كاتب الصمت والظلال

محمد البساطي يفوز بجائزتين في شهر واحد

عزت القمحاوي

يواجه كآبة الواقع بالفنتازيا ولؤم المديح بالسخرية!
القصة بيتي مهما تعددت زياراتي للرواية
يصنع من السكون عالماً صاخباً
تزوره البهجة عبر المسرات الصغيرة
اللغة جزء من تكوين الكاتب، جزء من خياراته
في الحياة وفي القراءة والكتابة
الجائزة تشعر الكاتب  بالرضا،
ولكن ذلك لا يدوم طويلاً،
حيث تعود الوساوس سريعاً، ويعود عدم الثقة فيما يكتب
العلاقة مع زوجة الأب تيمة موجودة موجودة منذ سوفوكليس، ولن يصادرها يوسا، أنا قرأت روايته، وهي عمل بورنو بإيقاع بوليسي ونهاية تعليمية

 

في مصر يقولون "الفقي لما يسعد." والفقي هو الفقيه، والمقصود قاريء القرآن في العزاء، وبقية المثل أنه يدعى إلى حفلي عزاء في ليلة واحدة. الروائي محمد البساطي، لما سعد، فاز بجائزتين بينهما شهر واحد، إذ صعدت روايته "جوع" ضمن قائمة الستة في جائزة البوكر العربية في الثاني عشر من ديسمبر الماضي (سيتم الإعلان عن فائزها الأول في 16 مارس القادم) وفي الحادي عشر من يناير فاز بجائزة ساويرس الأولى في الرواية عن روايته "دق الطبول". وقد جاءت الجائزتان لتردا للكاتب شيئاً من غيبة جوائز الدولة المصرية عنه، حيث إنه غير مطروح لجوائز الدولة في مصر، رغم استحقاقه لها.

الجائزة الأولى والأخيرة التي حصل عليها من مصر، كانت من نادي القصة عام 1962 ولتلك الجائزة حكاية، توضح لماذا صارت تلك الجائزة الأولى والأخيرة!

لا يتذكر البساطي الحكاية إلا ويضحك. فاز بالجائزة الأولى عن قصته "الهروب" التي دخلت بعد ذلك في مجموعته الأولى "الكبار والصغار" عام 1967. وكانت قيمة الجائزة 60 جنيهاً، خصص عشريناً منها لتأسيس مكتبة أدبية كاملة، كما حصل على ميدالية ذهبية باعها بعد ذلك.
وبالنسبة للمراهق الفائز، كانت مصافحة الزعيم جمال عبدالناصر أهم ما في الجائزة. وقد اصطحبه إلى الحفل في سيارته الأديب يوسف السباعي المدجج بالمناصب في ذلك الوقت، وعامله بحفاوة بالغة طوال الطريق سائلاً عن بلده، تعليمه، أسرته، وعندما دخل به إلى سرادق الاحتفال الذي سيوزع فيه عبدالناصر الجوائز في عيد العلم، كان قد وصل في محاولة التعرف عليه إلى سؤاله: لمن تحب أن تقرأ يا محمد؟ فأجابه بحماس: يوسف إدريس. وما كان من السباعي إلا أن أفلت يده، وتركه يبحث عن مكانه في السرادق الكبير، ولكن ذلك لم يمنع البساطي من المواظبة على ارتكاب مثل تلك الحماقات إلى  اليوم، وهو ما باعد بينه وبين كل الجوائز  الرسمية في مصر!

للحكاية السعيدة للحفل، بقية مثيرة للشجن، فبينما توجه السباعي إلى مقعده بالصف الأول، أخذ البساطي يبحث عن مكانه في الصفوف الخلفية، ولمح بين الحضور في آخر القاعة الكاتب العظيم يحى حقي، وكان يعرفه من الصور. توجه إليه ومن فوره قام يحي حقي وصافحه بحرارة. وبعد سنوات طويلة قابله في مكان آخر، مقدماً له نفسه: أنا محمد البساطي يا أستاذ يحي، هل تتذكرني؟ فأجابه الرجل: وكيف أنساك، لقد كنت الوحيد الذي صافحني في تلك الليلة!

