»الخالدية» آليات الفساد واستشراف انفجارة الواقع الوشيكة

صبري حافظ

تعد رواية محمد البساطي الجديدة (الخالدية) ــــ وهي روايته العاشرة بعد مسيرة حافلة نشر خلالها تسع مجموعات قصصية وتسع روايات ــــ عملا جديدا على عالم هذا الكاتب الروائي الكبير. فقد خلق محمد البساطي لنفسه عالما روائيا متميزا عبر رواياته المتلاحقة، يدرو معظمه في قرية قريبة من بحيرة المنزلة، تعيش على صيد السمك والزراعة. وإن كانت روايته (ليال أخرى) قد خرجت عن هذا العالم إلى عالم المثقفين في القاهرة، فإنها ظلت استثناءا عاد بعده في روايتيه الأخيرتين (فردوس) و(أوراق العائلة) إلي عالمه الأثير. لكن هذه الرواية الجديدة تشكل إضافة متميزة لعالمه من حيث استشرافها لآفاق تجريبية جديدة على صعيد التجربة الروائية،  ولبنية سردية شيقة على صعيد الشكل الروائي. وتقدم لنا في الوقت نفسه استقطارا فريدا لعالمه القديم ومعالجة جديدة له. لأنها عالمها وثيق الصلة بعالمه من حيث الشخصيات الإنسانية المترعة بالتوتر والقلق الشفيف، ولكنه مختلف في الوقت نفسه عنه من حيث مبارحته للخاص، وطرحه مباشرة في أفق الرمزي والاستعاري والعام. لأن هذه الرواية تسعى لإبراز عملية الترميز الروائية بدلا من إسقاطها في قاع العالم السردي كما اعتاد من قبل. وتقيم جدلها المستمر بين المحكي والمعاش، أو بين المتخيل والواقعي، كي ترهف من وعي القارئ بآليات العالم الذي يعيش فيه من خلال مطالبته بالتحديق في هذه المرآة المتخيلة، والتعرف على صورته وصورة واقعه فيها. فالواقع الذي يخلقه الروائي، وبطل الرواية باسمه الافتراضي «سالم» معه، ليس واقعا افتراضيا أو بديلا، إلا بقدر ما يكون القرين بديلا عن الذات عندما لايتماهى معها. إنه الواقع المتعين ذاته، ولكن في صورة تستقطر جوهره، وتستقرئ دلالاته العميقة وتستشرف مستقبله.

فالرواية تنطوي في بنيتها السردية ذاتها على نوع من تفكيك الكاتب للعملية الإبداعية، وإشراك القارئ في تفاصيل اللعبة الفنية معه. وكأنها تتوجه إلى عقل الكاتب من خلال وجدانه وتستثيره للتفكير فيما يقرأ واتخاذ موقف منه. فالسرد في هذه الرواية سرد جدلي أكثر مما هو سرد افتراضي، يراوح بين سرد ضمير الغائب الذي يستخدمه البساطي كثيرا، وسرد ضمير المخاطب الذي يرهف البعد الحواري في البنية الروائية. وتبدأ الرواية بهذا السؤال الدال: «متى جاءته الفكرة؟ ربما راودته زمنا ولم ينتبه لها. تومض وتختفي»(ص6) وكأن الكاتب يشرك القارئ في ومضات العملية الإبداعية من البداية، ففكرة خلق الرواية ذاتها توازي هنا فكرة خلق عالم بطلها المتخيل، وعالمه الذي يشيده بنفسه «الخالدية» وتشتبك معها باستمرار في نوع من الجدل المفتوح على كثير من الاحتمالات. فنحن هنا بإزاء شخص عادي مسحوق كأغلب أبناء الشعب المصري، أو هو أحد شخصياته الممثلة من حيث عالمه الكابي الكئيب. موظف عادي بسيط «يعمل مراجعا للحسابات في مديرية الأمن» ويسكن غرفة على السطح، في بيت بسيط «من خمسة أدوار، والدور من شقتين، والشقة صغيرة، حجرة وصالة. لم يدخل واحدة منها. علاقته بالجيران اقتصرت على التحيات العابرة. لاهو ولا هم رغبوا في أكثر من ذلك»(ص6) ويتناول إفطاره الصباحي واقفا أمام «عربة فول خلف المبنى يتجمع حولها البعض من الموظفين والعمال  عيناه في طبقه مستمتعا بالرائحة والبخار الساخن»(ص8) هكذا يرسم لنا البساطي منذ السطور الأولى هذا العالم الفقير العاري من أي تواصل إنساني حقيقي. وكأنه يلخص في هذا البيت مصر المعاصرة التي لم يعد يربط أبناءها ببعضهم شيء برغم تكأكؤهم فوق بعضهم في هذه الشقق الصغيرة التي لم ينجح البطل أو بالأحري اللابطل في الحصول على أحداها، وبقي في غرفة متقشفة على السطح. لا يهتم إلا بعالم هذا السطح الخالي الذي يريد أن يحافظ على نظافته في عالم مترع بالأوساخ الفعلية منها والمعنوية على السواء.

