«وسريرهما أخضـــر».. عودة الروح بجرعات من الحب

محمد إسماعيل

ما الذي تفعله المعتقلات والسجون في البشر؟ وما تداعيات العيش وراء اسوارها الكئيبة، حارساً كان المرء أو محكوماً؟ ولماذا يكون الجنون مصيراً يطال السجّان والسجين على حد سواء؟ أسئلة يثيرها، ويحاول الإجابة عنها الكاتب المصري محمد البساطي في روايتيه «أسوار» و«وسريرهما أخضر». في «أسوار» يصيب الخبل حرّاس السجن المتقاعدين، من يرفضون الحرية، ويتمسكون بزيهم «الميري»، وعندما يسلبه الزمن منهم، يسرقون غيره، ويعودون إلى ما وراء أسوار السجن والمعتقل، وحين يطردون يهيمون على وجوههم في براحٍ لم يألفوا نسماته.

أما في «وسريرهما أخضر»، آخر أعمال البساطي التي صدرت منذ شهور، فالجنون ونوبات الهياج العصبي وارتعاش الأطراف مآل بطل الحكاية (يوسف)، بعد المعتقل، وما تعرض له من تعذيب، والرواية رحلة لاستعادة عافية الروح والعقل المفقود، بجرعات من الحب يتلقاها يوسف من بطلة العمل (سهير).

بلا إسهاب في وصف يوميات التعذيب، نجح البساطي في إبراز التجربة المريرة التي تعرض لها بطل «وسريرهما أخضر»، مكتفياً بتداعيات كلمة معتقل، وتصوير حال يوسف بعد خروجه، إذ لم تكن حاله مجرد انتكاسة نفسية تتطلب دعم صديق، أو جلسات فضفضة مع بعض الأحبة، حتى يبرأ صاحبها، ويمارس حياته الطبيعية، حيث خرج البطل من محبسه الذي بقي فيه عامين، بقايا إنسان، فاقد القدرة حتى على الكلام، ولذا كان بحاجة إلى نبع حنان، أمّاً وحبيبة وصديقة في الآن ذاته، يستكين في حضنها، ويودع التأتأة، ويتذكر قاموس الثقة في البشر من جديد. وعلى السرير «الأخضر» تنفك عقدة لسان يوسف، يطمئن، فيعود إلى زمن بعيد، يحكي عن الجذور والبدايات، والقرية، والأم والأب وزبيدة الفلاحة الصغيرة، وزيجات العمة، وغيرها من القصص التي يستدعيها في أوقات والحب.

ولد الأديب محمد البساطي في عام ،1937 في بلدة تطل على بحيرة المنزلة في محافظة الدقهلية المصرية، كتب القصة القصيرة مبكرا، وفازت إحدى قصصه عام 1962 بالجائزة الأولى على مستوى الجمهورية، وبدأ بعدها مشوار النشر في مجلات وجرائد مصرية، ورأس تحرير سلسلة «أصوات» التي تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر. للبساطي عدد من المجموعات القصصية، من بينها: «الكبار»، و«حديث من الطابق الثالث»، و«أحلام رجال قصار العمر»، و«منحنى النهر»، و«ساعة مغرب»، و«الشرطي يلهو قليلاً»، و«نوافذ صغيرة». ومن أبرز رواياته «التاجر والنقاش»، و«صخب البحيرة»، و«فردوس»، و«أوراق العائلة»، و«الخالدية»، و«دق الطبول» و«جوع». حاز البساطي العديد من الجوائز، إذ حصلت روايته «صخب البحيرة» على جائزة أحسن رواية في معرض القاهرة للكتاب عام ،1994 وفاز بجائزة سلطان العويس عام 2001 مناصفة مع القاص السوري زكريا ثامر، ووصلت روايته «جوع» إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، وحصدت روايته «دق الطبول» بجائزة ساويرس الأدبية، ويعتبر نقاد البساطي من أبرز الأصوات الروائية والقصصية في مصر والوطن العربي، وصاحب بصمة خاصة في السرد العربي.

مشاهد
تتداعى إلى وعي قارئ «وسريرهما أخضر»، لاسيما في الفصل الأول، مشاهد من «أسوار»: المعتقل المنفصل عن السجن، وحصص القهر والتعذيب، والظهور المخططة بالجروح، والإضرابات عن الطعام، احتجاجاً على التعذيب والمعاملة اللا آدمية، والسجانين المتسلطون، والمعتقل الذي لم يتحمل جسده الواهن التعذيب، ومات بعد شهور قضاها عليلاً، وغيرها من الصور التي تجعل الروايتين بمثابة عمل واحد متصل.

يحافظ محمد البساطي على عهده مع «النوفيلا» إذ تقع «وسريرهما أخضر» في 129 صفحة من القطع الصغير، منسوجة ـ كعادة البساطي ـ بتكثيف شديد، ولغة سريعة، قصيرة الجمل، لا كلمة فائضة عن الحاجة، ولا محل للثرثرة، أو الوصف المسهب.