يبدو البساطي راضياً بالتقدير العربي والأهلي المصري، الذي يعوض الاعتراف الرسمي المصري، قبل الجائزتين الجديدتين فاز بجائزة سلطان العويس عام 2002 مناصفة مع القاص السوري زكريا تامر.
عابثاً يعلق البساطي على فوزه بجائزتين "طبعاً كلما زادت الجوائز كان هذا أفضل، أتمنى أن أفوز بالمزيد" ثم يضيف جاداً: "هذا نوع من التقدير للكاتب، لابد أن يشعره بالرضا، ولكن ذلك لا يدوم طويلاً، حيث تعود الوساوس سريعاً، ويعود عدم الثقة فيما يكتب".

الذي يقرأ البساطي يحبه بالتأكيد، ومن يعرفه يحبه أكثر. لا يمكن أن تراه على شاشة تليفزيون، ونادراً ما تراه على منصة مؤتمر. يتندر على أدائه في المناسبات القليلة التي وافق على المشاركة فيها من أجل رؤية المكان فحسب. في فرنسا جلس بين أحمد عبدالمعطي حجازي وجمال الغيطاني في ندوة حول "التراث والمعاصرة" وكانت مداخلته التي أدهشت الحضور من جملة واحدة: أوافق على ما قاله الزميلان!

في إيطاليا كان الأمر مختلفاً: "كنت مع بهاء طاهر فقط، وكان لابد أن أتكلم لوقت أطول من وقت محاضرتي الباريسية؛ فغافلته واستللت بعضاً من أوراقه، قرأتها وتجاوب الجمهور معي تماماً"!

السر في بئر!
يبدو أن عدم اليقين والخوف الدائم هما بعض أسرار استمرار البساطي، لا بمعنى مراكمة عمل وراء الآخر، بل بمعنى استمرار الحساسية، واستمرار الدهشة.
بعد مجموعته الأولى بثلاث سنوات جاءت المجموعة الثانية "حديث من الطابق الثالث" عام  1970 ثم كانت روايته الأولى "التاجر والنقاش" 1976 وقد طالت المدة بين المجموعة الثانية والرواية الأولى، لأنه  كتب بينهما رواية أخرى لم يرض عنها وتركها بلا عنوان، أو نشر.
بعد ذلك أخذ البساطي ينشر مجموعة قصص بعد رواية، وفي  السنوات الأخيرة (بعد الألفين) أوقف خط إنتاج القصة، لكن الروايات التي كتبها في هذه الفترة  أقرب إلى النوفيلا، وكأنها مزج بين النوعين. أحدث أعماله "أسوار" التي وصلت بعقده إلى ثلاثة وعشرين حبة،  تسع مجموعات قصصية وأربع عشرة رواية.

و"الحبة" تعبير خاص بالبساطي، يشير به إلى القصة لا الرواية، يهاتفني "خلصت حبة جديدة حابب أمررها عليك تقول لي رأيك".

ينصت لأراء  أصدقائه قبل النشر بأكثر مما يفعل تجاه النقد، كما إنه لا يمتلك مقولات نقدية حول كتابته، لكنه ـ مثل فلاح مجتهد ـ يعمل على تطوير حقله، من خلال النظر إلى بساتين الآخرين؛  فهو أكثر الروائيين قراءة للفن الروائي حتى لتكاد قراءته تقتصر على هذا الفن دون غيره. كما تقتصر كتابته على السرد على الرغم من إنه يهوشني شخصياً بمشروع مقال بانتظام شديد منذ سنوات. وذات يوم سأتولى نشر المجلد الكامل للمقالات التي لم يكتبها البساطي، فهو يراقب الصحف، ويستفزه حدث ارتكبه سياسي أو مقال اقترفه كاتب، فما يكون منه إلا أن يهاتفني: "شفت ياواد ابن الـ ... عمل إيه؟". وبعد هذه الدهشة ينتقل إلى أنه ينوي الرد بمقال سيقول فيه كذا وكذا، وبعد أن أؤكد له بأنني سأنتظر مقاله، يعود ليقول لي: "بقولك إيه .. ما تكتبه انت"!