ومع أن ثمة أمل يلوح له في إمكانية خلق علاقة سرية واعدة بالمتع الرخيصة بساكنة الدور الثالث التي يغيب زوجها أياما لأنه يعمل بنظام الورديات «ترمقه في انحاءتها. الرغبة في عينيها لاتخفيها  هو بالنسبة لها علاقة آمنة. أعزب في نفس البيت. خطوات وتصبح عنده»(ص7) ولكنه يصدها بطريقة يتأكد بها «أنها لن تعود مرة أخرى»(ص8). فهل عمله في مديرية الأمن هو الذي دربه على تأمين وحدته وإحاطتها بسياج منيع؟ أم أنه غير مشغول عن حاجاته الذاتية بفكرة عالم جديد يصوغ كل تفاصيله بنفسه؟ أم أن عمله في مديرية الأمن له دلالات إضافية من حيث أنها أكثر مؤسسات الواقع المصري منعة، وأشدها فسادا في الوقت نفسه. يستطيع أفرادها أن يفعلوا ما يشاءون في واقع استشرى في التسيب، وغاب القانون، وعاث فيه حراسه فسادا في كل موقع. لذلك ليس غريبا أن تراوده هذه الفكرة البالغة البساطة والدلالة معا. وتلح عليه الفكرة «كم من فكرة جاءته وذهبت. غير أن هذه الفكرة من دونها تعاوده في إلحاح. حتى كانت مرة قال لنفسه وهو يغادر عربة الفول ما أبسطها. كثل كل الأفكار الكبيرة»(ص8) فكرة خلق مركز شرطة كامل على الورق، مركز «الخالدية»، بموظفيه وضباطه، وتقاريره الدورية، وأهم من هذا كله بكشف مرتباته الشهري الذي يستحوذ عليها وحده، كي يؤمن حياته في عالم لاأمن فيه ولا أمان له. وكي يلعب فيه الدور الذي حرمه الواقع من أن يلعبه. دور الشاويش فرحات في «جمهورية فرحات» القديمة النظيفة التي توفر للجميع العمل والعدل والحرية، والتي حلم بها يوسف إدريس في مطلع الخمسينات، وتخثر الحلم قبل أن يشارف التحقق. فجاء البساطي بعد خمسين عاما ليكشف لنا عما دار لهذا الحلم القديم، وكيف نخره الفساد من الداخل وعصف به.

