في نصوصه القصصية 'نوافذ صغيرة' الصادرة عن دار أخبار اليوم بالقاهرة 2009 ـ يشكل محمد البساطي الشخصيات، والأماكن، والأحداث، واللقطات السردية كمجالات استعارية تتميز بالتداخل بين الإيحاءات النصية، والسياق الواقعي في تجلياته الجزئية التي تجسد الصوت الطيفي للإنسان في نشوئه المجازي المتجدد خارج المرجعيات الأحادية.
إننا أمام فضاءات جمالية تقاوم النزعة الكلية في بناء الشخصية، ودرجة ارتباطها بحتميات الواقع، وحدوده ؛ فثمة صوت إنساني فيما وراء الأشياء الصلبة، يعلن سخريته من المعاني المثالية للاكتمال، أو الانهيار معا، وانتصاره الخيالي في إيحاءاته الممتدة في الزمان، والمكان.
ورغم سطوة المرض، والغياب، والتهميش على أبطال البساطي ؛ فإن لهم حضورا قويا وراء النوافذ، والأبواب، والوظائف الجسدية الضرورية؛ إذ تعلن الروح الفردية المبدعة دائما عن اندماجها الجزئي الفريد بحكاية، أو قصاصة، أو تشبيه، وكأن الغياب في المجموعة هو نقطة انتشار الأشكال الجزئية من الحياة.
إن الشخصية تنشأ، وتتجدد من داخل أدبية الصورة في الإنسان نفسه، في تاريخه الآخر الذي يوشك أن يكشف عن حضوره الكوني في الأشياء الصغيرة، وخلف الجدران المظلمة.
وبهذا الصدد يرى بول ريكور أنه يمكن تأويل الوعي من خلال حركة الصور الحيادية التي تشكل عملية التبادل بين الذوات الإنسانية ؛ فالكرسي في لوحات فان جوخ يشكل صورة جديدة للإنسان (راجع / بول ريكور / صراع التأويلات / ترجمة د منذر عياشي / دار الكتاب الجديد ببيروت مع سوي بباريس سنة 2005 / ص 151 ). إن السيارات المغلقة، والشوارع، والغرف الصغيرة، والحوارات المبتورة ـ في كتابة البساطي ـ تعيد بناء الشخصية وفقا للإيماءات المجردة في تكوينها الداخلي، فهي تستنبت وعي الشخوص في سياق التفاعل بين الصور، والصوت الإبداعي الخفي للفرد بداخلها.
في نص 'نوافذ صغيرة' يندمج وعي الراوي بالإشارات الواقعية / الاستعارية التي تشكل صورة تعبيرية للذات الإنسانية في حالتها الطيفية؛ فثمة يد تمتد من سيارة لنقل المسجونين، باتجاه الراوي أثناء ذهابه للعمل، ويطلب صاحبها علبة سجائر كليوباترا، ويدور بينهما حوار حول عمل الراوي في وزارة المواصلات، ثم يتصاعد دخان السجائر من خلف النافذة.
اليد هنا تؤدي وظيفة إبداعية مضادة لأصالة صاحبها/ الآخر ؛ فهي جزء من إيماءات مجازية تمثل صوتا جمعيا لحركة الأشياء، وقد اكتسبت حضورا إنسانيا جديدا، ينبع من تحول المشهد من السياق الحتمي للعمل، والسجن إلى تحرير العناصر في فضاء جمالي قيد التكوين، والتجدد خارج منطق الآلية.
هل هو تجاوز ثوري يستنفد الصوت في الأثر، والإيماءة؟ أم أنه تأويل لمبدأ الحضور المؤقت للذات في الزمان، والمكان؟
إن الدخان الذي يتصاعد من النافذة الصغيرة، يسخر من عملية التدخين نفسها؛ إذ يعيد قراءة الوجود فيما يتجاوزه من تكوينات جزئية فريدة، تمثل الصوت، وتنتجه دون نهاية خارج بنيته الأولى.
