الأسوار حين تعلو داخلنا

أيقونة محمد البساطي: لغة سهلة وأحزان وطن مسجون بأكمله!

خالد حسين عاشور

في تعريف المعجم الوجيز لكلمة "سور". هي كل ما يحيط بشيء من بناء أو غيره. والجمع أسوار، وبما أن مصر الآن أصبحت محاطة بكل أنواع الأسوار، بداية من الفساد الذي تفوح وتزداد رائحته يوماً بعد آخر فتزكم الأنوف من نتانتها، كذلك العائلة الحاكمة التي انصرفت عن الاهتمام بالشعب المصري المقهور والصامت دوماً في ذل بحثاً عن لقمة العيش التي أصبحت هي الأخرى محاطة بعديد من الأسوار. تلك الأسرة التي لا يهمها إلا تثبيت سلطانها ونقله للوريث المدلل ونخبته الفاسدة التي تتهاوى يوما تلو يوم في قضايا لا نستطيع أن نسميها بقضايا فساد لأنها أكبر بكثير من تلك الكلمة المظلومة دوماً مع العصر المباركي.

ورغم أن كثيرين من الكتاب المصريين والعرب قد كتبوا عن عوالم السجن، غير أن "البساطي" يحتفظ بخصوصية في تصوير الأعماق الإنسانية للبؤس في اشد صوره إيلاماً وحزناً، تلك النماذج المهمشة من البشر والتي أختار "البساطى" أن يجعلها قضيته الشاغلة فتميز باقتدار في الكتابة عن تلك العوالم في جميع مناحي الأوساط البشرية المهمشة من الشعب المصري. الريفية منها والحضرية على حد سواء.

لغة متقشفة وكأنها متون.
في روايته الأخيرة "أسوار" والتي تدور أحداثها في السجون والمعتقلات المصرية وعلاقة السجان بالمسجون، هذان الكائنان المحكوم على كلاهما بالعيش مع الأخر لا فرق بينهما في احتواء الأسوار لهما، تلك الأسوار التي تحيط بالإنسان من الخارج فيلجأ فزعاً وذعراً إلى داخله حتى يتحرر بخياله من تلك الأسوار المحيطة به إن كان سجيناً أو حارساً للسجن. تلك المباني المحاطة بالأسوار والتي يطلق عليها الآن بـ"السجون".

يقال أن الإنسان البدائي. مع بدأ الخليقة.! وقبل اختراع السجون. حين كان يقترف أي جرم ضد أخيه. كان الجميع ينصرف عنه ليتركه في عزلة وحيداً في سجن أشد صعوبة من السجون الحالية بأسوارها العالية. حينها كانت الدنيا كلها بالنسبة له سجن. فالسجن الحقيقي هو أن يحيا الإنسان وحيداً بلا أحد.. وأصعب منه أن يمنع من أن يتحرر بعقلة ويصير الأخير داخل أسوار الخوف والمنع من التفكير وإبداء ما يعن له من الداخل.