ولأن الفكرة، ككل الأفكار العظيمة، بالغة البساطة، فإن الأمر لايأخذ منه إلا يوما واحدا. خاصة وأن موهبته الوحيدة هي أنه يجيد تقليد التوقيعات التي ستمكنه من خلق عالمه على الورق، فلماذا لايستغلها: «غدا الجمعة. يتفرغ لإعداد الأوراق المطلوبة لتأخذ مسارها يوم السبت  ويمر لدى خروجه على محلات الأثاث المستعمل في العتبة، يشتري مكتبا ومقعدا وآلة كاتبة  قسم مراجعة الحسابات نهاية المطاف لكل نشاط مالي بالمديرية»(ص10) وهكذا يخلق الأستاذ «سالم» في يوم واحد «مركز شرطة الخالدية، هكذا سيكون أسمه، مدينة صغيرة بالوجه القبلي»(ص10) وفي مساء اليوم الموعود ينظر إلى ما أبدع فيجد أنه حسن. «الجمعة مساء. كان قد انتهى من إعداد الأوراق المطلوبة ووقف مستندا إلى سور السطح ينظر إلى الأفق المشوب بحمرة الغروب، يحاول أن يتخيل مدينته التي خرجت إلى الوجود. ستكون على ضفتي النيل. الخالدية أسم جميل. ومركز الشرطة بلون أبيض من دورين. يلا قديمة جرى ترميمها»(ص11) في هذا القسم الأول من الرواية، وهو قسم تخليق هذا المركز الوهمي «ومن يخطر له أنه مركز شرطة وهمي. وأنه لاوجود أيضا للمدينة»(ص10)، يحرص الكاتب على ألا يذكر لنا اسم البطل/ وكأنه يريد لهذا البطل أن يتماهى مع كل من الكاتب والقارئ معا. ولا يحتاج البطل إلى إسم، أو إلى أن يصبح شخصية متعينة، مفصولة عن هذا الواقع الافتراضي، إلا بعد أن يصطدم بإجراءات التنفيذ، بضرورة التعامل مع الواقع، وإيجاد مندوب صرف يستخرج شيك رواتب العاملين بالمركز باسمه. ومع أن البطل قد فرض على نفسه حصارا يعزله عن الواقع، كما يعزل أي خالق نفسه عن العالم الذي يخلقه كي يستطيع التحكم كلية فيه. هنا «تذكر واحدا عرفه بالمقهى. يونس. له اسم أحد الأنبياء وليس له سمتهم»(ص11).

فنحن في عالم الخلق والأنبياء، ولكن أنبياء هذا الزمن الردئ ليس لهم سمت الأنبياء، لأنهم أنبياء ممسوخون كما سنعرف من شخصية «يونس» الذي يعد دراسة روائية شيقة في التواطؤ الدامغ الساذج الذي يتعلل بطهر الذيل وهو والغ في النجاسة والفساد. يغوص في كل ما قاومه خالقه من ملذات رخيصة. ويعرض البطل هذا العمل على «يونس» الذي لايصدق حظه السعيد، ويغتنم الفرصة «مندوب صرف ومرتبه خمسائة جنيه. مؤهل متوسط مثلي، ومرتبي بعد خمسة عشر عاما مائة وعشرون جنيها  آه جهات أجنبية»(ص15) أهي مصادفة أن تكون الجهات الأجنبية هي التبرير الذي اخترعه «سالم» للغواية/الفساد والتي يسقط «يونس» في شراكها ببلاهة؟ لا فكل شيء في عالم البساطي محسوب. حيث الجهات الأجنبية هي أحد وجوه الواقع الفاسد في هذا الزمن الردئ. «وافق يونس أخيرا وأعاطه أسمه بالكامل، وثلاثة نماذج من توقيعه لأبلاغها للبنك»(ص16). وتدور عجلة هذا الواقع الوهمي المادية حيث يصرف يونس شيك المرتبات الشهري وقيمته خمسة وعشرون ألفا ومئتان وأربعة وثلاثون جنيها، ويأخذ منها خمسائة جنيه ويسلم الباقي للبطل الذي يودعها في حسابه الخاص بأحد البنوك. لو اقتصر الأمر على هذه اللعبة الجهنمية لكنا بإزاء قصة من قصصه الفساد اليومية التي يذخر بها الواقع المصري في هذا الزمن الردئ. وربما كانت هذه ـــــ كما يقول البساطي في حديث معه ـــــ إحدى القصص الواقعية التي استلهمها، وجعلها منطلقا لروايته. لكن الرواية تبدأ هنا حقيقة ولا تنتهي.

