ثرثرة سردية دافئة.. ورموز وظلم وظلام

بيروت -رويترز- رواية الكاتب المصري محمد البساطي «اسوار» تتميز بنوع من الثرثرة السردية الدافئة. والثرثرة هنا اشادة لا مذمة فهي التي تخلق جوا من المتعة ونوعا من الاسترخاء وشبه الخدر عند القارىء يرافقه استرسال في القراءة بسهولة وانسياب. صحيح أن البساطي لا يرسم شخصيات مميزة ويدخل في اغوارها النفسية والفكرية وأن شخصياته الرئيسية ذات ادوار باهتة وغير فاعلة وتبدو حتى في الرئيسي منها اقرب الى «كومبارس» او تشبه اولئك «الركاب» الذين يعتبرون انفسهم محظوظين اذا تأمن لاحدهم مقعد في آخر الحافلة او حتى على سلمها او السطح .. لكن البساطي يقول من خلالها الكثير الكثير.
الرواية ليست رواية شخصيات او اشخاص.. انها رواية عن عالم معين لا يراه القارىء مباشرة بل يعرف عنه من خلال فعله في حياة اشخاص الرواية الذين تتشابه حياتهم الى حد بعيد لان خطوطها مرسومة بيد خفية هي يد السلطة او القوة المسيرة. والرواية -على طريقة اغنية فيروز والاخوين رحباني «تعا ولا تجي- تقول الكثير الكثير من خلال ما «لا تقوله» او تكتفي بالاشارة اليه مداورة في كثير من «الخبث الفني» الناجح.
وهل من قبيل الصدفة ان يكون والد بطل الرواية حارسا في سجن وأن يرثه ابنه فيصبح مثله حارسا في سجن ثم يطمح الى شيء من الارتقاء فيصبح حارسا في معتقل لمن يعتقلون لاسباب سياسية. هنا نجد انفسنا نتساءل عما اذا كان هناك في العالم المتحضر الان من نسميهم سجناء سياسيين.. وما معنى ان نحتكر او نكاد في عالمنا العربي وأمثاله هذا «الشرف الكبير»؟ الامر هنا يشبه ما تحمله الكتب من اقوال منها «حقوق الطبع محفوظة» او ما يعبر عنه بمصطلح «الحقوق الفنية محفوظة».
ثم ان مجتمع هؤلاء الاشخاص الصغير منسوج بطريقة تجعل التفاعل محصورا بينهم وتجعل طموحهم يقف باستسلام عند حدود هذا المجتمع الصغير مع انهم يعرفون تماما ما يجري خارجه. كأن الكاتب يقول اننا نتحول او اننا تحولنا بالفعل الى مجتمعات من السجناء والمعتقلين وان الذين منا خارج القضبان هم سجناء ايضا.. فالامر يشبه مثلا الثوب وبطانته. والفرق بينهما ان احدهما من الخارج والاخر من الداخل لكنهما مرتبطان وكأنهما صفحة واحدة. اصدقاء البطل ومن يعاشر هو وافراد عائلته هم جميعا من هؤلاء الناس. يتصادقون ويختلفون ويتجاورون ويتزاوجون من داخل هذه الطبقة وأحلامهم وآمالهم ومخاوفهم متطابقة او متشابهة. وما هم بعد ذلك فقافلة تسير وإن شعر احد بأي غصات فهي مكتومة او مخنوقة.
وردت رواية البساطي في 139 صفحة متوسطة القطع وصدرت عن «دار الآداب في بيروت. في بداية الرواية يرسم محمد البساطي بعض اجواء هذا العالم المرتبط بالسجن. فيقول بلسان البطل الذي دخل السجن اعماق حياته ومشاعره وتصوراته «السجن غير بعيد عن البيت. اراه بسوره المتعرج عندما اكون فوق السطح اطعم الحمام وأراقب الحركة في ساحته الواسعة. المساجين بملابسهم الزرقاء هنا وهناك بحثا عن دفء الشمس ثلاثة او اربعة منهم بالملابس الحمراء.. محكوم عليهم بالاعدام.. يتحركون بين الاخرين اشبه برايات الخطر. يسحبون خلفهم مقاطف يجمعون بها ما تقذفه زوابع الهواء من اوراق اشجار وجرائد وكراسات مدارس». وينشأ الحارس ويكبر ويتقاعد ويبقى احيانا محافظا على دور لم يعد مطلوبا منه وعلى الثياب «الميري» التي تبقى له بعد التقاعد يتباهى بها ويسعى الى ألا تفارق صورته فيها عيون الناس. في المعتقل بشكل خاص يتحول الامر مع بعض مسؤولي المعتقل وضباطه وبفعل الخلاف بين السلطات ومعارضيها الى شيء من السادية والتلذذ بتعذيب الآخرين.
يتحدث المؤلف عن واقع هو ما يكتبه المعتقلون السياسيون في « الجريدة» التي سمحت لهم باصدارها سلطات السجن وكأنها وسيلة تنفيس وتلهية لهم عن القيام باعمال اخرى ثم استعملت ذريعة للبطش بهم تستند الى ما يشكل بعض اسس «سيكولوجية» التعذيب. يقول البطل لصديقه الحارس «ما يفضوها حكاية الجريدة دي ويستريحوا من الاذى.
_ فضوها يا سيدي. اسبوع والثاني سيادة العقيد امر ترجع.
_ ايه ده؟
_ اوه والله زي ما بقول لك. طلع انها سبوبة عشان يضربوهم من وقت للتاني.
_ واحنا محتاجين سبوبة؟»
يجيبه زميله مستندا الى دورة تدريبية كأنها منهج «اكاديمي» في فنون التعذيب والضرب.
قال «تفرق يا سالم. الضرب من غير سبوبة ما لوش طعم. زي رفس الحمير ... يخلي المضروب عايز يخربش... لما تيجي المعتقل يمكن يعطوك دورة تدريبية. انا اخذتها. اسبوع كان الاستاذ يقول لنا.. «قبل ما تضرب شوف سبب اي سبب. ولو عقب سيجارة والع».
اعطي البطل امرا بضرب احد المعتقلين وهو باحث واستاذ جامعي في الاقتصاد. يؤلمه الامر ثم يضطر الى الانتصار على تبكيت الضمير. وهكذا تجري الامور. الاستاذ المعتقل نفسه يدرك ازمة هذا الحارس ويدرك انه ضعيف فقير لا يستطيع التمرد والخروج عن النمط العام. كأن الامر تحول الى نمط مقبول كأنه قضاء الله. وهنا المفجع.

 

جريدة الوطن الأربعاء 15/10/2008