يبدأ "البساطى" روايته بجملة قصيرة من جملة المتقشفة وكلماته التي تشبه لغة المتون، غير أنها تخفى داخلها أكثر ما تبدى، يبدأها بجملة تكاد توجز الرواية بكل ما فيها من عذابات النفس البشرية في الصورتين.. السجين والحارس.. يقول في أول الرواية في جملته المقتضبة "السجن غير بعيد عن البيت، أراه بسوره المتعرج عندما أكون فوق السطح أطعم الحمام". وكأنه يقول في داخله. "السجن غير مختلف عن البيت. فكلاهما في وطن أكبر. أسواره أعلى من أسوار السجن، أراه وأشم رائحته الفاسدة وأسمع أخباره المحزنة كل يوم. ذلك السور المتعرج الذي يراه الحارس "الراوي" وهو يطعم الحمام. هذا الطائر المأخوذ دائماً رمزاً للسلام والحرية في تناقض غريب مع الواقع. وكأنه أختار تلك الحمامات التي عودها على أن تأكل من يده، " الحمام يعرف موعد صعودي إليه. أجده في انتظاري، سرعان ما يتجمع حول كفي الممتلئة بالحبوب، يقولون أن الواحد عندما يطعمه من يده فإنه يألف المكان ويعود إليه دائماً". وكأنه يتحرر بتلك العادة اليومية التي ورثها عن والده الذي خلفه بالسجن بعد بلوغه سن التقاعد. بعد أن كان يصحبه وهو لا يزال صبياً، واتفاقه المبرم في سرية مع أهالي المساجين بأن يقوم بدور ساعي البريد لتوصيل الخطابات لذويهم من المساجين بإخفائها داخل ملابسه الداخلية مقابل جنيه يتيم، غير أن العدد حين ازداد بدأ في معرفة الأطعمة التي حرم منها. "تناولت أخيراً وجبة البيض بالبسطرمة التي كنت أتشوق لها. وجيلاتي أيضاً". تلك أقصى أحلام الصبي الفقير الذي خلف أبيه في عذابات الحارس "المسجون"! كأي سجين. لا فرق بينهما في شيء سوى أن الحارس يخرج أحياناً خارج تلك الأسوار ليدخل بيته "الميرى" والذي يدل على انه هو الأخر مجرد سكن ملحق بالسجن. فهو لا يتعدى كونه سكن "إداري" لا خصوصية فيه. يسكنه فقط من يعمل حارساً لمساجين تختلف بدلاتهم من حمراء كرايات الخطر. يختفي أحدهم يوماً بعد أخر بتنفيذ حكم الإعدام فيه، غير أنه بمجرد اختفائه يظهر أخر غيره سريعاً. وكأن الحكم بالإعدام متجدد لا يتوقف على تلك الكائنات المهمشة التي دائما ما يهتم "البساطى" بعوالمها الغريبة. ذلك الحارس البطل المطلق للرواية والذي يأخذ دور الراوي العليم، يتنقل بنا بين الحكايات بسهولة وسلاسة يمتاز بها "البساطى" عن غيره من جيل الستينات من كتاب مصر والوطن العربي. فهو من الكتاب القلائل الذين لا يهتمون بحجم روايته بقدر اهتمامه بالصور الروائية التي تشبه اللوحات التشكيلية المنفصلة والمجتمعة في ذات الوقت. حكايات السجناء والحراس. ومن ثم المعتقل والذي كان يمر عليه مع والده.

"سرت مع أبي حتى الحاجز الذي يفصل السجن عن المعتقل. أعمدة حديد طويلة مغطاة بشبكة من السلك. ألمح من ثقوبها المعتقلين يرتدون ملابس بيضاء وشباشب في أقدامهم. كانوا نظيفين حليقي الذقن بخلاف المساجين".

يكشف من خلاله الراوي العليم. ذلك الصبي الذي أصبح فيما بعد حارس. ليرث مهنة والده الذي ما إن أحيل إلى سن التقاعد حتى تحرر عقلة من كل الأسوار الحسية والمعنوية هو وصحبة من زملائه الذين أحيلوا معه إلى تلك السن التي تخبرك فيه الدولة أنك لم تعد تجدي لها نفعاً بعدها. فيلجأ الأب الحارس القديم إلى التحرر بعقله هو وأصحابه في نوبات من الجنون الجميل. ذلك الجنون اللطيف الذي لا خوف منه ولا ضرر يصيب من يقترب منهم.

"وجاء يوم أصابه الخبل. لم يأت المرض فجأة. كنت في مشاغلي لا أنتبه إليه. أمي قالت باكية:

-       والنبي كنت حاسة من وقت أنه موش هو اللى أعرفه.

لحق باثنين آخرين من الحراس المتقاعدين كانا من جيراننا وفي نفس الحالة.