تبدأ الرواية حقيقة عندما يتخلق هذا العالم المتخيل على الورق، حيث يدخل البطل / الخالق/ الذي منح نفسه اسما افتراضيا هو «سالم» لعبة الخلق ذاتها، يدخل العالم الذي خلقه والذي تشوقه آلياته الرامزة لآليات الواقع الأعرض الذي صدرت عنه الرواية. وحيث تقدم لنا الرواية دراسة في شخصيتين واقعيتين متناقضتين: شخصية «سالم» الحريصة المتكتمة «لاشيء تغير في حياته  حسابه في البنك يتضخم من شهر لآخر. فتح حسابا في أربعة بنوك أخرى حتى لايلفت الأنظار»(ص18) والشغوفة معا بما يدور في العالم خارجها. وشخصية «يونس» الإنسان البسيط الذي غيرت الصفقة الفاوستية، التي باع نفسه فيها للشيطان دون أن يدري، حياته رأسا على عقب. وجعلته نموذجا فذا لحالة التواطوء مع الفساد المستشري التي يعيشها أغلب المصريين، ويدفعون ثمنها الفادح باستمرار وهم عنه غافلون. كما تقدم لنا الرواية بالإضافة إلى الشخصيتين الواقعيتين مجموعة من الشخصيات المتخيلة، أناس «مدينة الخالدية» المتوهمين الذين لايقلون واقعية عن الشخصيتين الواقعيتين، وربما يتجاوزونهما في واقعيتهما بمنطق المنهج الأرسطي الذي يقول أن المحتمل غير الممكن أكثر صدقا من الممكن غير المحتمل. وقبل التعرف على هذه الشخصيات المحتملة التي يكسبها احتمالها صدقا وواقعية، ويعمق من دلالتها على الواقع المصري في هذا الزمن الردئ، علينا أن نتعرف على مصائر الشخصيتين الواقعيتين في هذه الرواية. فقد غيرت ضربة الخلق حياتهما إلى الأبد.

ذلك لأن «يونس» الذي استمرأ الحصول على هذا المبلغ الكبير الذي يعادل مرتبه الشهري أربع مرات، ولا يستأديه غير عمل ربع ساعة، سرعان ما يبدل بحياته القديمة حياة جديدة، أكثر بذخا وترفا، ولكنها ليست أكثر سعادة. أشترى لنفسه «بدلة زرقاء جديدة وكرافته زاهية الألوان، وقميصا ورديا ومنديل من نفس اللون يطل من جيب السترة العلوي»(ص24) فيونس متزوج وأب لثلاثة، بنت وولدين. و«بعد أن كان مرتبه لايكفي وجبتين في اليوم من العيش والفول المدمس هو وأسرته  وامرأته بدأت تعمل في تنظيف البيوت»(ص12) «استأجر شقة جديدة  قلنا نوسع على أنفسنا قليلا، البنت كبرت  وامرأته توقفت عن العمل، قلت لها إن ربنا فتحها علينا. ما يكفينا وزيادة. ومكانك هنا. وسبحان الله خست النص ودوالي في ساقيها، ووجهها تغير لونه لم تعد كما كانت»(ص25). لذلك بدأ علاقة جديدة في الشقة القديمة التي احتفظ بها كي «يختلي فيها بنفسه ويفكر على راحته»(ص26) كما يقول لنا «أتأمل في أحوال الدنيا. دوشة الأولاد في البيت لاتتوقف. التليفزيون بأعلى صوت. والكاسيت بأعلى صوت. لاتستطيع بعد أن اعطيتهم أن تزجرهم»(ص26) هذا منطق بداية تهرؤ العلاقات الأسرية القديمة. ولم يكن هذا وحده هو دافعه للذهاب للشقة القديمة «لا أخفي عليك. فيه واحدة. أنت صاحبي وفضلك كبير  أهو الواحد يشوف يوم»(ص27) وحينما يسأله «وتدفع لها» يجيب «لم يحدث أبدا. نصف كيلو كباب آخذه معي. فاكهة. مرة خاتم، مرة حلق. النسوان تحب الهدايا»(ص28). و«الكباب، كل ما آخذه من الكيلو قطعتين لاغير  رأسي على ذراعها. عارية وطرية وتمام التمام»(ص60). لكن هذه المتع المسروقة لاتدوم. فقد ضبطته زوجته «آه رأتنا. ألتفت وأنا في الفراض ورأيتها واقفة بباب الحجرة ولا صوت خرج منها. ولا صوت. كنت عاريا أبحث عن شيء أتغطى به. لم ترني أبدا عاريا. جارتي جنبي. رفعت رأسها ونظرت لامرأتي. وقامت»(ص96) ولم تقبل امرأته أن تسامحه أبدا على فعلته تلك «تقول اسامحك في أي حاجة إلا ده. لاتأكل أبدا. راقدة في السرير تريد أن تموت»(ص97). و«تغمض عينيها رعشة خافتة بجفنيها. هي راضية بالموت»(ص98) فهي الضحية الكاملة لكل ما فعله «يونس» دون أن يعي أبعاد فعلته النكراء.