هكذا صارت لدي مئات المقالات التي لم يكتبها البساطي، لأنها لم تتجاوز أبداً منطقة النوايا، كما صار لدي يقين بأن سر البساطي الثاني هو الإخلاص للجنس السردي.

روايته المرشحة للبوكر "جوع" تتمحور حول أسرة فقيرة: الزوج زغلول، والزوجة سكينة وولدين. المرأة لاتكاد تغادر مجلسها أمام الدار إلا لتستلف رغيفاً من هذه الجارة أو كوب زيت أو ملعقة شاي أو سكر. والزوج أجير يعمل يوماً ويتعطل أياماً ويقوم بأعمال هامشية مجانية يتلف فيها ما يتبقى من وقته مثل المساعدة في مناسبات العزاء والأفراح. والطفلان بين الاستلقاء في حجر الأم أو الاستلقاء جنب الجدار.

هذا هو كل شيء في حياة تبدو غير جديرة بأن تحكى، لكن البساطي يصنع من هذا السكون عالماً صاخباً تزوره البهجة عبر مسرات صغيرة، تشبع تطلعه إلى الحياة، مثلما يمثل وجود رغيف الخبز الحاف نوعاً من الرضا يتحول إلى سعادة عندما يكون هناك غموس بسيط كقطعة مخلل أو "لحسة عسل أسود"!

أصر البساطي على  "جوع" بالرغم من وجود  رواية "الجوع" لـ "كنوت هامسون"  يقول: "حاولت مع أكثر من عنوان، لم أجد غير "جوع" وعنوان الكلمة الواحدة ليس ملكاً لأحد، بل إن كويتزي اتخذ من قصيدة كفافي الأشهر من أن تختفي "عودة البرابرة" عنواناً لإحدى رواياته". واللغة في الجوع متقشفة في  تواز مع تقشف العالم الذي تروي عنه، فهل قصد البساطي أن تكون اللغة موازية لتقشف الواقع؟
لا يتحمس كثيراً لهذا التفسير: "لم أفكر بهذا، لكن اللغة جزء من تكوين الكاتب، جزء من خياراته في الحياة وفي القراءة والكتابة "لغتنا جزء منا، حتى من دون أن نعي ذلك، تجدني أفضل في قراءتي الأعمال الصغيرة، وقليلة هي الأعمال المسهبة التي أحببتها، لا أتحمل الرطرطة من الآخرين، فكيف أقبلها من نفسي. البعض يكتبون بالأقة، وهذا يكون على حساب العمل".

الحنين إلى المفقود
في "جوع" وفي معظم رواياته وقصصه، ريف لم يعد موجوداً، هو صورة في ذاكرته، وهذا لا يزعجه، لأنه وإن تغيرت طرائق الحياة ـ للأسوأ ـ فإن  الشخصيات الهامشية التي يكتب عنها لم تزل موجودة، "ثم إن الكتابة لا تتطلب وجود العالم، ربما يكون العكس، هذا الحنين إلى غير الموجود قد يكون في صالح الكتابة، المهم أن يتحرك الكاتب في عالم لمسه وشم هواءه، وغاص فيه بقدميه، يتحرك وهو أنت مطمئن في أرض الكتابة أياً كانت أرض الواقع الآن".

يفضل إذاً البقاء في فردوسه، ومن باب التنويع أو مخاتلة القاريء، يعطي إشارات مضللة بأنه يكتب رواية مدينة، لكننا سرعان ما نجده يعود بالشخصية إلى جذورها الريفية لينطلق معها على الأرض التي يعرفها.