يمشي الثلاثة بملابسهم الميري متجاورين وسط البلوكات كما اعتادوا وقت أن كانوا في الخدمة، يقصدون الخلاء حيث تتجمع أشجار فوق ثلاثة تلال متجاورة. لا أحد يدري ما يفعلونه هناك. البعض كان يلمحهم وهم يعدون بين الأشجار وصياحهم يترامى إلى البلوكات. والبعض قال أنهم كانوا يلعبون ما يشبه لعبة الاستخفاء. ثم ينفرد كل منهم بتل فلا يراهم أحد، ويتنادون مقلدين أصوات الحيوانات.

كان خبلهم ودوداً. غير خطر، نوبات من المرح الصاخب، مندفعين لا ينتبهون لما حولهم". وتنتهي تلك النوبات الجنونية التي لم تكن تمثل أدنى خطر بموت الأب وصحبته تحت عجلات القطار. ليترك لنا أبنه الحارس الجديد ليكمل لنا حكايات السجن والمعتقل وأسراره. يروى لنا فيما يروي حكاية السجين "عجينة" ذلك الشاذ جنسياً.! والذي يحوله السجن لتقمص دور الأنثى بكل ما تحمله الكلمة من معان، غيرتها المعهودة حين ترى امرأة أخرى تخطف الأضواء منها أو تحاول أخذ رجلها. ذلك السجين الذي أستأثر به أحد المساجين المعروف بقوته العضلية وبطشه والمدعو "فارس". حتى أن الشاذ "عجينة أخذ في التمادي في أنوثته حين شعر بمن يباريه في الأنوثة. ذلك الصبي السجين الجديد الذي جذب الرجال ليحولهم ويصرفهم عنه. فما كان منه إلا أن تمادى في أفعاله الأنثوية وكيدهن. التي أكسبتها له حياة السجن.

"وفلت عياره، راح يدهن شعره بالزيت ويفرقه من النص، ويهز مؤخرته أثناء المشي، ويلوك اللبانة مثل تحية كاريوكا في فيلم رأيناه من أسبوع، وينفخها على شكل بالونة صغيرة ثم يسحبها بلسانه. وفلت عياره أكثر فراح ينتف شعر ساقيه بالحلاوة، ويسير مشمراً إحدى رجلي البنطلون كاشفاً عن ساق بضة ممتلئة. صاحبه "فارس" وكان غليظاً برقبة ثور مبهور بما استجد على صاحبه من تغيرات، يسحبه في شدة من بين المساجين ويختفيان في العنبر. المساجين يخشون التودد إلى عجينة. فارس أعلن من قبل أن عجينة صاحبه، وكان سريعاً في الضرب بالمطواة، لا ينتظر انتهاء الكلام. وسبق أن أصيب ثلاثة من المساجين حاولوا الالتصاق بمؤخرة عجينة في دورة المياه. وخيطت جراحهم في العيادة، ورفضوا في التحقيق أن يتهموا أحداً ".

هذا ما تفعله الأسوار بالبشر. لا تغير فقط في طبائعهم وسلوكياتهم فقط، فهي تتمادى في التغيير حتى تبدل أيديولوجياتهم وتركيبهم الفسيولوجي الذي أكسبتهم الطبيعة إياه. وكأن السجن حياة أخرى لها قوانينها وموازينها التي تختلف عن الحياة خارج تلك الأسوار العالية.

يمضى بنا الراوي "الحارس" في حكاياته. فيحكى لنا عن حكاية السجين الذي تبرع أحد الضباط الفاسدين بالمعتقل لكي يجامل النظام الفاسد في تأديب أحد الصحفيين والذين عرفوا بانتقادهم اللاذع للنظام وفساده. فيتبرع الضابط بأن يرسل له أحد المساجين في اتفاق ابرمه معه على أن يقوم السجين بإعطاء الصحفي الشريف "علقة" موت. تلك الواقعة التي حدثت فعلياً منذ سنوات لصحفي معروف باحترامه لقلمه وما يكتب في مصر التي أصبحت بلا منازع بلد العجائب في حوادث الفساد والتي أخرها حادث رجل الأعمال والمقاولات والمقرب من الأسرة الحاكمة والحزب المتحكم. في إرساله لضابط شرطة متقاعد يعمل مديراً لأحد فنادقه. بمدينة من المدن التي أستأثر بها النظام لنفسه ونخبته. بعد أن دفع له مليوني دولار مقابل قتل مطربة بالكاد كان يذكر اسمها خطفاً.!

