وفي كثير من الأحيان تستهدف هذه الحوارات كتقنية بنائية تقديم تفاعلات الأشخاص مع بعضها، مع احتفاظ الحوار بعاميته؛ للإيحاء بوهم المشهد ومحاكاة الواقع. فالحاج هاشم يتحدث مع زغلول في حوار طويل يكشف الجانب المقابل/ المستتر والمؤرق لشخصية الحاج هو افتقاده لأبنائه، حتى أنه يتوهم بعد وفاة زوجته أنها تأتي إليه في المساء ويتحدثان فرغبة الحاج فيمن يسمعه تكاد تقتله، وما أن تتحقق يموت على الفور، وبالمثل شخصية الحاج عبد الرحيم الذي يتخذ من أذن زغلول وسيلة للفضفضة فيسترجع ذكرياته مع زوجته، وكيف تزوجها(راجع الحوارات ص، ص 90- 92)، فمثل هذه الحوارات تكشف رغبة دفينة لدى الحاج هاشم للحديث، مع أخر؛ لذا يتخيل أن الحاجة زوجته تدخل عليه وتتحدث معه.

(9)

تطرح هذه الرواية أسئلة خاصة بمحمد البساطي، متعلقة بإشكالية الكتابة، فالكاتب يكاد يقيم داخل نصه القصير(13)، تناصات مع نصوص كتبها من قبل، لا تقتصر هذه التناصات على استدعاء مواقف، أو أحداث أو شخصيات، بل تتجاوزه لتكون الرواية نفسها استثمارًا بوجه أخر لقصة كتبها الكاتب نفسه، وهو ما يمكن أن نسميه تناسل قصصي(14)، فصورة الحاج عبد الرحيم بترهل جسده وعدم قدرته على ركوب الحمار، تستحضر في الذهن صورة المرأة المترهلة في رواية (الخالدية)، وكذلك صورة طلبة المدارس والجامعات، وحكاياتهم عن النساء، وجلوسهم على الترع والمقاهي، تستدعي قصة «منحنى النهر» لكن المميز في إبداع البساطي أنه داخل نصه ينتج قصصًا قصيرة يمكن قراءتها بمعزل عن النص، على نحو ما هو واضح من قصة خليفة وزواجه وتشاؤمه من كسر الدولاب، وأيضًا قصة الحاج عبد الرحيم العائد من الغربة، وهو ما يشي بتناسل القصّ لدى البساطي، وإمكانية استثماره في أعمال مُستقلِّة (يمكن التأكد من هذه الملحوظة، مقارنة مجموعته الأخيرة " نوافذ صغيرة " وروايته الجديدة التي صدر الفصل الأول منها في أخبار الأدب، لتكتشف كيف استثمر الكاتب قصص المجموعة في صياغة الرواية الجديدة (غرف للإيجار)(15))

 

ناقد و أكاديمي مصري، يعمل في جامعات تركيا

 

هوامش الدراسة :

(1) راجع مجموعته: (ثلاث شجرات تثمر برتقالاً) 1970، وأيضًا (الدف والصندوق) 1974.وروايته (الطوق والإسورة) حيث يتعامل مع مهمشي الصعيد.

(2) أخر مجموعات البساطي القصصية (نوافذ صغيرة) يسطير عليها عالم هؤلاء المهمشين، والمقموعين، كما أن روايته (غرف للإيجار) قيد النشر، يسير فيها على نفس التيمة

(3) من مواليد نوفمبر 1937، قرية الجمالية المطلة على بحيرة المنزلة بالدقهلية، حصل على بكالوريوس التجارة، وعمل في بادئ الأمر بمديرية أمن سوهاج، ثم عمل في الجهاز المركزي للمحاسبات، حتى تقاعد عن العمل في 1997، من أعماله التي لفتت الانتباه إليه (الكبار والصغار) عام 1967، ثم توالت أعماله ومنها، مجموعة (حديث من الطابق الثالث) عام 1970، و(هذا ما كان) 1987، و(منحي النهر) 1990، و(ضوء ضعيف لا يكشف شيئًا)، 1990. أما أعماله الروائية فكانت كالتالي : (التاجر والنقاش) عام 1967، و(المقهى الزجاجي) عام 1979، و(بيوت وراء الأشجار)1993، و(صخب البحيرة) 1995، والتي صنفها النقاد أنها رواية غامضة، وتناولت منطقة الجزر، و(أصوات الليل) 1998، و(ويأتي القطار) 1999، و(فردوس) 2002، و(الخالدية) 2004، و(دق الطبول) 2005، و(أوراق العائلة) 2006، و(جوع) 2007، و(أسوار) 2008، أما أخر مجموعاته القصصية فهي (نوافذ صغيرة) 2009.... للمزيد عن محمد البساطي : راجع : (قاموس الأدب العربي الحديث) تحرير حمدي السكوت، محمد بدوي ص 474:475، دار الشروق، طبعة أولى 2005.