يستهل الكاتب الفصل الأول من الرواية باقتباس من «سفر الجامعة»: «كالأسماك التي تؤخذ بشبكة مهلكة.. وكالعصافير التي تؤخذ بالشرك»، وما أكثر الفخاخ المنصوبة لشخوص الرواية جميعهم، وليس لبطلها يوسف فحسب، فعلى الرغم من أن (سهير) كانت المنقذة، لحبيبها على الأقل، إلا أنها لم تسلم هي الأخرى، من حياة مفخخة بالشباك: انفصال الأب عن الأم مبكرا، ويتم في مرحلة كانت تنتظر فيها عونا وسندا، واغتصاب قاس، وبحث عن الحبيب، ورحلة علاج طويلة معه.

رحلة
تستهل الرواية أحداثها بمشهد خروج يوسف من المعتقل، وسيره وراء حارس كان مكلفا بضربه في نوبات التعذيب، خلاص يوسف لم يأتِ نتيجة حكم قضائي، أو عفو عام، بل نتيجة لأسباب صحية، إذ صار عبئا على سجانه، وكان لابد من الاستراحة منه، والتفرغ لغيره من المعتقلين. سنتان قضاهما يوسف الاستاذ الجامعي خلف القضبان، وعلى الرغم من ميوله السياسية المعارضة للنظام إلا أنه اعتقل عن طريق الخطأ، إذ تم القبض عليه أثناء مروره بجوار مظاهرة في وسط القاهرة.

يخرج يوسف، لا يعرف المضطرب المريض مكاناً، تأخذه قدماه إلى مقهى كان يجلس عليه قديماً، تعثر عليه سهير بعد يوم عملها صحافية في إحدى وكالات الأنباء، تفاجأ بمنظره: «هو يوسف. أفلتت منها صيحة خافتة.. كان مهلهلاً.. ملابسه.. كل شيء.. نحف كثيرا.. وجهه شاحب منهك، وعيناه تائهتان بين العربات المكدسة في الطريق.. حذاؤه متهالك تبرز منه أصابع قدميه».

وتبدأ رحلة العلاج؛ تستدعي سهير طبيباً، يصف له بعض الأدوية، لا تفلح في شيء، ينكمش يوسف أكثر على ذاته في وضع جنيني، يسترق النظر أحيانا إلى الشارع من ثقب جدار، يفرح بألعاب الصغار التي اشترته له سهير، يتبادلان الحب والحكايات والكوابيس، وذات صباح تجده سهير بصورته القديمة، متأهباً للذهاب إلى الجامعة، بعد أن «استعاد نفسه»، وأفاق من غيبته الطويلة.

عوالم
لم يغادر الروائي والقاص محمد البساطي عوالم القرية، وشواطئ البحيرات والصيادين، التي تربى بينها، إلى صخب المدن، وقسوة شوارعها، إلا في مرات معدودة، ولعل رواية «وسريرهما أخضر» الصادرة عن دار الآداب اللبنانية، إحدى تلك المرات القلائل، إذ تنتقل إلى فضاء القاهرة، وجو وسط البلد، وبعض ما جرى في السنوات الماضية من تغيرات، مظاهرات المحتجين على الأوضاع الكارثية التي كان فيه الوطن، ومتاريس وأمن ومصفحات واعتقالات: «ضجيج المظاهرة يتبعها وهي تمضي من شارع رمسيس، المتاريس تغلق الشوارع، حتى الجانبية منها، أشبه بالخوازيق، الناس يمشون على الأرصفة الضيقة ملتصقين بالجدران، عربات مصفحة على نواصي الشوارع، حولها رجال أمن بملابسهم السوداء والرشاشات بأيديهم، من ضد من؟ واين العدو؟ تجنبت سهير السير بالقرب منهم، يقال إنهم يدربونهم في الصحاري وفوق التلال. يمنعون عنهم الطعام والشراب أياما ثم يطلقونهم، يأكلون ما يعثرون عليه، ثعابين فئران جذور النباتات الشوكية، ويأتون بهم إلى الشوارع، عيونهم على الناس وهم يمضون كأنما يشتهونهم، المرأة السمينة التي تمشي على مهل، يستديرون نحوها، لحمها وافر، ايه يا سهير شطحت في أفكارك، لم أشطح ، أكلوا الثعابين والفئران، ينظرون إلى المرأة ويرون لحمها يترجرج. والأطفال بعمر سنتين وأصغر، تبتعد المرأة بابنها، ربما رأت عيونهم تحدق إلى الولد، كان هناك رئيس بلد إفريقي، قرأت الخبر في الجريدة، وهي صغيرة نسيت اسمه، يأتونه بالأطفال يتناولهم في شهية عظيمة بعد الشواء، عثروا في الثلاجة بعد موته على عدد منهم، كل واحد في كيس معدّ في وجبة».

 

دبي  جريدة الأمارات اليوم في 06 يوليو 2011