ذلك السجين الذي أختاره الضابط لكي يخدم أسياده ليقدم لهم فروض الطاعة والولاء. وأن يخبر الصحفي المضروب بعد أن ينهى مهمته أن لا يتكلم على أسياده من الحكام تارة أخرى وليكن درساً لغيره من الكتاب الذين قد تسول لهم أنفسهم الأمارة بالسوء في انتقاد نظام فاسد حتى النخاع.

" حاول أن يتذكر ما طلب منه الرائد أن يقوله بعد ضربه. بقيت كلمات واختفت أخرى، وكان ينظر إلى قمة الشجرة ورأى عشاً يرقد فيه طير يصفق خفيفاً بجناحيه منتشياً ربما بضوء القمر. تذكر الكلمات ورددها:

-       ده عشان تحترم أسيادك بعد كده.

أشار له أن ينهض، وقف مترنحاً. أثار الحزام قاتمة على جسده الأبيض...." سار الصحفي متعثراً. وفي الطريق قابل من أعطاه ملاءة أو عباءة لف بها جسده".

وكأن "البساطي" يفضح تلك الحوادث التي تكررت مؤخراً في مصر بتلك الرواية الأيقونة. تلك الحوادث الناجمة عن تزاوج السلطة ورأس المال في بلد تتهاوى تحت وطأة الفساد والبطالة والتضخم الاقتصادي المستمر.! رغم أكاذيب الحكام والمسئولين. والحوادث المستمرة والمبرأ دائما أصحابها من أهل المال وأعضاء لجنة السياسات التي تتعدى سلطتها سلطة الأب الذي وصل به السن إلى خريف العمر فترك بلداً بأكمله بين براثن رجال أعمال أكثر فساداً وأطغى من إبليس. تلك الفضائح التي تنتهي دوماً ببراءة فاعليها. وظهور فساد جديد في مصر هو العن أنواع الفساد. إذ أنه يخص هيئة عريقة في مصر هي هيئة القضاء. فقد تم تبرئة صاحب العبارة. قاتل أكثر من ألف نفس. ومن قبله صاحب أكياس الدم الملوث. ومن ثم ستفاجئنا الأيام ببراءة قاتل المطربة المغمورة والمقتولة غيلة وغدر. وربما تنتهي التحقيقات بأن المطربة ماتت منتحرة وأن رجل الأعمال بعدها سيتولى كرسي في وزارة النظام الفاسد حتى الثمالة..

يأخذنا "البساطى" في أيقونته الأخيرة وروايته الفاضحة للمسكوت عنه من فضائح نظام وتفشى الشيخوخة في القيم التي تغير لها مجتمع يعانى أغلبه من أسوار تحيط به من جميع الجهات. ويستبق "البساطى" بروايته تلك ليصرخ صرخة تنبيه في شعب يغرق بأكمله في مستنقع أخشى أن يدوم حتى ينتهي بالشعب كله نهاية بطل الرواية. التي ينتهي به المطاف إلى نفس النهاية المؤلمة التي انتهى عليها والده من قبل. فيصيبه بعد التقاعد نفس الجنون الذي أصاب والده من قبل. وكأن العقل البشرى يتحرر في انفجار بالغ القسوة مع الذات. يسميه العلم مجازاً بالجنون. غير أنه العقل بكل ما تحمل الكلمة من معنى. فجميعنا تصيبنا تلك النوبات الجنونية. خاصة المتابع باهتمام تلك المهازل التي لا يتحملها ذوى العقول الحساسة من الشعب المسكين الذي فقد كرامته على يد النظام الحاكم ورجالاته الأكثر فساداً كل يوم.

تقع الرواية في 112 صفحة من القطع المتوسط. والصادرة عن مؤسسة دار أخبار اليوم المصرية.