تتسم رواية محمد البساطي الجديدة (بيوت وراء الأشجار) بما يميز أعمال هذا الكاتب الموهوب من رهافة وشاعرية، وبما ينفرد به أسلوبه المراوغ من خصائص سردية يبدو معها وكأن القاص لا يحكي لنا شيئا ذا بال، وإنما هي حكاية بسيطة لا تستحق القص. لكن من يتأمل تفاصيل هذه الحكاية، ويتعرف على مفاتيح السرد الخاصة لدى الكاتب، يكتشف أن وراء هذه البساطة المتناهية عوالم متشابكة من الرؤى والدلالات، مترعة بالمعاني والإحالات، متراكبة الرموز والإحاءات. فالقصة البسيطة التي يبدو أنها تحكي لنا ما دار في أحد بيوت تلك البلدة القابعة وراء الأشجار والمطلة على بحيرة «المنزلة» في الجانب الآخر من مدن القناة، حكاية رجل خانته أمرأته وعجز عن الثأر لشرفه المثلوم، تنطوي في أعماقها عما جرى لمصر حينما أخفقت في غسل عارها بعد هزيمة 1967، وعجزت في الوقت نفسه عن الحياة مع هزيمتها فانهار كل شيئ، وتومئ من وراء هذا التاريخ إلى ما يدور في واقعها الراهن. كما تبلور لنا دراستها الشيقة لآليات انهيار النظام الأبوي باعتباره المرجعية الأساسية في علاقات الأفراد وبنية نظام الحكم على السواء، والذي وسم مرحلة مابعد 1967، الكثير من الرؤى التي تفسر بعض ما تعيشه من تدهور، وتسمعنا قعقعة الانهيار الدامي الذي انتاب الواقع المصري في أواخر الستينات وأوائل السبعينات، وتكشف لنا عن الثمن الفادح الذي دفعه من أجل محاولته المحبطة لاسترداد كرامته. لكن المهم في هذه الرواية الرقيقة الحزينة أنها تتناول هذا كله دون أن تبارح منهجها البسيط التعبيري والمباشر في تناول الأشياء والأحداث، أو تتخلى عن أسلوبها السردي الهادئ المتجرد من كل انفعال، أو عن لجوئها إلى الخط المباشر بين العين والموضوع وبين الموضوع والقارئ دون تهويمات أو تكهنات بما لا يظهر على السطح وما لا تلتقطه العين. فالبساطي مشغول أساسا برواية قصة واقعية بسيطة لا تتحقق مستوياتها الاستعارية والرمزية إلا من خلال العناية الفائقة بمستواها الواقعي المباشر.
وتبدو (بيوت وراء الأشحار) وكأنها رواية الإخفاق في التواصل في عالم فقد فجأة بوصلته الداخلية الهادية. وكيف أن كل شخصية من شخصياتها تنازلت عن شيئ أساسي فيها من أجل تحقيق هذا التواصل المفقود أو التواؤم مع المتغيرات الجديدة. لكن هذا التنازل نفسه، والذي ينطوي بطبيعته على تخلي الشخصية عن شيئ أصيل فيها، ما يلبث أن يساهم في إعاقة التواصل، ومن هنا يظل الجميع جزرا معزولة تدمر نفسها بنفسها دون أو تستطيع الفكاك من لعنة هذا الدمار الذاتي الجهنمية. وهي من هذه الناحية رواية بالغة الأهمية، لأنها تكشف لنا عن سر الداء الوبيل الذي أخذ يفت في روح الواقع المصري، بل والواقع العربي برمته، حتى نخرها من الداخل، ولم تعد قادرة على القيام بردود الفعل الشرطية التقليدية التي يحافظ بها مجتمع ما على قيمه الأصيلة، وعلى سلامته الأخلاقية والرؤيوية، فتنهار أمامه دون أن يستطيع إيقاف الانهيار أو رد زحفه الدؤوب الذي يجرف في طريقه كل أمل في الخلاص. وتكشف الرواية عن حقيقة هذا الانهيار من خلال المقابلة الأساسية فيها بين ما جرى في حياة بطلتها في بورسعيد قبل عامين من التهجير، أي في ذروة ازدهارة الستينات، وما دار لها في تلك البلدة الجديدة غير المسماة والتي هجرت إليها وحاولت أن تقيم حياتها الجديدة فيها. لأن المقابلة هنا هي مقابلة بين عالم لايزال يحافظ على قيمه، وآخر تتهرأ فيه القيم وتنهار النخوة، ويستشري الشر والحقد الدفين.
