محمد البساطي وعالم من الإبداع الإنساني

شوقي بدر يوسف

يحتشد الإبداع في مسيرة الروائي الراحل محمد البساطي ويتوهج في عدد من الروايات والمجموعات القصصية المانحة لهذا المشهد وهذا المنجز حالة خاصة من حالات التميز والتفرد في تناولها وتداولها والمعبرة عن واحد من أبرز كتّاب القصة والرواية العربية المعاصرة والذي رحل عنا أخيرا في الرابع عشر من تموز/ يوليو الماضي تاركا ساحة الإبداع خالية من هذا الحضور المتميز والمتفرد لإبداع كاتب قال عنه النقاد أنه ينتمي إلى نسق ما كان يكتبه الروائي الأمريكي إرنست همنغواي والمعروف بنسق جبل الثلج العائم الكاشف عن رؤية الكاتب المختزلة في جزء صغير ظاهر على السطح، بينما بقية المعادل الموضوعي الرئيسي يختبئ تحت ركام الماء المجازي.
والمتتبع لمسيرة محمد البساطي الإبداعية منذ مرحلة البدايات في الستينيات من القرن الماضي وهي المرحلة المهمة والمعروفة من إبداع وحضور حساسية الجيل المتمرد على واقعه في الشكل والمضمون والرؤية والأداة في هذا الوقت، يجد أن محمد البساطي وسط مجايليه من كتّاب هذا الجيل قد دخل المشهد السردي في بواكيره الأولى على استحياء شديد ولكنه كان شديد التوجس في حرصه على ما يقرأ وما يكتب في هذه الفترة المبكرة من حياته، وكان اقترابه من جريدة المساء ومن الكاتب عبد الفتاح الجمل المشرف على الملحق الأدبي بها، هو ما يعكس اهتمام البساطي الشديد بالأدب القصصي ومحاولتة الدؤوبة الانخراط وسط هذه الكوكبة التي كان يقرأ لها إبداعها القصصي خلال تلك الفترة.
وعالم محمد البساطي عالم ينتمي إلى الأدب الإنساني القائم على بلورة الروح الإنسانية وعرض جوانب نزعة ترصد حياة الإنسان في فضاءات خاصة يحفر فيها الكاتب من واقع ما عايشه وما إلفه من جوانب وممارسات وكان أدب القرية كفضاء رئيسي حاكم لبدايات إبداعه هو الأساس أما الاستثناء فكان هو فضاء المدينة وشيء من فضاءات الاغتراب عكس ما كان يطرقه بعض من مجايليه من الكتّاب الذي عبر كل منهم عن نسق خاص به، في نزعات فنية خاصة طالت التجريب والتاريخ والغموض والأسطورة والاحتفاء باللغة الشعرية الحكائية الخالصة وغير ذلك من أساليب وتقنيات الكاتبة السردية، وقد عبر البساطي عن هذا العالم أيم تعبير وجسد من خلاله رؤى واقعية وأخرى فانتازية، بلورت عددا من قضايا الواقع وإشكالياته.

تمثل القصة القصيرة جانبا مهما في إبداع محمد البساطي حيث كانت هي المحطة الأولى التي بدأ منها مسيرته، وحقق من خلالها نجاحات كثيرة قبل أن يطرق أبواب السرد الروائي في مسيرته، وما بين مجموعته الأولى 'الكبار والصغار'، ومجموعته الأخيرة 'نوافذ صغيرة' يكمن عدد كبير من القصص القصيرة المتنوعة في تناولها وقضاياها وشاعريتها وعبثيتها وفي مناخاتها التي تعبّر عنها وتجسد إشكالياتها ومشاهدها القصيرة ولغتها الغنية ومآسيها التي تجسدها وطرافة ما تحققه من خلال جزء كبير من قضايا الواقع المعيش في حياة الكاتب ومناخ عصره.

أما الجانب الروائي في إبداع محمد البساطي فقد بدأ برواية 'التاجر والنقاش'، أعقبها بروايتين قصيرتين هما 'المقهى الزجاجي' و'الأيام الصعبة'، وكانت هاتان الروايتان القصيرتان بمثابة احتفاء مبكر بالرواية القصيرة عند البساطي وهما تشيران إلى ترميز عالمه منذ البداية، فكانت الرواية كما أشير في تذييل الإصدار عبارة عن مراقبة فنية شفافة لعالم يتحضر، والرواية الثانية رصد فني بسيط لعالم يحاول الصعود، كانت هذه المفارقة في التناول والتدليل على عمق ما يحفره البساطي في عالم الرواية منذ البداية هو ما أنفض بعد ذلك بهذا المنجز الروائي الذي تصاعد وتنامت حدته في أكثر من خمسة عشر نصا روائيا تلت هذا الإصدار، وبدأ العالم الروائي لمحمد البساطي يفرض نفسه على الساحة بقوة وامتياز شديدين.

