السجين والسجان في تناوب الأدوار

فاطمة المحسن

يبدأ محمد البساطي روايته الجديدة (أسوار) الصادرة عن دار الآداب، من مفارقة يطل فيها البطل على فضاء السجن، وهو يطعم الحمام ويطلقه في الفضاء من سطح داره.ويبدو وهو يعد ما ينقص من المحكومين بالإعدام، وما يزيد من عدد طيوره، وكأنه يقوم بمهمة تقديم المكان في حركة واحدة "يبدو مختلفا عما أراه حين أكون في داخله، كأنني ألمح شيئا عابرا من نافذة قطار".

ثنائية الحرية والحبس لن تتحدد في هذه الرواية في عملية الفصل بين الداخل الذي يمثله السجناء والخارج الذي يمثله البطل وهو حارس في السجن، بل في التلاحم بين عالمين لا انفصال بينهما.وهكذا يدع المؤلف لنفسه حرية تجاوز المعنى الأولي لدلالة السجن الذي يكتب عنه في هذه الرواية، فهو زمن المكان الثابت، الذي يمثله تاريخ السجّان نفسه وقريته البعيدة عن المدينة وعالمها، وزمن السجناء المتحرك الذي يرى السارد في مراياه حركة الحياة وتبدلاتها.

علينا أن نعثر في كلام البطل وهو السارد الأساسي في الرواية، عن الذي لايعنيه، فهو حارس سجن فقير، يضطر كي يأكل ويلبس، أن يرتشي، او يعنف سجينا أو يضربه، بيد أنه لايملك سطوة الأقوياء الذين يديرون السجن، وهو أيضا ليس سجيناً يعاني الظلم، لانه يقف بين موقعين، يمكن إداركهما من زاوية نظر مزدوجة.

البساطي، كما في كل رواياته، يختار أبطاله وهم في غفلتهم عن فعل يتجاوزهم الى الحياة الضاجة بمفارقاتها، وما عليهم سوى تسجيل إحداثياتها، دون استبيانات تدخل فيها عواطف المؤلف، او وعيه الذي يستنسخه الرواة في العادة.

لم يكتب البساطي كلاما عن الرواية ولم يصرح حول ما يصنعه، فهو من الأدباء الذين لا يشغلهم الترويج لأعمالهم ولا التنظير حولها، ولكن بمقدورنا ان نقيس عليه زمنا للرواية المصرية، يكاد يقارب فترة التحول في اسلوب القص الاميركي، حين غدا هنري جيمس الصانع الأول لفكرة غياب المؤلف، تطبيقا وتنظيرا.

مصر بلد الرواية العربية، هي أيضا بلد الايديولوجيات العربية التي سكنت العالم الروائي وملكت كل حيزه، ومن النادر أن تنجو الرواية من ثرثرات السياسة وزحام الخطابات الاجتماعية، وخاصة عند جيل البساطي الستينيين، وبمقدورنا القول ان فن البساطي استطاع إقصاء هذا الخطاب ودفعه الى أبعد نقطة في تلميحاته، بل بمقدور القارىء ان يرى ما يمكن ان نسميه، تنحي دور الراوي العليم في الرواية التي يكتبها، فكل فكرة لديه، تقابلها فكرة تنفيها او تستأنف حجتها على نحو مختلف.

يتابع البساطي في هذه الرواية نهجه الذي يحاكي الشفاهي والشعبي، على مستوى اللغة وطبيعة الايضاحات وموقف الراوي، فتبدو النوفيلا (القصة الطويلة)التي يكتبها غير مهتمة بفكرة الحداثة، من حيث هي خطاب يعتني باللغة والبنية المعقدة والأفكار الكبيرة، فقصصه من البساطة، مايقرّبها من النهج الطبيعي في نقل الواقع، ولكنها لاتبدو على توافق مع الفكرة المسبقة لفعل الشخصية، ولا نوع الشخصية التي ينتقيها المؤلفون، ولا المناخات التي تدخل الحوارات والأجواء في الكثير من قصصه ضمن عالم يقف بين الفانتازيا والواقعية الحديثة.وعلى الرغم من التحول النوعي في مواضع رواياته الاخيرة، حين غدت أكثر ارتباطا براهن مصر الاجتماعي والسياسي، ولكن خطابها الروائي، مع الوهن الذي يلوح فيه، بقي يبحث عن فرادة المعالجة.

السجن موضوع رواية البساطي الأخيرة (أسوار)، والسجن السياسي جزء أساسي منه، وهو العالم الذي حفل به القص النضالي والمذكرات والسير الشخصية التي صدرت في عهود مختلفة، وثمة أحداث ترد في هذه الرواية على صلة بأخبار تناقلها الإعلام عن انتهاكات حصلت وتحصل في السجون المصرية.بيد ان البساطي يطرق موضوعه من زاوية جدّ خاصة، فبطله حارس يروي على نحو تلقائي سيرة حياته، مذ ورث مهنة أبيه، لحين تقاعده عن عمله الذي لم يعرف غيره، ولا هو راغب عنه او مستنكف منه.انه سجين المهنة التي ورثها لا بدلالات الضيق من مشاكلها، بل ببساطة وعيه الذي ينقله الى القارىء بتمامه، متجردا من توتر الإحساس بالمفارقة.

