البساطي يقاوم القبح بــ«فراشات صغيرة»

سيد محمود حسن

من المؤسف أن مجموعة قصصية صدرت أخيرا للكاتب الكبير محمد البساطي تحت عنوان (فراشات صغيرة) لم تحظ بما يليق بها من اهتمام نقدي باستثناء تحية حارة كتبها الكاتب جمال الغيطاني لرفيق دربه في عموده اليومي بصحيفة الأخبار. البساطي الذي سماه الناقد صبري حافظ بـشاعر القصة القصيرة يعود ليفاجئنا مجددا بنصوص رائقة تفيض بالعذوبة، وأحسب أن هذه التسمية لم تأت اعتباطا ولم تكن كتلك العبارات المجازية التي يضفيها النقاد عادة علي اعمال الكتاب.
وعلي خلاف غيره من الكتاب تعرض البساطي لظلم إعلامي كبير حال بينه وبين الحصول علي جائزة الدولة التقديرية للآداب بسبب مواقفه النقدية التي تبناها في السنوات العشر الأخيرة من المؤسسة الرسمية من ناحية، ومن ناحية أخري بسبب اهمال غير معروف دفع جهات الترشيح الي تجاوزه وهو خطأ جسيم ينبغي تصحيحه في أقرب فرصة.
تكشف المجموعة التي صدرت عن روايات الهلال عن تمسك صاحبها بالسمات الفنية لعالمه الراسخ، هو عالم يقف في منطقة غامضة بين ماهو واقعي وماهو فانتازي يفوق الخيال، وعلي صعيد المعاينة المكانية يفضل البساطي اللعب في الملعب المحجوز له في ساحة الابداع المصري منذ منتصف الستينيات حيث الغرام بكتابة المسكوت عنه في الريف، والتقاط هوامشه المهملة، الي جانب تأمل دقيق لعوالم السجن وما تطرحه من تساؤلات عن معني الحرية وقيمتها وما تفعله الأسوار في الأرواح، وعلي خجل قد تتسرب أحوال المدينة وقضاياها.
ومن معايشة طويلة مع عالم البساطي يبدو لي أنه يعيد بناء هذا العالم بعد أربعين عاما من تشييد أركانه، والاعادة هنا لا تعني التكرار وانما تعني تفتيت هذا العالم الي وحداته الصغري، كأنما يسعي الي تكثيف التكثيف أو تصفية الاحاسيس وتقديمها مقطرة بصفاء اللؤلؤء.

وفي هذا المسعي يجدد الكاتب شغفه بقنص اللحظات الهاربة، العصية علي الامساك، يقف منصتا بجلال الي حكايا النساء وهمسهن العابر وحتي أصواتهن التي تنطق بالرغبة تتحول معه الي صيحات أرواح مثقلة بالهموم بفضل لغة طيعة شفافة، تشير ولا تفضح، تقول ولا تجرح.
يتوقف البساطي مجددا في قصص كثيرة أمام عالم السجن الذي خبره خلال سنوات عمله كمفتش مالي في قطاع مصلحة السجون، العالم ذاته الذي تجلي في اأسوارب وفي االخالدية، لكنه يخايل الكاتب والقاريء ما بفضاء جديد كما في قصص االمراياب التي تكشف عن انماط المقاومة الناعمة التي يبتكرها السجناء السياسيون.

وفي قصة بديعة عنوانها االحارس تروي تجربة سجين سياسي حددت إقامته في بيته مع حارس يحسب عليه خطواته، وبعد يومين يقترح الحارس علي السجين ان يستدعي زوجته لتشاركه مهمة المراقبة وعمل شغل البيت، تتدريجيا، يتحلل العالم الكابوسي الذي تلمسنا تفاصيله في بداية القصة، حيث الأوامر التي يعلنها الحارس ويراقب تنفيذها بصرامة لينتهي بنا الحال الي لحظة فانتازية تماما، حيث يبقي الحارس مع زوجته في غرفة نوم السجين الذي يكلف بشراء طلبات البيت لإمتاع الزوجين علي نفقته الخاصة، هي نظرة أخري لمعني الاستحلال والتملك. تنحاز لطاقة الضعف الإنساني أكثر من انحيازها لصيغة البيان السياسي التي ينفر منها كاتبنا الكبير.

وفي قصة أخري بعنوان االزائرب نلمس أثر تجارب السجن علي الأرواح حيث يأتي أحد المفرج عنهم لزيارة عائلة سجين رافقه في زنزانة واحدة، وخلال الزيارة يتبادل الزائر وزوجة السجين حديثا يكشف عن خصوصيات رواها له زوجها في السجن، طبقات السرد التي تشبه نغمة اكريشندوب متصاعدة تخدعنا، تذهب بنا الي غواية متوقعة لكنها لا تأتي، فقط نلمس المعني الكامن من فكرة موت الخصوصية التي يشيعها السجن حيث لايوجد الحيز الخاص.

تتكرر في المجموعة أيضا الاجواء الكابوسية التي تجعل أبطال غالبية القصص مطاردين بهواجسهم، لكن هذه الكابوسية لا تقود الكاتب الي رسم أجواء سوداء، هو فقط يشير، يمنحنا العلامة التي تدل علي الطريق.
وفي المقابل ثمة قصص أخري، تشيع فيها بهجة العالم الذي اكتمل في اصخب البحيرةب ومنها قصص االتوءم، العرسب ويأتي بالشاعرية ذاتها مع تجلي أجمل في قصة عنوانها ازقزقة العصافيرب تروي مسيرة زوجة ريفية قهرها زوجها وقررت العودة الي بيت اهلها لكنها تتوقف في الطريق متعبة وتأوي الي مسجد للراحة، انها قصة كتبها صاحبها بالحواس الخمس وتحتاج الي قاريء له مسام مفتوحة فهي بقدر ما تتيح البهجة، تثير الشجن، شأن قصة أخري عنوانها اطفلب.
تستعيد المجموعة عالم المدن الصغيرة، الضائعة في همومها، كما يجدد الكاتب فيها عقد تعاطفه مع النساء المقهورات، اللائي يحتفظن بمساحات هائلة في السرد ويحضرن كاملات الأنوثة، لكن بطاقة منهكة ومزاج مؤجل يكشف عن حجم القمع الذي يتعرضن له، لكن همس الغواية لايغيب كما في قصة احديث فوق السطوحب أو في قصة اامراة من الضفة الأخري، شقة من حجرتينب والأخيرة قصة ذات طابع عبثي، تفيض بسخرية مؤلمة، يكتبها البساطي باقتدار يتكرر في قصة أخري عنوانها اسينماب تروي تجربة فلاح أسس أول دار سينما في قريته، تنحاز هذه القصة لمتع الحياة كلها وتراهن علي اهمية مقاومة القبح بجميع صوره، مؤكدة أن الانتصار سيكون دائما لأولئك القادرين علي صناعة «نظرية البهجة» وأحسب ان محمد البساطي في مقدمة هؤلاء الكبار الذين نستند إلي أعمالهم كجدار أخير، أو كصوت صارخ في البرية.