حكّــــــــاء مشاغب يكفّ عن الكلام المباح

محمد الــــبساطي عاش مهموماً بالمهمشين و«الأيام الصعبة»

محمد إسماعيل

محمد البساطي.. حكاء مشاغب من جيل الستينات في مصر يكفّ عن القص، ينضم إلى الراحلين، إبراهيم أصلان وخيري شلبي، يودع القلم والقراء والحياة بعد مشوار طويل مع القصة القصيرة والرواية، سطر فيه آلاف الحكايات عن عوالم منسية منثورة على امتداد الوطن المصري.

كثيرون كتبوا عن القرية، لكن أقلاما معدودة هي التي أحسّت بأوجاع أهلها المنسيين، كما صنع المبدع البساطي الذي رحل يوم السبت الماضي، إذ عاش بارّا بالمهمشين طوال مسيرته الأدبية، فخطّ لهم تاريخاً من لحم ودم، وسرد بصدق أيامهم الصعبة، كأنه يتحدث عن ناسه وأهله، يقلب في أوراق عائلته هو، ويعكس المعاناة والأحلام المتواضعة لشخصيات بعيدة عن الأضواء والاهتمامات الرسمية.

حفلت عوالم الروائي محمد البساطي بفلاحين من قلب الريف المصري، وصيادين «غلابة»، أصحاب عشش «بوص» ومراكب متواضعة، ينتظرون رزقهم مما يجود به البحر، لا من هِبات حكومات، ولا من منح رؤساء. ألحّ البساطي على تتبع حكايات المهمشين، صنع لهم دنيا خاصة تختلط فيها الحقيقة بالخيال، الممكن بالأسطورة، صادف ذلك هوى لدى نقاد، صنّفوا كتابات البساطي على أنها تنتمي إلى تيار الواقعية السحرية الآتي من الطرف البعيد من العالم، من مبدعي أميركا اللاتنية، لكن يبدو أن ذلك التصنيف لم يعجب الروائي الراحل، الذي أشار أكثر من مرة إلى أن يوميات المصريين حافلة بما هو أغرب من الواقعية السحرية، معتبراً ان شخصيات قصصه ورواياته ينتمون إلى طين ذلك الوطن، ولديهم الكثير مما يستحق أن يروى بأشكال سحرية.

دخل محمد البساطي إلى أعماق أبطاله، تعاطف معهم، وروى أحلامهم، لكنه في الوقت ذاته لم يحطهم بهالات، ولم يضفِ عليهم تقديساً ما، فبلا رتوش تجميلية، تبرز في قصص البساطي نقاط الضعف البشرية، وتحضر خفايا النفوس وأسرارها مضفورة بعذابات المعاناة اليومية، ورحلة البحث عن احتفاء ولو مؤقت بالحياة.

على ضفاف بحيرة
شكل الفلاحون والصيادون وعي البساطي الأول، إذ ولد صاحب «صخب البحيرة» على ضفاف بحيرة المنزلة في دلتا مصر، واترعت ذاكرته بمشاهد وذكريات خاصة في ذلك المكان، فبقي قلمه مخلصاً له حتى بعد الاستقرارفي القاهرة بعقود، إذ ظل يستلهم من شخصيات بيئة النشأة الأولى، حيث الجزر الصغيرة وسط بحيرة المنزلة، وغيطان الريف المترامية على «مدد الشوف».

نقش محمد البساطي اسمه كواحد من أهم الروائيين المصريين والعرب، إذ يعد الراحل صاحب بصمة شديدة الخصوصية في الكتابة، سارداً بمذاق مختلف، رواياته وقصصه القصيرة خالصة من الشوائب، ومصفاة من الثرثرات البلاغية والترهلات المصطنعة، إذ خاصم مبدع «جوع» و«وسريرهما أخضر» المطولات، فغالبية رواياته بدأت في الأصل مشروعات قصة قصيرة، غير أنها تشعبت، وفرضت على الكاتب مسارات أخرى، ودفعته إلى معالجتها في صفحات قد تتجاوز الـ،100 أو دونها بقليل.

اعتمد الراحل محمد البساطي على الإشارة البسيطة، واللمحة السريعة التي قد تغني عن الكثير من السرد، اجتذبته الجمل السريعة القصيرة، والاسلوب المقتصد المطرز بشاعرية خاصة، سلمت رواياته التي كانت تتحمل - لو أراد هو ذلك - من زوائد الكلمات والعبارات الطنانة التي لا تضفي على العمل الروائي سوى مزيد من الصفحات.