وفي نص 'قطرة ماء' تتصارع في البطل حالات التهميش، والعبث، والتفاعل الإنساني المضاد للهيمنة، وحضور المركز؛ إذ يدخل السجن دون أن يعرف تهمته، ثم يتحول صمته العبثي في السجن إلى تفاعل ينقلب على العبث من داخل مفرداته ؛ فقد شارك الحراس اللعب، ونسخ الأوراق، وأنجبت امرأة أحدهم ولدا أثناء إقامته معهم.
إننا أمام بزوغ لواقع خيالي يتولد من قطرة ماء في صحراء الهيمنة ؛ فالبطل يستبدل صورة القطرة، وتختلط إيحاءات حضوره في وعي الحارس بالمرح، والخصوبة، والعبث معا.
وفي نص 'إفراج' تتفكك هوية الراوي / البطل الذي أفرج عنه لأسباب صحية في ضياع خصوصية ملابسه، وفي اللحظات الإنسانية المبتورة التي يعكسها وعيه؛ مثل تكوين الحارس، والساعة، والمحفظة، وقصاصات امرأة تستغيث بسبب حملها.
إن اللقطات الإنسانية السريعة في النص تستبدل الصوت المتكلم نفسه، وسياق التعارض بين القوة، والضعف. إنها قراءة للحياة بوصفها مجموعة من التداخلات المعقدة بين الصور، والإيحاءات، والأصوات المفككة التي تقع بين الغياب، ومرح الإيماءة، وتحررها.
وفي نص 'أرزاق' يختلط الجنس بالمنطق الأبوي الذي يقاوم خطابه الأول من داخل خطاب الاستغلال؛ فالرقيب يعيد بناء جسد البطل المهمش في سياق السخرية المعنوية من السجناء، ثم يتحول شعوره الحتمي بالتفوق إلى ازدراء لأحدهم، وهروب من الوظيفة الأبوية.
إن جسد البطل يجمع بين القهر، والقوة، والتوحد بإيحاءات الضعف، وأخيلته، وكأن الصورة المجازية للانكسار تمثل إكمالا لهامشيته، وخروجا عنها في التحرر من صلابة الجسد، أو اختلاطه بذاكرة الضعف.
وفي نص 'حكاية قديمة' يرصد الراوي حدث مرض صديقه، ثم يشير إلى علاقة حب له مع امرأة سألت عنه أثناء الغيبوبة.
إن الأخر يتداخل مع بنية الحكاية القديمة؛ إذ تتنازعه قوى الغياب، والحضور، والتحول إلى أثر في السرد. الحكاية تفجر الحدث، وتلج الشخصية ؛ لتقاوم منطق النهايات، وقد يأتي الغياب في ذكرى تجدد الحب، وأخيلة الخصوبة، وكأنه عودة مجازية لأبطال الأساطير.
وفي نص 'الغرفة المجاورة' يتحول السياق الحتمي للأسرة المجاورة للراوي إلى لحظات إبداعية في وعيه؛ فمحاولات استقلال الأم، عقب غياب الأب، ولوحات الولد تسير باتجاه نزعة فردية قيد التشكل من داخل دوال الغياب، والتهميش. ثمة نزوع نحو البناء في النص ينمو من خلال التيمات التصويرية الإنسانية للولد، والأم خارج دائرة الانتماء للأب، وقد قتل نصيا أثناء البناء غير الواعي للروح الفردية.
وفي نص 'جيران' يجسد الراوي قسوة التعميم على الشخصية، إذ يتركها بلا ملامح واضحة، أو وجود شخصي؛ فالعائلات الثلاث تسكن شقة واحدة من ثلاث غرف، وذات مرة يلج الفران موقع عامل السكة الحديد في لحظة متكررة لغياب المعرفة. إننا أمام تغييب لمدلول الحياة نفسه في مجموعة من الأفعال الآلية، ولكن تطور الوظائف السردية في هذا النص يقودنا إلى ملمح إنساني خفي ينتظر التحقق ضمن عمليات التكرار، والاستبدال، وذلك بتحويلها في اتجاه التجدد لا الغياب في القوى الكلية المهيمنة.