أما مصير «سالم» فإنه أكثر تعقيدا من ذلك المصير الذي آل إليه «يونس». ذلك لأن «سالم» لايموت كميته «زوجة يونس» التي توشك أن تكون نوعا من الانتحار البطيء منذ أن حرمها زوجها من العمل الذي كانت فيه رفيقة حياته بحق، واتخذ لنفسه رفيقة أخري في شكل هذه الجارة العشيقة التي دمرت حياته وحياة أسرته. ولكنه يدخل إلى متاهة موت من نوع مغاير.  لا ينفعه فيه دور المحسن المجهول الذي بدأ يلعبه من الفقراء والمحتاجين الذين يعرفه عليهم «يونس» ويلقي لهم بالمال الذي يحل مشاكلهم مرة، ويعقدها مرات. فليس بالمال وحده يحيا الإنسان، كما تقول لنا هذه الرواية في بعد من أبعاد المعنى المتراكبة فيها. إن مصير «سالم» أكثر تعقيدا لأنه يدخل إلى أحراش المدينة التي خلقها، ويتفاعل مع عالمها الواقعي لا المتخيل من خلال هذه الالتفاتات السردية التي يتغير فيها ضمير السرد من ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب. ويصبح جزءا لايتجزأ من عالم المدينة التي خلقها وشخصياتها الوهمية التي لاتقل واقعية كما ذكرت عن شخصيات الواقع المتعين. فالخالدية تنقسم كأي مدينة مصرية إلى عالمين متنافرين: عالم الفقراء الذين يعيشون في «البر القديم» ويعملون في مصنع يملكه «السعدي» أحد سراة المدينة الذين يعيشون في «البر الثاني»، وهو بر عالم الأغنياء بقصورهم الباذخة والحراسات الخاصة التي تكشف لنا عدم ثقتهم في الأمن الذي يوفره المركز بالرغم من احتجاج المأمور «ويوما ناقش البعض معك مسألة تعيين حراسة خاصة لبيوتهم ومحلاتهم. وصحت في غضب: أنتم تهينونني. انتظروا لحين رحيلي وأفعلوا ما تريدون»(ص32)، ولم ينتظروا ولكنهم «قاموا في السر بتعيين حراسة خاصة بهم. واحد أو أثنين في كل مبنى وسط الخدم  وتبدو كأنك لم تفطن للأمر، بل تقبلته بلا مبالاة» (ص32) ومع ذلك «تقع السرقات. ثمانية عشر حادث سرقة في العام. معدل مرتفع  عزاؤك أنهم يعثرون علي الحرس الخاص في البيوت المنهوبة مقيدين ومكممين»(ص33).