في رواية "ليال أخرى" التي تحكي عن امرأة جميلة وغامضة تنتمي إلى عالم المثقفين في المدينة، عشاقها محكومون بموت غامض، وهي رغم الجمال والجاذبية الأكثر بؤسا وقلقا بين النساء، لكن ما يعتبرها البساطي رواية مدينة لم تكن هكذا تماما، لأنه عاد في مساحات واسعة منها إلى الطفولة الريفية للبطلة. وكأن المدينة لم تكن سوى مسرح أحداث فقط، وهو لا يكتفي بما دون من طفولتها: "تراودني الآن فترة طفولة البنت لأنها جاءت خطفا، وأريد لو استطعت أن أفرد لها عملا".
والغريب في البساطي الذي لا يتساهل مع الفساد ككائن سياسي، شغل وظيفة مرموقة، في جهاز محاسبي، وكان من الممكن أن يكتب عما اطلع عليه من وقائع الفساد مثلاً، لكنه لم يفعل هذا، وظل بين المهمشين في رواياته، فهل هو التزام فني أم أخلاقي؟
يقول:" لا أستطيع أن أقول إنه التزام أخلاقي، غادرنا تماماً فكرة الالتزام الأخلاقي والسياسي، بوسعي أن أقول الجاذبية، في هذه الطبقة شيء فني، شيء أعمق من مجتمعات الصفوة المبنية على الخداع. وأنا هنا أتكلم عن نفسي، عما رأيته هنا أو هناك، ممكن كاتب غيري يرى عمقاً لم أره لدى الأغنياء، وأقصد أيضا، العمق الفني، وإمكانية الكشف عن مساحات غير مطروقة أو غير معروضة على السطح الذي لم أحبه أنا في هذه الطبقات".

المجابهة بالفنتازيا
"دق الطبول" الفائزة بجائزة ساويرس نموذج لخط في إنتاج البساطي يميل نحو الفنتازي، تقف على قمته رواية "الخالدية" ربما لأن الواقع صار على درجة من اللامعقول ألزمت الروائي بهذا الخروج "بعض من قرأوا الرواية قالوا هذا الرأي فعلا، مع أنني أرى الرواية شديدة الواقعية، ربما انخدعوا ببعض الحيل التي لابد أن يلجأ إليها الكاتب، ولكنك لو قرأتها على أنها أدب واقعي فإنها تستجيب لك تماما،  ثم إنك لم تعد تستطيع أن تفصل الخيالي عن الواقعي، الواقع تجاوز كل حدود الخيال، استحالة أن تقول إن ثمة واقع في يوم من الأيام ماثل ما نعيشه الآن. حاول إذن أن تنظر إلى الرواية بوصفها قصة شخص بائس جدا ويمارس لعبة الاختلاس بدون دافع كبير، هو يمارسها كتجربة فقط، بدليل أنه واصل حياته البائسة ذاتها، وأخذ يضع أموالا في مظاريف ويلقي بها إلى أناس لا يعرفهم".

تحكي "الخالدية" باختصار عن محاسب بالحكومة أنشأ قسم شرطة وهمياً على الورق فقط، وظل لسنوات يصرف مرتبات موظفين ومجندين وهميين، بالإضافة إلى الملابس ومستلزمات الإعاشة والوقود، واستمر في اللعبة فبدأ يتوهم وجود المدينة الإقليمية التي اختلقها فعلاً وقسمها إلى أحياء، وكانت مفاجأة البساطي كبيرة عندما تردد اسم "الخالدية" العراقية في نشرات الأخبار، ثم اكتشف بعد ذلك وجود خالدية مصرية أيضاً، وكان يعتقد أنه ابتكر اسماً لمدينة غير موجودة!

