سؤال واسع في عالم ضيق

«أسوار» محمد البساطي

فيصل درّاج

كل كاتب حقيقي يثابر على معالجة موضوع واحد، يختبره بلا انقطاع ويعالجه بمنظور فني لا يكفّ عن التطوّر. لكأنه يبصر الموضوع في مثال مصقول، لا قشور عليه ولا زوائد. اجتهد الروائي المصري محمد البساطي في أن يكون ذلك الكاتب، الذي يعاين موضوعه الأثير أكثر من مرة، ويصوغه بطريقة تستأنف ما سبقها وتضيف إليها جديداً. سرد في روايته «أصوات الليل» حكاية الزمن المراوغ، الذي يستبدل بوعوده وعيداً مفتوحاً، وقرأ في «جوع» مفارقات الحياة، التي تضع المشلول في حدائق مزهرة. ساءل البساطي الحياة يميناً ويساراً، وأوغل في ضحك متصادٍ يوقظ الدموع.

في روايته الجديدة «أسوار» يتابع الروائي ما كتبه، وإنْ كانت الخبرة المتراكمة جعلت أسئلته الكثيفة أكثر كثافة، وأضافت إلى الضحك الملتبس جرعة سخية من المرارة. ذهب البساطي، مرة أخرى، إلى الهوامش البشرية وحوّلها إلى نص أدبي، يسرد قضايا الإنسان المركزية، التي تحتضن الميلاد والموت، وتتضمن سخفاً يروي هشاشة الوجود الإنساني بطرق مختلفة. اشتق الروائي، في كل الحالات، المركزي من الهامشي والكلي من الجزئي والجوهري من السطحي، واشتق البكاء من لحظات طافحة بالضحك. ولعل هذا المنظور، الذي يستولد السؤال الجليل من موضوع تخطئه العين، هو الذي أملى عليه أن يقيم روايته الجديدة على مجاز: الضيق، حيث المكان الضيق يقبع في قرية ضيقة، وحيث السجن هو التعبير الأدق عن ضيق المكان وضيق الحياة في آن.

تُستهل الرواية بسجن يجاوره معتقل، يقف خارجهما مكان لا يشبه السجن، تحوّله عادات الحياة، كما سطوة السجن المجاور، إلى سجن آخر. تعالج «أسوار»، ظاهرياً، حكايات التعدد البشري، الممتد من زوار السجناء والمعتقلين والحراس والسجناء والضابط – الجلاّد، إلى هؤلاء الذين رمت بهم أحلامهم المقاتلة وراء الأسوار. غير أن ما يبدو بسيطاً إلى حدود الابتذال تحوّله البصيرة الروائية، شيئاً فشيئاً، إلى سؤال كبير، ذلك أن المبتذل والفقير في ابتذاله ينطوي على اكثر من سيرة: سيرة ذاتية لصبي يلازم والده السجّان ويغدو سجّاناً بدوره، إلى أن تلزمه الحياة بمشية بطيئة استعداداً للرحيل. تبدأ الرواية بصيغة الأنا، وتنتهي بالصيغة ذاتها، ساردة معيشاً ضيقاً وحياة فسيحة الأسى والحرمان. وبسبب حضور السجن الطاغي، تنقلب السيرة المفترضة إلى سيرة ذاتية مقيّدة، كما لو كان السارد سجين مكانه وعمله وعاداته، قبل أن يكون أسير أقداره المقيدة إلى الفقر والموت. بيد أن البساطي، الذي يستولد الواسع من المجزوء، يجعل من سيرة الصبي، الذي لا يظل صبياً، سيرة لوالده، وسيرة لمجاميع من البشر، تتحرك وتعيش وتتكاثر وتظل مشدودة إلى مكان – أساس هو: السجن. يكاثر الروائي السير، منتقلاً من الابن إلى الأب، ومن الابن الذي أصبح أباً إلى الحفيد، ومتسللاً إلى روح الضابط، الذي يرتقي ويخلفه آخر، وإلى شقاء المساجين، الذين لم يتركوا شقاءهم خارج «الأسوار».