فالجزئيات التي اختار النص إيرادها لما جرى في حياة البطلة قبل التهجير، وانتقاها بعناية بالغة وتقتير شديد، تلعب دورا أساسيا في تعميق المفارقة بين المرحلتين، ذروة مرحلة الستينات وبداية عصر السادات، المحفورتين في ذاكرة النص ولاوعية الداخلي دون أن تطفو أي من تفاصيلهما المباشرة على سطحه. وتحدد هذه الجزئيات كذلك مسار القراءة وعلامات التأويل، لأنها تتطلب وضعها في مواجهة جزئيات أخرى منتقاة بعناية وتقتير مماثلين حول حياة البطلة في تلك البلدة الجديدة. فزواج سعدية الذي لم يتم في بورسعيد يواجهه زواجها الذي تم في البلدة، وبكارتها التي حافظت عليها قيم المرحلة القديمة تقابلها عملية انتهاكها وفض بكارتها بطريقة بشعة وغير إنسانية في البلدة، وقتل عريسها الحلاق حينما حامت حوله الشبهات في بورسعيد يقابله عجز زوجها مسعد عن قتل من لوث شرفه في البلدة. وقدرة أخيها مع رجلين من أبناء الحي على حل مشكلتها مع الحلاق ببساطة يقابلها عجز مسعد وربيبه عنتر عن حل مشكلتهما مع عامر وأسرته. بل إن سبب طلاقها من الحلاق وهو سبب اجتماعي ينبثق عن رفض ما حام حولة من شبهات يقابله مبرر طلاق مسعد لزوجته الريفية الأولى الفردي الخالص و لمجرد الرغبة في الزواج من أخرى أكثر منها جمالا. والحياة الاجتماعية الهادئة التي عاشتها في بورسعيد تقابلها الحياة الفردية الخاوية التي عاشتها في البلدة.وكأن الرواية تطرح الاجتماعي في مقابل الفردي في بنية يوشك مل شيئ فيها أن يخضع لعملية تعارض وتقابل تنهض عليها آليات توليد المعنى في الرواية، وتتحكم في مسار تأويل أحداثها البسيطة والخادعة في بساطتها المتناهية.
وتبدأ القصة لا من لحظة تفجر الحدث أو وقوع الكارثة، كارثة ضبط مسعد لزوجته، فعالم البساطي ينأى عن كل أشكال الإثارة الفواجعية، ويتعمد دلق ماء الحياد البارد على أكثر المواقف انفعالية وعواطفية، وإنما بعد ثلاثة أيام منه، بهذه البداية الحادة المباشرة: «كان يوم السوق عندما توجه مسعد الجزار إلى محل صديقه بركات الجزار مطالبا برقبة ابنه. ظهر فجأة بعد اختفاء دام ثلاثة أيام عقب فضيحة امرأته»(ص5). وهي بداية تختار زمنها بدقة، يوم السوق، يوم تجتمع البلدة في تظاهرة علنية، لأن العلنية المقصودة هي التي تخرج بالحدث من دائرة الهم الفردي المحدود إلى نطاق الاستعارة الجمعية لواقع عام وقضية أشمل. وهو يوم أول سوق يأتي بعد فضيحة امرأته، وتختار فعلها الذي يوشك أن يكون مزيجا من الطقسي والعبثي، التوجه إلى محل صديقه وزميله بركات الجزار للمطالبة برأس ابنه الذي سنعرف فيما بعد أنه الجاني. وتختار القص بضمير الغائب المحايد الذي وسعت ملاحظته كل ما في جزئيات النص من ذاتي وموضوعي، ولايؤوده حفظهما وانتقاء ملامحها بعناية فائقة. ثم ترتد من هذه اللحظة في الزمن لاستعادة تفاصيل كل ما جرى، والتعرف على المسارب التي تسلل منها الخطأ الفادح، خطأ ارتكاب عامر، ابن بركات الجزار، لما ارتكب واستجابة مسعد لما حدث، بالطريقة التي انتهت بموته بمجرد وصوله إلى باب حانوت بركات الجزار، وتفوهه بكلماته الأخيرة «عامر يا بركات عامر»(ص134)، وهي جملة مراوغة ذات دلالات ملتبسة تبدو على السطح وكأنها عبارة تحية طقسية، وفيها من هذا المعنى شيئ ينبغي ألا تفوتنا دلالاته، وتبدو بالنسبة لحقيقة ما حدث وكأنها إشارة مباشرة وملتاعة معا إلى عامر ابن بركات. وبين الدلالتين: الدلالة الطقسية والدلالة الجزئية المحددة تنفتح الرواية على عالم ثري من المعاني المتراكبة التي تنطلق كلها كقذيفة في لحظة زمنية مكثفة. لأن الرواية كلها، من صفحتها الأولى وحتي نهايتها بعد صفحتين من تلك العبارة، تدور في هذه الدقائق القليلة التي استغرقتها رحلة مسعد إلى دكان صديقه بركات الجزار الذي يقع على مبعدة خطوات قليلة من دكانه.