سالم هو اسم بطل الرواية، دون أن نكون متأكدين تماما، فهو يلتقي في المقهى بيونس الذي سيستخدمه لاستخراج أذون الصرف باسمه، يسأله يونس عن اسمه فيقول له : تقدر تناديني سالم. هذا الرجل الذي مارس لعبة الخلق، هو في مستواه الآخر مقهور فعلا. "نعم، ظل في مكانه البائس على السطوح، والكوابيس تزوره نتيجة هذا المستوى من الحياة، الكوابيس تشكلت مما يعانيه ويستسلم له صاغرا ، إنه يتعرض للضرب في الكوابيس رغم أنه خلق مدينة. عندما كنت أكتبها لم يكن واردا في ذهني الفنتازيا إطلاقا، هذا واقع، وطالما أن الجميع يسرق، فإن هذا الرجل يجرب السرقة حتى دون دافع حقيقي".

والثورة الجنسية؟
في عدد من روايات البساطي مثل  "ليال أخرى"، "فردوس " و"أوراق العائلة" ثمة نزوع إلى الجنس، وهو ما اعتبره البعض تحولا أو انعطافة أخرى في كتابة البساطي بحثوا عن مبرراتها، لكنه يعترض على ذلك " أولا لأن  النزوع إلى الجنس كان قبل ذلك في أعمال أخرى مثل "أصوات الليل" و"يأتي القطار" بها جنس  لم أسع إليه، ولكنه يحضر عندما يحتاجه العمل، لو أنك تكتب وفي ذهنك محرمات فلن تكون كتابة، أكتب بحرية، لأن هذه هي الحرية الوحيدة التي نمارسها. الجنس في أي عمل ليس مقصودا لذاته. "فردوس" و"أوراق العائلة" تقومان على واقع موجود ومسكوت عنه، وهو الجنس بين المحارم، لكن السكوت على الشيء لا يعني أنه غير موجود، وأرجو ألا أكون قد تناولتها بفجاجة".

وهناك من حاول التلميح إلى  علاقة ما بين "فردوس" التي تتناول علاقة شاب بزوجة أبيه و"امتداح الخالة" لماريو فارجاس يوسا التي يحكي فيها علاقة طفل بزوجة أبيه من خلال تقاطعات مع التراث اليوناني. والبساطي لا يعتبر يوسا الوحيد الذي سبقه، كما أن موضوعات الكتابة محدودة والمهم في الأدب سؤال "كيف؟" وليس سؤال "ماذا ؟".  "هذه تيمة موجودة في الواقع ولن يصادرها يوسا، أنا قرأت روايته، وهي عمل بورنو وفيها إيقاع بوليسي والنهاية تعليمية، التيمة موجودة منذ سوفوكليس، ثم إن الجنس عند يوسا متحقق، عندي العكس، روايتي تقوم على غياب الجنس، وأحكي من خلالها مأساة فردوس كامرأة وحيدة، العلاقة مع الولد لم تتم،  إنما في نفس الوقت كانت عاطفة ما تتكون عاطفة، فيها الإعجاب وفيها الأمومة".

الاختباء في  السخرية!
البساطي الذي يخشى الأصدقاء أكثر من الأعداء، والمديح أكثر من الهجوم، رأيته كثيرا في مواقف يضع فيها حداً ساخراً لمديح أحدهم لإحدى رواياته، (لعلمك أنا كتبتها بصباع رجلي)  صخب البحيرة استوقفت الناس بشكل كاد ينتهي به إلى فخ الاختصار في عمل واحد. ولكنه يبدو محصنا، توالت بعدها أعمال لا تقل عنها أهمية لكنها عادتنا في اختصار الكاتب وتلخيصه في عمل " لا أدع لهذا الكلام أن يؤثر فيّ، وصخب البحيرة عندما كتبتها لم أكن أشعر بأنني فعلت شيئا، ربما لأنني عشت عوالمها بشكل كبير، فلم يكن عندي انبهار بها على الإطلاق. كنت أستعيد فترات أعرفها تماما".