ثلاث بنيات يحاول البساطي التوفيق بينها: بنية المعلومات حول السجن التي يرتبها ويبثها من خلال الحدث والحوارات، وبنية المشاعر التي تتحرك في ثنايا العلاقات الإنسانية داخل السجن، وبنية الوعي المتقاطع بين وصف البطل الغفل، وما يتركه للقارىء من انطباعات على ضوء ما رواه.وفي إشكال التوفيق بين تلك البنيات، يتردد قص البساطي في حركة تصعد وتهبط في منعرجات قصه.

يضم السجن في الرواية مكانين يتقابل فيهما سجناء الرأي مع السجناء العاديين، وفي الثاني تصبح الحياة أكثر توطنا وقبولا بقوانينها الداخلية، في حين يبقى الموقع الأول قلقا، يتصرف السجانون بقسوة مضاعفة كي يحافظوا على ثباته، لانه يمتد الى مساحة أكبر منهم، الى الإعلام الذي يملك حرية الحديث عن المظالم.

يدرك القارىء العالمين من خلال الصوت الروائي الأساسي الذي يكاد يبتعد عن الفعل الذي يرويه، ما يساعده على تقمص دور الحكواتي، ولن يُخلي مساحة القص إلاّ لزميل مثله يعايش الحدث ويشغف بروايته.

فتح البساطي كوة السجن على عالم يقع خلفه، فالولد الذي يدخل مع أبيه الحارس، يتدرب منذ طفولته على كيفية التعامل مع المكان، بما يحويه من عنف كامن، ويتعلم بيع ثمن أتعاب مبادلة الرسائل بين السجناء وأهلهم، فيبدو وكأنه يزيل غربة الطفولة عن عالم يخلو من الحياة الأليفة.يبقى مصير الجنون لمن تقاعد عن هذا العمل، معلقا مثل فاصلة عن خواء المكان، فغياب الوعي عن السجّانين السابقين، وهم من الحراس الفقراء، يلوح ضمن قوانين هذه المؤسسة، حيث يتجاوزه المنتسبون بالعودة الى طفولة تنسيهم حكايات السجن التي يتشكل واقعهم من خلالها.

جنونهم الذي لايؤذي القرية، هو الخاتمة التي تنتهي عندها فكرة الكتمان، انهم يختارون حريتهم بعد أن سقط تكليف المهنة عنهم، وهكذا يصبح هذا التأويل احتمالا بين احتمالات أخرى.ولكنه أيضا يمكن أن يُحسب موتيفا في رواية البساطي التي تحوي الكثير من الموتيفات الجمالية، والتي لاتقيم كبير وزن الى مسلسل الاحداث ضمن منطق تطورها الواقعي.

حكايات السجن التي ينقلها السارد، تتبدل من موقع الى آخر، فالسجناء العاديون بسبب عنفهم، يصوغون قوانينهم ومتعارفاتهم التي لايستطيع السجانون تجاوزها، بما فيها علاقات الحب والشذوذ والتأديب والتصفيات، حيث تتشكل ضمن عالم متحرك، وليس ثابتا.ما من خطاب ينغلق على نفسه عند البساطي، ولا مقولة تتكرر على نحو ميكانيكي، ولعل التهكم البعيد الذي يلوح في ثنايا قصه، يضفي على الرواية ضربا من الاضمار الضروري لتجاور المتنافرات، فلا عالم السجناء العاديين يخلو من اللمسات الانسانية والعذوبة، ولا عالم سجناء الرأي ينجو من تغريب البساطي.فالثقافة التي يلّوح بها سجناء الرأي كي يقاوموا عنف السجانين، تصبح مادة تخفي بين طياتها نوعا من التعالي على الواقع، والاستاذ الجامعي الذي يمنع السجناء الذين لايفهمون كلامه من دخول محاضراته، يمثل غربة المثقفين عن جمهورهم، وضعفهم أمام قوة الاحتيال والخديعة التي يملكها السجانون.

حكايات السجناء، هي المادة التي تتكون منها بنية السرد الأساسية، ومن خلال الترادف بين فكرة السر والعلن في الرواية، يكتشف السارد الوجهين الظاهر والباطن للحياة المصغرة في القرية، وعندما يخلو المكان من السجناء، وتصبح حكاياتهم مجرد ذكرى، يسقط السجانون في الفراغ، ولايعرفون ما يفعلون بوقتهم: "يوم وراء يوم ومفيش خبر عن معتقلين..فكرني ببلاد، الناس فيها تقعد تستنى المطر.".

البطل الذي يحين موعد تقاعده، يسمع أخبار موت الأصدقاء، ويلمح المقهى الصغير على المحطة يعاني من الموات "اللافتة فوقه بهت لونها واختفت حروف من الكلمات بها.تؤرجحها الريح في صوت مسموع.".

يضع البساطي اللمسة الاخيرة لكتاب السجن، حين يغلقه على المعنى العبثي لوجود الأشياء، ولن نجد بين المشهد الأخير، ومشهد جنون المتقاعدين، سوى حلقة الوصل التي يتعدى فيها خطاب القص كل ما من شأنه أن يقصر القول على حجة واحدة.