ولد البساطي عام 1937 في قرية الجمالية المطلة على بحيرة المنزلة، بمحافظة الدقهلية والغريب أن هذا الاسم هو نفسه الأسم الذي يحمله المكان، حي الجمالية، الذي ولد فيه الأديب الكبير نجيب محفوظ بالقاهرة، يقول البساطي عن قريته: الجمالية دقهلية..  هذه القرية يحتفظ بها المرء في ذهنه، احتفاظه بقسمات الروح، التي تدفعه إلى الحياة والتمسك بها والاستمرار فيها، هي البيئة الأولى، والأماكن الأولى، والناس والعلاقات وأحن إليها دائما، وأشعر بأنها عالم انقضى، أسعى للتمسك به، قبل فراره، واستدعيه كلما حاولت مشاغل الحياة اطفاءه، عالم لم يزل به الوهج والجمرات، عالم آخر غير الذي نعرفه هنا في القاهرة، أو المدن الكبرى، وأنا هنا أتحدث عن بعض الأماكن التي استخدمتها في القصص القصيرة، التي لا تحتاج عند كتابتها إلى أكثر من ومضة، لحظة، مجرد ابتسامة على وجه ما في هذا الزحام'. ( محمد البساطي في حوار مع القدس العربي، ج 'القدس العربي'، لندن، ع 3331، 26 كانون الثاني (يناير) 2000 ص 10)

من هذا المنطلق كانت آليات الكتابة عند محمد البساطي ترفد ذاتها من واقع الحنين إلى المكان المفضل عنده في قرية الجمالية وما حولها، ولعل الخبرات الكثيرة التي اكتسبها الكاتب في حياته العملية كان لها أيضا دور كبير في بلورة ساحة الإبداع في منجزه القصصي والروائي، فكانت أحداث قصصه ورواياته وشخصيات أعماله كلها مستمدة من هذا الواقع وتلك الروح التي تتيح لمن يقرأ أعماله ويتجاوز عتباتها ويعايش نسيجها أن يعرف قدرة هذا الكاتب على الغوص في قيمة الحياة، وأن تقديمه لهذه الوجوه المتوهجة من الشخصيات والأحداث والموتيفات هو طراز خاص لكاتب له عالمه الخاص المتمحور حول المهمشين من البشر، وسطوة السلطة، وتغيرات العالم من حوله، فهو في تجلياته الإبداعية ينظر من ثقب الباب الضيق على فضاء واسع شفيف تتجمع بؤره عند قريته في رؤى لإشكاليات الحياة في جوانبها المختلفة فهو في 'التاجر والنقاش' 1976، وهي إولى رواياته يشير البساطي في هذا النص أن ': العالم الأسطوري السحري الحقيقي هو العالم الذي تختلط فيه حدود الممكن والمستحيل، وتمتزج فيه مستويات الخيال بالواقع، ويصبح العمل بأكمله استعارة كبرى تكشف عن دلالة أساسية.

وهو في هذا النص لا يحاول أن يستثير في أعماقنا حسا أسطوريا كامنا بقدر ما يحاول أن يخلق فينا هذا الحس المتفرد. فكثير من الأحداث والمواقف التي ينسج الكاتب خيوطها بجرأة وإسهاب لا يمكن أن نكتشف للوهلة الأولى أنها تعود بدورها إلى أصول نجدها في بعض الأساطير القديمة التي ابتدعها الإنسان في طور يقظته الفكرية الأولى. (حول توظيف العنصر الأسطوري في الرواية المصرية المعاصرة حول روايات الزويل ودوائر عدم الإمكان والتاجر والنقاش، وليد منير، فصول، القاهرة، ع2 م2، يناير/فبراير/مارس 1982) وفي 'المقهى الزجاجي، والأيام الصعبة' 1978 وهما روايتان قصيرتان يرفدهما البساطي ـ في تجربته الروائية الثانية - بحساسية جديدة تنزع إلى الشاعرية في عالم مهمش وهو عالم المقهى ' في المقهى الزجاجي' ومجموعة من الأغراب والحبل السري الرابط بين المكان والشخصيات في تجربة فنية تتفاعل فيها مستويات السرد مع شخصيات متدنية في عالمها، مهمشة في أفكارها، متناقضة في ممارساتها العامة والخاصة، وفي 'الأيام الصعبة' كما يبدو من العنوان تبدو العلاقات المعقدة المستلبة والمتشابكة المازجة بين الحسي والحقيقي في زمن يحمل بين جنباته الأيام الصعبة الفعلية في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي.