وفي نص' هي، و زوجها 'يبدو حدث التوقف الممثل في شلل زوج جارة الراوي مفتتحا لمجموعة من التفاعلات الإنسانية الصامتة بين الشخوص. إن الزوج موضوع للحياة المختلطة بالعدم؛ فجميع الوظائف السردية مثل؛ الأكل، والاستحمام، والإخراج، تتمركز حول جسده الذي يعاين حالات الجمود، وإعادة التشكل، ونقل أخيلة الموت الملتبس بوهج الحياة في الآخر / الراوي.
وسنجد حضورا بارزا لضمير الغائب في النص ؛ فهو نواة للمشاعر، والدلائل النصية، وحركة الأشياء الصغيرة.
يقول السارد:
أختار مكانا على السطح بعيدا عن تيارات الهواء كما توصيني امرأته، وأضع فوطة على صدره، أناوله الطعام ملعقة بعد أخرى، أجفف ما يسيل من فمه بعد كل ملعقة، أسهو أحيانا ولا أجفف فمه، يدير وجهه بعيدا عن الملعقة'.
المتكلم هنا يسند نفسه للرجل / الموضوع ؛ إنه يؤول آلام الوجود في العالم من خلال الصراع بين التوقف، والصخب، الإنذار بالموت، وتجدد الحياة في التفاصيل الصغيرة الصامتة.
وتتداخل العوالم الجزئية الهامشية؛ لتكشف عن تجاوز التصورات الكلية، والتعقيد المميز للحياة الكونية في نص 'تأهب' ؛ فقد ولد البطل حينما كانت الداية تعاين الموت، وكان يصارع الجدي في مشهد يجمع بين المرح، والحرب، وتحلل المعني، بينما كانت الدول تتأهب للحرب العالمية الثانية.
تقترن إذا البدايات، بالنهايات بقوة دون مركزية لأي من المجالين، ويختلط الصراع بالعبث، والمرح، والسخرية من خطاباته الشمولية. وأرى أن هذا النص يحيلنا إلى بروز العوالم الهامشية فيما بعد الحداثة من جهة، وقدرة السرد على تأويل الوجود الواقعي، والالتحام به في الوقت نفسه.
وقد ينحاز السارد للذات الفردية الأنثوية في نص 'زواج' ؛ إذ يتعاطف مع البطلة التي ماتت عقب طلاقها من خليل؛ بسبب انكسار الدولاب يوم الزواج، وتشاؤمه من الحدث.
ثمة سطوة للقيمة في النص، تزدوج بسخرية الأشياء منها ؛ إذ تملك وجودا استعاريا أقرب إلى الروح الفردية الأنثوية ؛ فالدولاب يحرر أخيلة البطلة من الأبنية الكبرى التي تمحو الهوية.
وفي نص 'اللوحة' تتجلى القيمة المجردة للحياة في الصيرورة الإبداعية للفن ضمن تصور الحكاية الواقعية نفسها ؛ فالراوي / فوزي يصف الوجود الاستثنائي للفنان الذي أتى به من مالطة؛ إذ يعمل عاريا، ولا يستحم، ويرفض قطار الدرجة الأولى، ثم تغتصبه إحدى الخادمات. وتزدوج الصورة السابقة بلوحة الفنان، وفيها جياد جامحة، وفتيات رشيقات.
اللوحة تجسد البدايات الدائمة للصخب. . التأهب للأداء خارج المفاهيم الثابتة، والحدود. . ذلك هو مدلول القصة عند محمد البساطي، أن تقبض على المادة الفنية للحياة، ودوالها الصغيرة الممثلة في صوت، أو إشارة، أو منظر، أو مقطع من حكاية، وهي دوال تستعصي على الأطر، والتلاشي.
كاتب من مصر