لكنه ليس أول من يحاول النقاد اختصاره في عمل، الطيب صالح مثلا تم اختصاره في موسم الهجرة للشمال "موسم الهجرة" تظل بالنسبة للطيب ذروة عمله لأنها مستوى فني وموضوع إنساني واسع. عموما، الكاتب يقول كلهم أبنائي. هناك ناس أيضا يثمنون أعمالا أخرى أكثر من صخب البحيرة".

مع ذلك يظل للتلقي مفاجآته، وقد كان  تلقي (صخب البحيرة) مفاجأة حقيقية للبساطي الذي كتبها بإصبع رجله. "كنت خارجا من "بيوت وراء الأشجار" وكانت في نظري رواية مهمة لكنها لم تستقبل بما استقبلت به (صخب البحيرة)، وإن كانت بدأت تأخذ حقها عموما، وهي أكثر ترجمة من صخب البحيرة مثلا". هي على كل حال أكثر تركيبا من صخب البحيرة إذا ما نظرنا من منظور المعمار الروائي، لكن ربما كانت (صخب البحيرة) أكثر عمقا في طرح الهم الإنساني، ويمكن أن يكون السر هنا. ويوافقني البساطي "بيوت وراء الأشجار"  مشغولة بعناية وممتلئة بالآلام، لكن ربما كانت (صخب البحيرة) مهمومة فعلا بسؤال ميتافيزيقي".
(ميتافيزيقي) ألقى البساطي ـ الذي يهرب من المصطلحات الكبيرة ـ الكلمة الخارجة عن قاموسه سريعا كمن يتخلص من عبء. لكن في الواقع هناك سؤال  لكل كاتب يدور حوله طوال حياته. "أنا سؤالي أن أكتب جيدا فقط، طبعا، هناك هم، هم وطني أساسا، عاصرت أفراحا كبيرة وانكسارات كبيرة". 

في أعماله خوف دائم من الهزائم التي يوقعها الزمن بالبشر. لديه أيضا عطف على الجسد غير المتحقق، الجسد الأنثوي بشكل خاص. ربما يكون هذا هو سؤال البساطي الذي يطارده في إبداعه؟
"عندما أبدأ العمل لا أكون واعيا بهذا، العمل يأتي كحدوتة، ويمكن أثناء الكتابة تظهر أشياء توجه سير الكتابة".
المثير الذي يحرك آلة الحكي ويحدد السطر الأول في شهادة ميلاد العمل يختلف عند البساطي من رواية إلى رواية. "في رواية فردوس تذكرت حادثا رأيته وأنا عندي عشر سنوات ، كنت جالسا في مكان فدخل من ينبه الزوج: حوش يا فلان ابنك بيتحرش بزوجتك، فالرجل ضحك وقال: الولد كبر! هذا المشهد كان منطلقي إلى الرواية، ولكي أكتب هذا المشهد ويصبح له قيمة، لابد من بناء رواية تحمله، لا بد من اختلاق حياة لهذه الزوجة الثانية، وهناك عطايا تأتي بعد ذلك لم تكن قد خططت لها".

الشخصيات لديه تشارك في صنع مصائرها، وهو يشدد على ضرورة احترام الكاتب للاوعي، كي يرشده إلى الطريق الأسلم "في فردوس توقفت طويلا هل أحقق الجنس بين الولد والزوجة أم لا، رفضت واتضح أن هذا كان أهم جماليات الرواية، وعلى العكس حكمت أحيانا وعيي ـ في قصص وليس في رواية والحمد لله ـ فخرجت سيئة جدا".