(4) قدم عبد الحكيم قاسم في (أيام الإنسان السبعة) نموذجًا للقرية مغايرًا عما كان سائدًا في أدب محمد عبد الحليم عبد الله، حيث فاجأنا بقرية مصرية خالصة من منظور وعي الطفل عبد العزيز، الذي أخذ يتنامى وعيه في مقابل أفول وانهيار وعي جماعة أبيه

(5) محمد البساطي: (جوع)، صادرة عن قطاع الثقافة، أخبار اليوم، 2008.

(6) لاحظ شخصية سناء في رواية (العيب) ليوسف إدريس، فالذي قاد سناء للسقوط والانحراف هو حاجتها للمال، وهو ما استغله زملاؤها في العمل وبرروا لها ما يتقاضونه من عمولات، مع فارق أن شخصية سناء انحرفت لوجود عوامل كثيرة ساعدت على ذلك أبرزها وجودها في مجتمع فاسد (مجتمع العمل) ووسائل الضغط التي مارسوها عليها زملاؤها المرتشون، حتى لا تكون هي الشريفة الوحيدة، وبالمثل شخصيتا (إحسان شحاته ومحجوب عبدالدائم) في رواية (القاهرالجديدة) 1945 لنجيب محفوظ، فسقوط هاتين الشخصيتين جاء كنتيجة للاستسلام للفقر، رغم أن محجوب عبد الدائم نفسه بمؤهله الذي حصل عليه كان من الممكن أن يوفر لنفسه فرصة عمل شريفة، لكان المؤلف رسم الشخصيات بسقطاتها وثغراتها التي سهلت السقوط سريعًا. النماذج على هذا في الرواية العربية كثيرة، ويمكن القول أن معظم شخصيات محفوظ خاصة (اللص والكلاب، والسمان والخريف، والسراب) يكون الفقر والحاجة عاملان رئيسان في سقوطها، وهو ما يستغله ضعاف النفوس كما حدث مع " سعيد مهران " وكيف تحول إلى لص بفعل أخر" الصحفي " سهّل وبرّر له ما يقوم به. نفس الشيء في رواية " عمارة يعقوبيان " فبثينة السيد وطه الشاذلي كان المجتمع شريكًا فيما وصل إليه، فالأولى استغلت جسدها الذي وجدت نهمًا عليه، حتى حققت ما أرادت " بزواجها من الباشا " رغم محاولة ملاك استغلالها لمصلحته الشخصية. وطه انتهى الحال به إلى أن صار إرهابيًا ومات مقتولاً، نفس الحال مع شخصية " فاطمة" في رواية محمد المنسي قنديل " انكسار الروح ". والأمثلة عديدة في الرواية العربية التي تؤكد أن ثالوث الفقر وغياب الوعي الديني والتخلف، هم أسباب مشتركة في سقوط الشخصيات. وبالمثل الجرائم التي تحدث في الواقع هم سببها الرئيسي.