وفي رواية 'بيوت وراء الأشجار' 1993 تتحقق نفس المعادلة في تنشيط السهل الممتنع عند البساطي في طرح إشكاليات الحياة بجوانبها المختلفة حينما يلجأ البساطي إلى ترميز ما جرى لمصر في هذا النص المترع بالمعاني والإحالات من خلال ما دار في إحدى البيوت الكامنة وراء الأشجار والمختبئة في ظلالها الكثيفة والمطلة على بحيرة المنزلة المكان الأثير للكاتب من خلال رجل خانته زوجته وعجز تماما عن الثأر لشرفه، مما أدى إلى انهيار كل شيء في هذه الحياة ويصبح تصحيح هذا الخطأ الفادح وكأنه محاولة لإعادة تصحيح مسار المرأة التي ساهم الجميع في تجريحها والتخلي عنها برغم وحدتها وتشظي حالتها.

وفي 'صخب البحيرة' 1994 يجسد البساطي وقائع الدهشة في مكان التكوين في هذا الصخب الدائر حول هذا الصياد العجوز المتعايش على ما يصطاده من البحر راضيا بالقليل مما يرزقه به الله، إننا إزاء صياد يشبه إلى حد ما 'سنتياغو' رواية العجوز والبحر لهيمنغواي، يحكي عنه أهل البحيرة محكيات متخيلة حوله وحول المرأة المنتهكة في جسدها وفي شرفها وفي حياتها التي ترتبط بالصياد في علاقات إنسانية مهترئه وحاكمة، وفي رواية 'أصوات الليل' 1998 تحكي الرواية عن عالم الإنسان الآيل للسقوط بسبب شيخوخته من خلال هذا العجوز الذي اندثر زمانه فاكتفى بالصمت واستدعاء ضجيج الذاكرة الصامتة على مخزونها القديم، فتنهض الرواية على ثلاثة أقسام رئيسية هي: تشرح ما لا يشرح وانكسار الروح والإنسان لا يشرحه أحد، فهي في هذا النص تستدعي من التاريخ العربي شيخوخته وتجتهد في محاورته من خلال قرية مصرية مهمشة تحكي وتسرد وتثرثر على ما تختزنه ذاكرتها السخية من أحوال وأمور، وأصوات الليل هي أصوات القرية وإيقاعات الطبيعة السادرة في امتزاج طبيعي مع البراءة والشفافية حين تهدأ هذه الأصوات عند قدوم الفجر وبزوغ شعاع من نور النهار. ولعل هذه العبارة تختزل دلالات الرؤية عند الكاتب في رفده لهذا النص الملتبس في مبناه والمبتسر في معناه: "ضوء القمر الشاحب ينفذ من كوة قرب السقف ويتلاشى في العتمة، ينصت لتأوهاتها تأتي عبر الحارة، تتدفق في صمت الحجرة، تخفت، تظل هناك غير بعيد، ترتعش كشعلة لمبة، ينصت لتأوهاتها تأتي عبر الحارة، تتدفق في صمت الحجرة، تخفت، تظل هناك غير بعيدة، ترتعش كشعلة لمبة' (أصوات الليل (رواية)، محمد البساطي، روايات الهلال، ع 591، مارس 1998 ص 14).

وفي رواية 'يأتي القطار' 1999 يقدم البساطي مساحة زمنية للقرية المصرية قبيل الحرب الثانية مع استعادة لمساحة موازية لما قبل الطفولة وما بعدها حين يحاول الطفل استكشاف ملامح عالم جديد كمقدمة للتغيرات التي سوف تطرأ على عوالمه في مراحلها المختلفة من خلال مشاهد منفصلة تجسد القمع والظلم والفساد وتسلق البرجوازية الريفية على أكتاف الفلاحين البسطاء، إن هذا الطفل الذي كان يحبو في بداية النص ليطارد الأوزات في ساحة البيت هو نفسه الذي يقف على محطة القطار ينتظر وصوله ليبدأ رحلة في مساحة جديدة من الزمن تضاف إلى المساحة السابقة وبهذه النهاية المفتوحة تبدأ رحلة الحياة مع وصول هذا القطار الرامز. وفي رواية 'ليال أخرى' 2000 تكشف لنا هذه الرواية على قدرة البساطي الفائقة في ضبط بنية النص وطرح دورة زمنية ليوم واحد يبدأ من الصباح وحتى مقدم الليل من خلال هذه الفتاة وعلاقتها بالتراث المصري دراسة وممارسة والغارقة في عبثية الحياة وإقامتها علاقات جنسية مع رجال عابرين تكون نتيجة كل منها مقتل الرجل في كل مرة، يخلق البساطي في هذا العمل عالما متخيلا في علاقة الأخوة الثلاثة بالفتاة المتحررة وأخويها التوأمين، ففي هذا العمل يدلل الكاتب على العبث القائم في الزمن المعاصر والتواتر المتعاقب على أحوال الرجل المستهدف من المرأة القاتلة والضحية في نفس الوقت.