عن الأصدقاء
الشرارة الأولى، تفجر العمل، لكنها لا تحدد مساره بعد ذلك، هناك روايات بدأت قصصاً قصيرة،  لكنها لم تسترح في هذا القالب، فتمددت لتصبح رواية. "صخب البحيرة" بدأت بقصة عن صياد عجوز يدور في البحيرة بالقارب وهارب من شيء ما ولا يجد مأوى، تطارده أوهام تجعله سارحا في البحيرة ووجدت القصة تتسع وتعطي إشارات برغبة في الامتداد غير أكيدة، فلما قرأها المرحوم عبد الفتاح الجمل وسألني: وماذا بعد؟ قلت لا شئ، قلا لا هذا النص يقول إن هناك بقية، بدأت أستعيده تولد المشهد الثاني، فالثالث، بيوت وراء الأشجار بدأت أيضا كقصة قصيرة. مرة واحدة بدأت في رواية وانتهت إلى قصة قصيرة بعنوان "أبا الحاج" بدأت كرواية ولكنني وجدت نهاية تغلق القوس، فهذه العطايا أستجيب لها".

كتابة الصمت
انسجاما مع حالته كحرفي بعيد عن التنظير، لم يتكلم البساطي من قبل عن اللغة، ولم يقم النقد حتى الآن بهذه المهمة أيضاً. ولكننا يمكن أن نرصد لديه ما يمكن أن نسميه "كتابة الصمت" حيث الاقتصاد الشديد في اللغة، حتى أن هناك جملاً تترك مفتوحة وناقصة، لديه في إحدى الروايات سؤال وجواب على هذا النحو:

ـ رأيتهم؟

 ـ خمسة.

كان من الممكن لكاتب آخر أن يقول: ( نعم رأيتهم، وكان عددهم خمسة ).
البساطي يعتبر اللغة جزءاً من تكوين الكاتب. "هناك كاتب سيفعل مثلما فعلت أنا، وآخر سيفعل شيئا مختلفا، هي مسالة تكوين نفسي وفني". لكنه أيضا يكشف عن انحيازات معينة في القراءة ، قرأ تشيخوف جيداً وتعلم درسه. " أنا سعيد بأنني قرأت كل كاتب جيد، ربما لم يفتني إلا ما لم يترجم بعد ـ لأنني لا أقرأ باللغات الأصلية للأسف ـ ولا أنكر درس تشيخوف. هيمنجواي أستاذ آخر في الإيجاز، ولا بد أنه بدوره استفاد من تشيخوف. وفي عملي ليس أسهل علي من الحذف، أتوقف أمام كلمة أو جملة وعندما لا أجد لها وظيفة لا أتردد في شطبها، المهم ألا ينظر الكاتب إلى ما يفعل بتقديس. بعضهم يعتبر شطب جملة نوعا من بتر إصبع من أصابعه. هناك شيء مهم هو الإيقاع، إيقاع الأحداث، وإيقاع الجملة، أحيانا أكتب سبعة أسطر وأقرأها، فأجد المزيكا غير مضبوطة".

أستطيع من معرفتي بالبساطي وأيام حيرته أن أضع الخوف والتشكك بين أسباب الاقتصاد اللغوي، فبعد ثلاثة وعشرين كتابا يحتفظ الكاتب بخوفه من الكتابة، كيف ينمي تواضعه ويتعامل مع  كل عمل كأنه الأول؟ "ليس تواضعاً، بل خوفاً، خوفك من ألا يتطابق العمل مع ما تأمله له هو ما يخيفك. أقف طويلاً أمام البداية حتى أستقر عليها. ويمكن أقعد شهراً لا أستطيع أن أقترب من البداية. فترة الانتظار عندي والدوران حول البداية هي المرهقة، داخل العمل الكتابة تحل مشاكلها بنفسها".

أسوار الكتابة
الاختزال في اللغة بدا واضحاً جداً في الرواية الأحدث "أسوار" التي يكتب فيها البساطي عالم السجن، لا من وجهة النظر  اليسارية التي قدمت السجن من منظور سياسي (ولدينا تراث طويل في هذا) بل من منظور إنساني يرى السجان أسيراً هو الآخر، يقول:"السجن فضاء مغلق يضم السجان والمسجون" يتناول في الرواية حياة سجان ورث المهنة عن أبيه، عن انكساراته، وخيباته، عن علاقة السجين بالسجان، وعلاقة المسجون السياسي بالعادي، وعن ألعاب السلطة في استغلال المساجين الجنائيين في الإساءة للسياسيين.