(7) شعور الشخصيات بالسجن تيمة أساسية في أعمال البساطي، منذ روايته الأولى (التاجر والنقاش) 1976، فمشاهد السجن توجد داخل العمل، ثم أفرد له عملاً مستقلاً هو رواية (أسوار) 2008، فتدور أحداثها في السجن، وكذلك مجموعته (محابيس) 2002، «وفي هذه المجموعة كتب خمس عشرة قصة تدور عن عالم السجن وقصته "المقشرة" التي تدور حول تعذيب المساجين داخل المعتقلات، بالإضافة إلى قصص المجموعة الأخيرة (نوافذ صغيرة) 2009، وفي حوار معه أجرته جريدة "الشرق الأوسط" صرح بقوله: «بالفعل أنا مغرم بحصار الشخصيات في بعض الروايات، بسبب رغبتي في معرفة كيف تكتشف العالم حولها وتواجه مصيرها ومأزقها الإنساني في حيز بسيط ومحدود. أحب أن أنوه بأن الغرام بهذا الحصار ليس محض حالة سيكولوجية وإنما هو نتاج طبيعي لعلاقة الشخصية بواقعها، وهذا ما تلاحظه مثلا في رواية (فردوس). فالقصة مستمدة من الواقع، ناهيك عن أن العزلة تكشف عن المخزون الروحي للشخصية، فصراعها أساسًا يبدو مع ذاتها.» راجع حوار البساطي في جريدة الشرق الأوسط مع عبد النبي فرج، بعنوان «أغزر كتاب الستينيات في مصر مازال قادرًا على الإدهاش»، صفحة المنتدي الثقافي، بتاريخ: الأربعاء 6 فبراير 2008، العدد 10662. الملاحظ أن البساطي كتب عن السجن إلا أنه لم يدخل السجن مثل بقية كتاب الستينيات، لكن نظرًا لعمله في الجهاز المركزي للمحاسبات، في مجال التفتيش على الوحدات المالية، وهذا ما أتاح له أن يزور مصلحة السجون.راجع أيضًا: حمدي السكوت : (الرواية العربية، ببليوجرافيا ومدخل نقدي (1865- 1995)) قسم النشر بالجامعة الأمريكية، القاهرة، 2000.

(8) راجع ما ذكره الدكتور عبد الرحيم الكردي عن الراوي الغائب ومواصفاته في القص، في كتابه (الراوي والنص القصصي)، مكتبة الآداب، القاهرة، ط 1، 2006، ص ص : 73: 136.

(9) في معظم روايات البساطي(وأيضًا مجموعاته القصصية) يتميز الروي بوضعية خاصة (رغم هيمنة الراوي الغائب)، وهو ما حدا بمحمد الشحات، لدراسة الراوي في أعمال البساطي، من تقنيات مختلفة سواء أكانت سردية أو بوصفه موقعًا أيديولوجيا لمتكلم في سياق زمني وتاريخي. ويرى الشحات أن البساطي في استخدامه لهذا الضمير، يأتي كنوع من نزع الألفة أو الغرائبية بين ما يقدمه الراوي ومتلقيه، وهو ما يسمح بعملية استبدال الضمائر دون أن يحدث إخلال في مضمون المروي، حيث قام باستبدال الأنا بالهو، والمتكلم بالنحن. وقد درس هذا على خمس من رواياته هي ["التاجر والنقاش"، "المقهى الزجاجي"، "الأيام الصعبة"، "بيوت وراء الأشجار"، "صخب البحيرة"] في دراسته عن (الراوي في روايات محمد البساطي)، رسالة ماجستير نوقشت في آداب القاهرة، سبتمبر 1999، وقد صدرت كتابًا بعنوان (بلاغة الراوي : طرائق السرد في روايات البساطي) عن سلسلة كتابات نقدية، عدد111، الهيئة العامة لقصور الثقافة/ أكتوبر 2000.

(10) الوقفة : هي تقنية من تقنيات الزمن يستهدف بها الراوي تبطيل حركة السرد من خلال الوصف،.راجع جيرار جينيت (خطاب الحكاية) ت. محمد معتصم، وعبد الجليل الأزدي، وعمر حلّي، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، القاهرة 1997، ص 141.

(11) راجع شحات محمد عبد المجيد: (بلاغة الراوي في روايات البساطي)، مرجع سابق، ص 242.

(12) هذا ما لاحظناه في الكثير من الحوارات التي رصدناها، وقد ذكرنا بعضها في سياق مختلف، لذا لا نستشهد بها مرة ثانية، وإنما أحيل القارئ إلى أرقام الصفحات، راجع مثلا ص 7، 8، 9، 11، 12، 30، 36، 37 وغيرها من الصفحات

(13) معظم نصوص البساطي تميل إلى القصر، وهي سمة مميزة للبساطي دون كتاب جيله، وربما راجع هذا في المقام الأول لولعه لفن القصة الذي عُرف منه.

(14) درج بعض الكتاب استغلال قصة كتبها، واستثمارها في كتابة نص طويل، والأمثلة على هذا كثيرة، فرواية (دنيا زاد) لمي التلمساني هو استثمار لقصة كتبتها، وكذلك نص نورا أمين (قميص وردي فارغ) .

(15) نشر الفصل الأول من هذه الرواية في أخبار الأدب، عدد 856، الموافق الأحد : 26 ذي الحجة 1430، 13ديسمبر 2009.