وتقيم الرواية عالمها المتخيل باعتباره عالما موازيا لعالم الواقع على الوتر المشدود بين الفقر المدقع الذي يعاني منه أبناء «البر القديم» وفشلهم في الحصول على أبسط حقوقهم في العمل والعلاج، وبين عالم الأغنياء المترع بالبذخ والفساد. سواء في شخص «السعدي» أو «الحاج فوزي» تاجر الأدوات الصحية الذي يقدم للمأمور «خدمات من نوع إيجاد عمل لبعض أقاربك في دول الخليج أو في الشركات الأجنبية ذات الأجور المرتفعة. امرأتك نفسها وكانت تعمل مدرسة لغة فرنسية في مدرسة خاصة، وربما قلت له هذه المعلومة صدفة أثناء كلام معه. فوجئت به يسألك يوما إن كنت  ترغب في نقل امرأتك من المدرسة لعمل آخر. أحد مراكز البحوث الأجنبية، وبراتب يبلغ خمسة أضعاف راتبها في المدرسة. وأراحك ذلك كثيرا»(ص50) ها هو العالم الموازي يؤكد مسألة الجهات الأجنبية لمن فاتته الإشارة الأولى، وكيف أنها أصبحت أحد أدوات الفساد التي تذلل أجهزة الدولة، وجهاز الشرطة فيها خاصة، لأصحاب المال والنفوذ. ولا يكتفي «الحاج فوزي» بتقديم مثل تلك الخدمات للمأمور، ولكنه يدعوه لسهرات باذخة في قصره يجلب لها المأمور نفسه أرقى أنواع الحشيش المأخوذ من الضبطيات المفتعلة والمحسوبة يخرجها المأمور بفخر «هذه المرة حشيش الحكومة. تعبير ظريف. أول من يضحك سكرتير المحافظة. ويرميك بنظرة عتاب. أكثر من مرة يطلب منك أن تتذكره. ولدى انصرافك ستتجاهل ما تبقى من القطعة»(ص55).

ومع فساد أصحاب الأموال والنفوذ، ينطوي عالم الخالدية على فساد المتاجرات في أعراض الفتيات الجميلات اللواتي يخطفن من الريف، ويدربن على الدعارة الراقية في المباغي الحديثة التي تديرها «الست نجوى» بحفلاتها الأسطورية. وبناتها اللواتي يعدن بكرا من جديد بعمليات جراحية لأن «فتح الزجاجة يكلف غاليا»(ص89) و«السعدي» وأمثاله من أصحاب المصانع الذين يأكلون حقوق العمال مغرم بفتح الزجاجات التي توفرها له «الست نجوى» بالعذارى اللواتي تخطفهن لها شبكة واسعة من المتعاونات. و«تفهم أخيرا. آه فتح الزجاجة. حور العين تعود بعدها كما كانت»(ص91). «هي تعرف أنك على علم بنشاطها. وقدرت لك عدم الإشارة إليه من قريب أو بعيد»(ص81) فكم أغلق محاضر البحث عن الفتيات المخطوفات بعدما انتهى الخيط إليها. وتقيم الرواية توترا بين هذين العالمين، يؤدى في النهاية إلى اقتراب الانفجار الذي سيطيح بهذه الثروة الفاجرة. فقد وصلت المركز أخبار «تفيد أنهم في مصنع النسيج بالبر القديم يعدون لإضراب»(ص100). ويزداد التوتر في «الخالدية» ويتوجس الأثرياء خوفا منه، فيفرون كفئران السفينة التي توشك على الغرق. ولا يطيح هذا التوتر بالأثرياء الذين لهم أكثر من مكان ولكنه يطيح كذلك بهذا العالم الوهمي وبخالقه معا «هو ممدد في فراشه. فمه مفتوح وعيناه جاحظتان. والفجر من خلال النافذة المفتوحة يلوح في الأفق»(ص120) أن الرواية تنتهي بالإنذار بالانفجارة الوشيكة. فلم يعد هذا العالم الموبوء المترع بالخلل والفساد ممكنا!

 

(صدرت الرواية عن روايات الهلال عدد سبتمبر 2004)