مكان ضيق وسير ذاتية مقيدة، لا يفك أسرها إلا الموت وجفاف الذاكرة. يعلّق البساطي، الذي يكتب «رواية الأجيال» بحكايات ممزقة متناثرة، على ما سرده بجملة من المفارقات الصاخبة: فالصبي – الرجل، أو السجان اليقظ، يرى إلى الأسوار وهو يلاعب سرباً من الحمام يطير في الفضاء الفسيح، كما لو كان في تأمل الحمام الطليق ما يعوض عن حياة تبدأ بالأسوار وتنتهي بها، وما يفضح عبثاً إنسانياً لا يحتمل. وإضافة إلى «منطق الطير» الغريب عن «منطق الإنسان»، يتوسل البساطي اللون، موضوعاً وإشارة فنية: فللإنسان المعتقل لونه الأبيض، وللإنسان السجين لونه الأزرق، وللسجين الذي ينتظر الإعدام لونه الأحمر، كما لو كان الإنسان في مدارجه المختلفة يتعرّف بلون لباسه لا أكثر: فعلى لابس الأحمر أن يبكي ويتوه مع أسراره، وعلى لابس الأبيض أن يكون سعيداً، ففي لون لباسه ما يقتصد وجعاً ويعد بمسرّة. بيد أن كل الألوان، وفقاً لمنطق الرواية، تتساوى في النهاية، بسبب ضيق الحياة التي تردم الفواصل كلها.

ولعل أولوية اللباس على لابسه، أو تساوي الإنسان بما يلبسه، هي التي تجعل السجّان المتقاعد يحتفظ بلباسه، بعد تقاعده، يتمسك به ويرفض التنازل عنه، حتى لو عوقب ونهره الآخرون. تكمل دلالة اللباس ما يقول به سرب الحمام وتباين الألوان، مصرّحة بإنسان أُفرغ من جوهره وتحوّل إلى مخلوق تسوسه العادة والامتثال. فتمسك السجين المتقاعد بلباسه الرسمي يشي بمعان متعددة: هيبة السلطة التي تقنع «موظف السجن» بأن قيمته من لباسه، وسطوة العادة التي تأمر الموظف القديم بسلوك وتصرف ولغة ولباس وأمور مختلفة لا يمكن التخلي عنها. فجوهر الإنسان من عاداته، التي تصيّره إلى شيء أو إلى دمية ناطقة. يبرهن استمرار اللباس الرسمي للموظف أنه لا يزال على قيد الحياة، لأن اللباس الرسمي هو الحياة، وما خلاه فراغ واستعداد للموت. ولهذا يحتفظ السجّانون المتقاعدون بلباسهم وعاداتهم ويذهبون في هذيان طويل، يرى أشياء مما كان ولا يرى خارج ما كان شيئاً. ومع أن في فتنة اللباس الرسمي، ما يثير الضحك، فإن الضحك الذي يوهم الروائي به يعج بالأسى، لأن البساطي جعل من الفتنة المفترضة هذياناً جماعياً، كما لو كان السجن يستل من السجان روحه الأولى ويعطيه روحاً جديدة، تنمو وتعيش داخل السجن وتذبل وتذوي خارجه.

وطّد البساطي مساحة الأسى الإنساني بإشارات مختلفة: السيرة الذاتية الجماعية المقيّدة، رواية الأجيال التي ترصد الأرواح المكسورة ولا تكترث بالوجوه، اختصار الإنسان إلى عاداته السلطوية الفقيرة... لكنه، وهو الشغوف بما يضحك ويبكي، أخذ أيضاً بقاعدة: قياس اللاحق على السابق، إذ كل سجّان سائر إلى شيخوخته وفقدان لباسه، وإذ الذهول المشفوع بجفاف الذاكرة ينتظر السجّانين جميعاً. حزن متناثر في الأزقة وعلى الأرصفة، وأسى يعلوه الغبار ويتطاير داخل السجن وخارجه، وأنين متواصل يتسلل من شقوق الجدران والفضاء. لا غرابة في أن يصيّر هذا كله «الأسوار»، تلك الكلمة الغليظة العابسة، إلى مجاز يبدأ بالسجن ويمتد إلى لا مكان. فضيق العيش سور, والضابط السادي سور، والموت المحلّق طليقاً في الفضاء سيد الأسوار. ولا غرابة أيضاً في أن يستهل البساطي روايته – السطر الثاني – بكلام عن الحمام، الذي يحجب لحظة أشعة الشمس، وأن ينهي السطر الأخير بجملة عن «كلب يعبر الشارع»، إشارة إلى ذل ينتظر الإنسان في مكان ما.

كيف تشتق الكتابة من الهامشي والمجزوء والمبتذل عالماً واسعاً يحتضن أشد الأسئلة الإنسانية قسوة؟ وكيف تستقر الأسئلة والأجوبة في كلام مقتصد محسوب لا يقبل بالحذف ولا يرضى بالإضافة؟ أجاب البساطي عن السؤالين كما يجيب عنهما كل كاتب حقيقي.

 

الحياة     - 10 فبراير 2009