كل هذا العالم في نوفيلا صغيرة، وكأنه اختار الحل الوسط "النوفيلا"؟ يتأمل السؤال، ويطول الصمت كأنه يهم بالتجاهل، لكن أخيراً يقول "مازلت أعتبر نفسي كاتب قصة قصيرة وتستطيع أن تكتشف في رواياتي تكنيك القصة القصيرة وأستمتع جدا عندما أنهي قصة قصيرة وأنا راض عنها، شعور لا أحسه مع نهاية الرواية. أحس القصة بيتي ، لكنني في الرواية زائر". ويستأنف منزعجاً: "ثم، فيم اعتراضك على الاختزال؟ ليس لدى الكولونيل من يكاتبه من أجمل أعمال ماركيز، والجميلات النائمات لكاواباتا هي التي فتحت الطريق لعالمية الأدب الياباني، وهما روايتان قصيرتان؟!".

ليس اعتراضاً، والقضية الأهم هي أن  القصة القصيرة تبدو فناً منقرضاً اليوم. رغم أن المنطق يقول إنه أنسب لعصر السرعة، كما أنه الأنسب للنشر في الجريدة كوسيط أدبي مهم.

يخمن السبب "ربما لعدد القصص القصيرة الرديئة التي تكتب الآن".
ولا يبدو الأمر مقنعاً، فهناك روايات رديئة أيضاً، هل يكون الناس أكثر تسامحاً مع الرواية الرديئة عنهم مع القصة؟ "لا، لا تسامح مع الفن الرديء. لكن هناك جو عام مع الرواية ومع الأعمال الرديئة. وعلينا عندما نتحدث عن الرواج أن نكون حذرين، فهناك فرق بين  ذائقة القارئ وبين ما يكتب من نقد يروج لهذا العمل أو ذاك. ما يكتب الآن ليس نقداً، هو نوع من التعليقات حول الأعمال، تعليقات تهتف لأعمال هابطة، وهذا مناخ عام، وتشعر أن أعمالاً جيدة لا تأخذ حقها لأسباب سياسية، ممكن كاتب معروف بأنه ضد النظام يكون مخيفاً للنقاد الحريصين على أماكنهم أو مصالحهم مع مؤسسات النظام، لكن العمل الجيد يصل رغم كل رداءة المناخ، لا زال هناك ناس عندها الذائقة الفنية القادرة على التمييز".

ومثلما يكون الاستبعاد وارداً لأسباب سياسية فالتهليل أيضا وارد للأسباب ذاتها، وقد شهدت الفترة الماضية أعمالاً كانت نماذج للفصام بين ذائقة القراءة ورأي النقاد، الأسباب تكمن كذلك في  العلاقات العامة، أو تعريض الرواية بشخصيات سياسية معروفة، وهذا قد يكون مطلوباً، لكن المقالات السياسية خلقت من أجله لا الرواية. "لكن الأدب في يده سيف اسمه الوقت هو يتولى التصفية، قل لي ماذا يتبقى من كل كاتب. كم عملاً وكم كاتبا من كل عصر. على الكاتب الجيد ألا يبحث عن النجاح كنجم. الكاتب مناقض لفكرة النجم".

ويمكننا أن نقرأ صدق هذا الرأي في عدد غير قليل من عناوين أعمال البساطي التي تحتمي بمناطق الظلال وألوان الليل: ضوء ضعيف لا يكشف شيئاً، ساعة مغرب، بيوت وراء الأشجار، ليال أخرى، وأصوات الليل.

ولم يزل البساطي في ركنه المعتم يكتب، وينتظر المزيد من الجوائز، وبعضها حكم لا تنطق به لجنة تحكيم، بل مجرد رأي يتلقاه على الهاتف من قاريء محب.