وعلى امتداد هذه الرحلة القصيرة اللاهثة من دكان مسعد وحتى منعطف الشارع الثاني الذي يقع فيه حانوت بركات، والتي ميزت الرواية تفاصيلها المحدودة وكتبتها بحرف «مائل» و«بنط» مختلف، ووزعتها بين الفصل الأول والرابع والسابع والحادي عشر، تسترجع لنا الرواية في شذرات حادة ولحظات منتقاة ومتوهجة كل تفاصيل المأساة، في محاولة لتقصي أسباب لحظة العجز عن الثأر باسم أخذ الثأر الذي تجهز له مسعد بالسكين، وتداعى له صديقه وربيبه عنتر بالسهر والحمى. وحتى نتعرف على أسباب هذا العجز الذي تتقصى الرواية ملامحة، لابد لنا من تمحيص بنيتها السردية المتراكبة. ومن البداية سنجد أنه برغم تكثيف الزمن الروائي في رحلة لا تتجاوز في الواقع إلا عدة دقائق، فإن زمن الحكي يشمل عدة سنوات من حياة شخصياتها، قدمتها الرواية من خلال تطوير القص فيها على محورين متضافرين ومتداخلين: أولهما مشغول بتسجيل تفاصيل حياة مسعد في الأيام الثلاثة الأخيرة من حياته، ومنذ لحظة عودته ليجد زوجته في غرفة نومهما مع عامر الذي فر هاربا وحتى زمن الرحلة القصيرة اللاهثة، وهو الزمن الروائي والواقعي معا، يوم السوق من دكانه إلى حانوت بركات. وهذا المحور هو محور السرد العياني الذي يتجسد فيه الحدث في آنيته وحضوره، فكل أفعال القص فيه في زمن المضارعة الذي يكسب المسرود توهجا وفاعلية. ويتطور هذا المحور في خطين متوازيين يقدم لنا أولهما ما يجرى لمسعد، بينما يهتم الثاني بما يحدث لسعدية التي حبسها في قاعة علف البهائم، وأوكل أخته أمينة بحراستها. وبرغم توازي الخطين فإن الحركة فيهما متعاكسة الاتجاه لأننا نرى في أولهما مسيرة مسعد من القوة إلى الضعف، وكيف تتراخى قبضته على الحياة والواقع معا، وكيف يتدحرج بسرعة نحو الهاوية وقد فقد السيطرة على الموقف وعلى نفسه وتحلل من قيمه. بينما يكشف لنا ثانيهما مسيرة سعدية من الضعف البادي إلى القوة المطلقة، حيث تقبض في نهاية الأمر على زمام الموقف برغم ما يبدو من ضعفها فيه، وكيف تتصرف كالقابضة على الجمر بطريقة تعزز موقفها وتنال من قدرة الآخرين على التحكم فيها.
أما المحور الثاني فإنه يقدم لنا كل التواريخ والمعلومات الضرورية لاستيعاب مادار في هذه الأيام الثلاثة وإدراك حقيقة دلالته، وهذا المحور هو محور السرد الاسترجاعي الذي يوشك القص فيه أن يكون نوعا من المنولوجات الداخلية الموشحة برداء السرد الموضوعي بضمير الغائب، وإن كان منظور السرد فيه هو منظور الشخصية التي تقوم باسترجاع بعض ماضيها، أو تذكر أجزاء ضرورية منه. ويكشف لنا هذا المحور السردي الثاني الذي يتبنى في استراجاعاته صوتين أساسيين أو منظوري شخصيتين فقط هما مسعد وسعدية أن الرواية في جوهرها هي رواية العلاقة المعقدة بين مسعد وسعدية، بين المصري الريفي في رؤيته وتصوره للعالم وبين معشوقته بنت المدينة المغوية التي تشقيه، ولكنها لا تمنحه نفسها أبدا. لكنها تكشف لنا أيضا أن فهم هذه العلاقة لابد أن يتم في سياقها الاجتماعي والتاريخي والجغرافي معا. لأن الرواية تعكس في هذا المجال المقولة السائدة بأن القرية هي مستودع التماسك الاجتماعي والمدينة هي ساحة التفكك والتحلل القيمي والأخلاقي، فتقدم عالما قيميا متماسكا بالمدينة، تنهض العلاقات فيه على أصول راسخة، يقابله آخر متهرئ في القرية تنهار فيه أبسط القيم وهي قيمة الشرف الفردي، وكأنها تريد أن تلفت نظر القارئ إلى هذا الوضع المقلوب وتؤكد تاريخيته. فالتقابل هنا ليس تقابلا بين واقعين وفضائين جغرافيين فحسب، ولكنها تقابل بين مرحلتين مهمتين في تاريخ مصر الحديثة.