وفي رواية 'فردوس' 2001 وهي الرواية التي قيل عنها أنها تناصت مع رواية 'امتداح الخالة' للبيروفي ماريو فارجاس يوسا فيحقق البساطي من خلال هذا النص المفعم بالدقة وصرامة البناء الهوة الشاسعة بين عالم الرجل وعالم المرأة في مجتمع مثل هذا المجتمع المغلق والمفرط في شرقيته، وفي تلك السياجات المترهلة المحيطة بواقع ما يحدث على مستوى النص من أمور وأحوال أجتماعية، حين يترك الرجل زوجته الشابة 'فردوس' نهبا لشبقية الحياة والقيل والقال عنها ويعود إلى زوجته الأولى أم أولاده، استخدم البساطي في هذا النص إحداثية المرأة الحائرة بين الحياة وبين ما يدور حولها، وفي 'أوراق العائلة' 2003 يواصل البساطي الكشف عن تشابك وتقاطع العلاقات الإنسانية من خلال حضور بعض التجارب الإنسانية لبعض الشخوص والاغتراب الذي طال الجميع في قسوته من خلال الدار الكبيرة الحاوية لأفراد الأسرة الواحدة الحاوية للجد والأبناء والأحفاد والرامزة للبلد التي يعيش فيها أربعة أجيال في علاقات تصادمية تعكس الصراع الدائر في جنبات المجتمع على إطلاقه من خلال الصبي الراوي عن أوراق العائلة ومحاولة لنبش مكونات الماضي واستدعاء الخيوط التي يكتنفها الغموض لمسيرة العائلة.

وفي 'الخالدية' 2004، يلجأ البساطي إلى عالم الفانتازيا ومتخيل الواقع في رصد عملية فساد وتزوير يقوم بها مسؤول في وزارة الداخلية، يستغل قدراته الشيطانية في هذا العملية مسقطا هذا الترميز على واقع الحياة الدائرة حوله في إدانة واضحة لممارسات المجتمع وتعرية لما يجري فيه من فساد واهتراءات حاكمة في جنبات السلطة، وفي 'دق الطبول' 2006 ينهض العالم الروائي في هذه الرواية على غربة الإنسان ويعكس نمط الحياة وتأزماتها في احد بلدان الخليج وما حوته فضاءات هذا المكان من سطوة الإنسان على أخيه الإنسان والعجز الكامن داخل النفس البشرية واستعباد البشر واستشراف دق الطبول الأفريقية الكامنة في واقع الإنسان المتفرد في هذه الحياة من خلال مفارقة جنسية وأخرى لها صفة العجز والتأزم، وفي رواية 'جوع' 2007 تشكل هذه الرواية تجسيدا لواقع اقتصادي واجتماعي متوهج لشريحة من شخصيات المجتمع من الفقراء تعاني من الجوع والحاجة والصراع اليومي من أجل الكرامة ولحظات الصعود والهبوط الإنساني وتمتزج السياسة برغيف الخبز والحب بقضايا الوجودية، وفي رواية 'أسوار' يأخذنا الكاتب إلى عالم السجن منذ الطفولة ليكشف لنا ما يجري في هذا العالم المأزوم من ممارسات وأحوال ذاتية ونفسية مربكة من خلال مهنة العاملين في السجون وفضاءات المكان خارج السجن وداخله وعلاقة إدارة السجن مع السجناء ومحاولاتهم إظهار كفاءتهم أمام السلطات العليا، وآلياتهم القمعية والانتهازية ومحسوبية ما يحدث داخل هذا الإطار.

لا شك أن روايات البساطي بقدرتها على توفير رؤى تبدو للوهلة الأولى وكأنها تعتمد على التدفق السردي المبني على آليات تتفوق فيها اللغة الوامضة المكثفة في شعريتها والكاشفة عن الفعل ورد الفعل في لحظتها الآنية في المقام الأول مع التركيز على الإحكام البنائي المراوغ خاصة في هذه النصوص التي تحتاج إلى فرض عنصر الإبهار والدهشة وتسليط الضوء على الواقع المزري المأزوم في حفريات الحياة المختلفة بأحداثها وشخوصها وقضاياها، ولا شك أن حقل الرواية العربية وهو ما يبثه عالم محمد البساطي في المشهد الروائي هو ما حفل به منجزه الروائي والسردي في فترة مهمة من فترات زمن الرواية وزمن السرد المعاصرة.