رواية «جوع» وانتصار الجمال على الأيديولوجية

ماجدة حمود

نعايش في رواية محمد البساطي الأخيرة "الجوع" (2007) عالم الوجع والقهر الذي تعانيه أسرة فقيرة في بلدة مصرية، فنلجه تارة قلقين مفتقدين للطمأنينة، وتارة فرحين حين يغادرها الجوع بضع أيام! لكن سرعان ما يعود بصفته فردا من أفرادها! تتبدى لنا جماليات العنوان الرئيسي "الجوع" والفرعي "ادخلوها بسلام آمنين" حين يشكل الجوع والشبع الذي هو مرادف للسلام نبض حياة الأبطال الثلاثة (الزوج زغلول، الزوجة سكينة، الطفل زاهر) فكأن كل واحد منهم يعيش حربا بين الجوع والسلام، فكأن المؤلف يطرح علينا إشكالية: كيف يمكن للجائع أن يحس بالأمن السلام؟ فإذا شبع مضحيا بحريته، ترى هل سيشعر بالسلام الداخلي؟ وبذلك تتسع دلالة الجوع لتشمل الجوع الجسدي والعاطفي والعقلي، فكأن الجوع الذي يعيشه الجسد لابد أن يستوطن الروح والعقل، فتستولي الخرافة على حياة الإنسان الفقير! (إذ يتسبب كسر المرآة في جهاز عروس فقيرة بطلاقها) كما يستولي رجال الظلام، الذين يتاجرون بالدين، على وعي الفقير، إذ يرفضون أي حوار يساعد الإنسان في حربه مع الجوع!

وضع الجوع بصمته على المكان، فشكّلت ندوبه وبصماته، التي نراها عادة تحفر الجسد الإنساني فتحيله إلى كهوف وحفر وانتفاخات، وهذا ما لمسناه في الافتتاحية "واجهة البيت من الطوب الأحمر-انتفخ أسفلها بسبب الرطوبة، وتساقطت بعض حجارتها- الباب من الخشب السميك، كتب على الحائط فوقه بفرشاة لون أبيض.
-
ادخلوها بسلام آمنين-
...
المصطبة تأخذ تجويفا عريضا أشبه بكهف أمام الباب..."
فبدت لنا هوية الجوع قد نسجت ملامح الإنسان والمكان بالخيوط نفسها! وبذلك شملت
أعراض الجوع البيت وأصحابه!

بمثل هذه الجماليات سينقذ البساطي روايته من هاوية الخطاب الأيديولوجي، إذ إن عنوان الرواية "الجوع" يستدعي للوهلة الأولى إلى ذاكرة المتلقي مقولات الصراع الطبقي ومقولات الاشتراكية! لكننا نفاجأ بأن خطاب الرواية معني ببناء عالم فني أكثر مما هو أيديولوجي، حتى خطاب الشباب المتعلم، سمعناه بعد أن أعيدت صياغته على لسان الرجل الأمي (زغلول) وبذلك أسقط منه كل العبارات الجوفاء أو الصاخبة! حاول الروائي أن يقدّم لنا بؤس الفقر وبشاعة الغنى بعيدا عن الشعارات، فابتكر لنا مشهدا يصعب نسيانه، خاصة أنه قدّم عبر صوت الطفل (زاهر) الذي يتلقى علقة ساخنة من والد صديق الغني، فيتمزق جلبابه، لكن حين أعطاه جلبابا آخر جديدا يعوّضه، رماه أرضا وذهب! وبذلك ينتصر الطفل لكرامته، رغم ما يعانيه من عوز!