وتبدأ الرواية سرد تفاصيل الأيام الثلاثة الأخيرة من حياة مسعد من آخرها، أي من اللحظة السابقة مباشرة على الرحلة المشئومة إلى حانوت بركات. حينما ظهر فجأة بعد اختفائه لثلاثة أيام يمارس طقوس حياته المألوفة كل يوم سوق من طرد الكلاب، إلى رش الماء أمام الدكان، وحرق البخور داخله، ومسح الخطاطيف، وحلاقة ذقنه وشرب الشاي والشيشة. ثم ترتد من لحظة هذا الهدوء الطقسي الخادعة إلى لحظة أخرى مراوغة مثلها وهي لحظة عودته المباغته للبيت بعد أن ألغى مشوار العزبة واكتشاف ما حدث «ظل وقتا مترددا في تصديقه»(ص6) هكذا يقول لنا لنشاركه بعض ملامح الأزمة التي حرمته حتى من جسارة الانتقام لأنها حرمته من نعمة اليقين، وكان هذا الحرمان هو بداية النهاية. هرب الولد وبقي هو في مواجهة زوجته التي تساءلت برعب وهو يسحبها وراءه إلى صحن الدار «تقتلني يا مسعد؟»(ص9)، وكأنها بتساؤلها تطرح الفكرة في ساحة المواجهة منذ اللحظة الأولى حتى لا يتعلل فيما بعد بأنها لم تخطر له وقتها على بال، وطلبت منه أن يعطيها «الروب» «قالتها في صوت خافت بنبرته العادية وكأنها تنهض من جواره في الفراش، لم تبك أبدا».(ص.1) هذه النبرة العادية المحايدة جزء من آليات إحكام دائرة الشك والتردد، وكأن الكارثة لم تقع. ويحبسها في القاعة الداخلية المخصصة لتخزين علف البهائم ثم يبعث في طلب أخته أمينة، يسلمها المفتاح وينطلق هو لا يدري إلى أين. يكتشفه ربيبه عنتر آخر الليل في دكانه وقد عجز عن التصرف، يعود به إلى المقهى ثم يصحبه إلى غرفته، يتركه هناك ويتوجه إلى بيته ليأتي له بجلباب نظيف وهناك تحكي له أمينة كل شيئ. وبالتدريج يسلم مسعد قياده لعنتر الذي يستيقظ في الصباح ويتوجه لعم غرباوي كاتب العرائض يسأله الرأي فيفتي بأن فرصة مسعد في قتلها قد ضاعت، فقد كان عليه أن يقتلها ساعتها، لا أن يحبسها في غرفة ثم يخرج يجرى هنا وهناك. لأن «المادة .23 من قانون العقوبات، سبق الإصرار، إعدام، المادة 27 من فاجأ زوجته حال تلبسها، حبس، سنة، ستة أشهر، براءة»(ص36).