اختزال
استطاع محمد البساطي عبر ذلك الاختزال التعبير عن الكثير من الشخوص والأحداث والأزمنة والأمكنة، إذ إنه في معظم قصصه ورواياته كان يعرّج على أجيال مختلفة، فعلى سبيل المثال تتطرق روايته «أوراق العائلة» إلى تفاصيل عدة من حياة الراوي، والأب، والجد، والجد الأكبر كذلك، يبدأ البساطي حكاية الأجيال مما قبل النهاية، ويستعيد عبر صفحات الرواية أحداثاً كثيرة، يظل القارئ يسير معها إلى أن يجد نفسه قد عاد دون أن يشعر إلى زمان بعيد، وحياة مضى عليها عمر، ويرجعه الحكاء الماهر إلى نقطة البداية، جامعاً كل أطراف الأحداث في بؤرة زمانية ومكانية ما، والغريب أن محمد البساطي يصنع ذلك في صفحات قليلة، دونما حاجة إلى إطناب وتكرار، وعود على بدء، كما هي الحال لدى كثيرين من كتبة المطولات الروائية التي تحتاج إلى أيام لقراءتها، بينما قصص محمد البساطي ربما لا تحتاج إلا لجلسة واحدة لمطالعتها.

يقول محمد البساطي في شهادة له حول روايته «صخب البحيرة» التي صدرت عام 1994 «بدأت رواية صخب البحيرة في ذهني كقصة قصيرة أردت كتابتها عن صياد عجوز يتجول بلا كلل في البحيرة، وعندما يحس يوما بالوهن واقتراب الموت يبحث عن شاطئ، ويحفر حفرة يجلس بجوارها حتى تأتي اللحظة، كانت الفكرة بهذا الشكل ساذجة إلى حد كبير، غير أن تجوال الصياد في البحيرة وشخصيته المتجهمة بوحدتها الشديدة، وعزوفه عن العالم، كانت تجذبني وتلحّ بقوة، ما اقتضى أن أعيد النظر فيها، وأخذت الفكرة تتّسع تدريجيا، فبدلاً من أن يحفر قبره أقام كوخاً وكأنما يتلمس دف الأرض قبل أن يموت، واستدعى وجود الكوخ أن تكون هناك ألفة إنسانية، فجاءت المرأة وولداها، كانت القصة تنساب وتشكل نفسها، وعندما بدأت الكتابة أخذت ملامح شخصية الصياد العجوز تتضح شيئاً فشيئاً، وكان لابد من أسباب تدفعه لهذا التجوال، وأحسست أن الأسباب المحددة بشكل قاطع أو تلك التي اعتدنا عليها ستخل على نحو ما بهذه الشخصية المفتوحة والمنطلقة كأنما ترزح تحت هم لا يطاق، أو وهم يدفع بصاحبه إلى حافة الجنون. كانت هذه إحدى المشكلات التي استطعت علاجها بعد جهد أثناء الكتابة. والحقيقة أن الصعوبة في الكتابة تتبدى من ذلك الإيقاع الغامض الذي يقود الكاتب أثناء العمل، فيوقفه أحياناً عن المضي فيها، ولدهشته يجد أن مشهداً كتب بشكل جيد وربما كان العمل لا يتحمله، ويتأمله الكاتب متردداً، ويكون عليه في هذه اللحظة أن يحسم الأمر. غير أن هذه الحسم لا يأتي بسهولة أبداً، وعندما يختفي هذه الإيقاع أحس بالقلق».

في روايتيه «أسوار» و«وسريرهما أخضر» يرتحل محمد البساطي من عوالم الريف، إلى مهمشين آخرين، إذ تسعى «وسريرهما أخضر» التي صدرت العام الماضي، وتعد من آخر إبداعات البساطي، إلى ردّ الروح وعافية الحياة إلى معتقل ذاق ويلات السجن، وخرج منه بقايا إنسان، بلا ذنب إلا أنه كان يمر مصادفة بجوار إحدى التظاهرات في وسط البلد بالقاهرة. بعد المعتقل يصادف الرجل حبيبة تهيئ له سريراً أخضر، وتحاول أن تخرجه مما هو فيه. وفي هذه الرواية يحافظ البساطي على عهده مع «النوفيلا»، إذ تقع «وسريرهما أخضر» في 129 صفحة، منسوجة ـ كعادة البساطي ـ بتكثيف لا كلمة فائضة عن الحاجة، ولا محل للثرثرة، أو الوصف المسهب.

 

التاريخ: 18 يوليو 2012