وبذلك تبدو لنا الشخصية تتجاوز أفق توقعنا! فالفقر لم يدمر كبرياءها، فهي تتسم بفرادة مؤثرة! تعلي قيما إنسانية رائعة، مع أنها تعاني من مجتمع ينتهك هذه القيم!
اهتم الروائي بأن يبعد القتامة عن فضاء روايته، رغم أنه يقدم عالما شديد البؤس، لهذا وجدناه معنيا بتقديم الروح الإنسانية (سواء أكانت امرأة أم رجلا أم طفلا) وهي تقاوم جوعها بكل الوسائل (العمل، الاستدانة، التقاط بقايا الأغنياء وفتات المخبز...) لكن ما يجعلها شخصية مؤثرة على الصعيد الجمالي والإنساني أنها جمعت ما يصعب جمعه في حياة الفقير اليوم: الكرامة والجوع! فجعلنا نعيد النظر في مقولة شائعة في الموروث الشعبي (الجوع كافر) إذ لم تكفر أبطال البساطي بجوعها، وإنما واجهته بكرامة، فزغلول لم يقبل العمل عند من يذلّه ويسبّ أمه، كذلك نجد سكينة حين يلتقط ابنها فضلات الأغنياء، وتجد فيها شيئا ثمينا، تسرع بإعادته لهم!

ومما أسهم في جماليات الرواية بالإضافة إلى الشخصية رسم روح البيئة المصرية، التي لا ترد بيوتها جائعا، فتسعف الإنسان في مقاومة جوعه، خاصة أن هذه الأسرة عرفت بعزة النفس، فهي تستدين ولا تستعطي، ما إن تملك بعض المال حتى تردّ دينها! تشدنا هذه الشخصيات بعشقها للحرية والكرامة، لذلك نجدها تفضل الجوع حين تحس أن حريتها مخنوقة في بيت الرجل الغني (هاشم) الذي تعمل سكينة لديه!

حتى الشخصيات الثانوية (عبده الفران) تمتلك بصمة خاصة تجعلها لا تبرح ذاكرة المتلقي، فهي تعشق الحرية، تعمل بإخلاص من أجل مساعدة الجائعين، وأي خلاف بينها وبين صاحب العمل لا نجده من أجل مصلحة ذاتية وإنما، كي يوزع الفتات على الفقراء، في حين يرغب صاحب الفرن ببيعها! لهذا كان يترك العمل حين يحس بانتهاك لحريته، وبنطلق باحثا عن عمل يمنحه الحرية والقدرة على عمل الخير! وقد أنقذت أيضا لغة الحوار المرحة بين الزوجين فضاء الرواية من سوداوية القهر، فأشاعت الحيوية التي تعبق في البيئة القروية، فعايشنا لغتها ومعتقداتها ولحظات عبثها وجدها!

لعل مما أسس لجماليات الحوار أن الكاتب لم يغرق حواره في عامية فجة، يصعب على المتلقي العربي التفاعل معها، فقد حاول أن يفصّح بعض مفردات الحوار، دون أن نشعر بغرابتها عن سياقها اللغوي! الذي يجسد بيئة شعبية فقيرة! مما يوحي لنا بمدى الجهد اللغوي الذي بذله الروائي!
لا أدري إن كان يحق لنا الاعتراض على منح صوت الرجل حوالي نصف الرواية في حين بدا صوت المرأة والطفل النصف الآخر، دون أن يعني هذا القول تهاونا في تصوير المرأة، يكفي أنه وقع عليها عبء حفظ حياة أسرتها حين ينعدم الرغيف في البيت!

في الختام لا بد أن نتساءل: ألم تستطع رواية "الجوع" أن تمدّ دلالته، فتتجاوز جوع المعدة إلى جوع المعرفة، التي تفتح أمام الإنسان آفاق حياة تليق بالإنسان؟ أليس هذا السبب الذي دفع (زغلول) الفقير لملاحقة أبناء المدارس، ليتعلم من حوارهم، فيستطيع تغيير واقعه، لهذا وجدناه يناقش أحد سماسرة الدين! وبذلك بدا جائعا لمعرفة تغني عقله وتنقذ وعيه من بؤس يحاصر!
أليس هذا الجوع المعرفي الذي يدمر حياتنا؟ ويغرقنا في عالم آلي، ينتـزع إنسانيتنا، ويهبط بها إلى عالم متوحش
!