منذ هذه اللحظة وعلى مد الأيام الثلاثة بين الحادث والمشوار الذي انتهى بالموت يسلم مسعد قياده لعنتر الذي تعهده منذ كان صبيا صغيرا يعمل في المقهى في عملية تبادل أدوار غريبة، ولكنها مبررة من داخل البنية القصصية. وتجسد هذه العملية في مستوى من مستويات القص تحلل البنية الأبوية وانهيار الأب الرمزي تحت وقع ضربات الأبناء. فمسعد كان بمثابة الأب البديل لعنتر ولعامر معا، فهو الذي أشفق على عنتر وكان ينقذه من قسوة صاحب المقهى، ويتعهد بكسوته صيفا وشتاء. كما كان أبا بديلا لعامر، ابن صديقه بركات، الذي انقذه أيضا من قسوة أبيه وآخاه. وها هو يقع ضحية لعامر الذي ينتهك شرفه فيسلم قياده لعنتر الذي يدرك من حديث الغرباوي الخبير أن فرصته في الثأر قد ضاعت. ويظل مسعد قعيد غرفة عنتر المظلمة التي استحالت إلى سجن إرادي بالنسبة له دون أن يدري، والتي ضاعف بقاؤه فيها من اعتماده على عنتر. ويسأله أن يتسقط له أخبار عامر، لكنه يسليه عوضا عن ذلك بأخبار بركات، وبالفصل الساخر الذي عمله فيه عندما استخدمه واسطة لبلوغ مأربه من زوجة الأخصائي. ويخبره عنتر بأن بركات قد طرد عامر من البيت علنا أمام أهل القرية حتى لا يعثر له مسعد على مكان.
وفي الليلة التالية تسلل مسعد فجرا إلى بيته ليجد اخته وزوجها وأولادها في حجرة نومه وقد جردت من كل ما كان بها من ستائر. كانت أمينة في قميص زوجته، وزوجها في جلبابه. وبدت الملابس فضفاضة عليهما. وبحث عن ساعته فوجد سلسلتها معلقة على صدر زوج أخته فأخذ الساعة وبدأ يفك سلسلتها من عروة جلبابه. هذا مشهد من أجمل مشاهد الرواية حينما تستيقظ الأخت وزوجها ليجداه فوق رأسيهما يفك ساعته من عروة جلبابه الذي يرتديه الزوج، ويتفرج على عري أخته المزري وقد انزلق قميص زوجته الواسع من عليها في مشهد عبثي ينتهي بانصرافه إلى الحظيرة حيث فك قيد بغله، ثم وجد حمار زوج أخته العجوز فأسرجهما وسحبهما وراءه، فهو في حاجة إلى ركوبتين في سعيه الكيشوتي للعثور على عامر. ويتجلى جمال هذا المشهد العبثي في أنه كان أول إعلان له عن موته، لأنه شهد كيف ورثته أخته وزوجها، والميراث إعلان للوفاة. وكيف بدا لهما كشبح فلم يتبادلا معه كلمة واحدة. وكيف قبل هو وضعه الجديد فلم يحاول استهجان ما فعلاه أو حتى الحديث مع أخته.
وبعد محاولة مخفقة للعثور على الولد «عامر» في بيت عمته، يلتقيان برجل غريب على رأس حقل من القصب يعرف كل تفاصيل ما جرى، ويعرض على مسعد أن يقوم نيابة عنه بقتل الولد لو أراد. ولكن مسعد يفزع من الاقتراح، وإن كان متيقنا أنه لو طلب منه أن يقتل الولد لقتله. وينطوي اللقاء مع هذا الرجل الغريب على بعد أسطوري وفانتازي معا، لأنه يعرف من التفاصيل ما يعرفه إلا مسعد وعنتر وحدهما، وكأنه يقرأ سريرتيهما ككتاب مفتوح، أو يوشك أن يكون تجسيدا لما يدور في داخل مسعد، ويكشف عن عجزه عن قتل الولد، أو عن رفضه الداخلي للقتل. وفي الليلة التالية يجيئ مسعد بخبر نقل عامر للاختفاء لدى أخواله في عزبة مجاورة، يتوجهان إليها في مشهد كيشوتي حق «مسعد يمتطي البغل وعنتر وراءه فوق الحمار»(ص124). وعندما يصلان إليها، ويكون عنتر قد أعد خطة تفاجئ مسعد بدقتها واقتحامها، يجدان في العزبة فرحا ومعازيم وخلقا كثيرين، ويستهوي الفرح عنتر فيقترح أن يتفرج قليلا عليه، وهناك يلمحه عامر، ويطاردهما أقاربه بالعصي، يشجون رأس عنتر قبل أن يفلتا منهما، ويتخليا عن البغل والحمار في معركة أشبه ما تكون بمعارك كيشوت مع طواحين الهواء. وفي الصباح، وهو يوم السوق، يقرر مسعد التوجه إلى حانوت بركات.
أما سعدية التي تركها سجينة بقاعة العلف وسلم أمرها لأخته أمينة التي تتصرف في الملمات، ألم تكن هي التي حسمت طلاقه من زوجته الأولى وقد عجز هو طردها من بيته كي يتزوج سعدية؟، فإن هذا المحور السردي يقدم لنا أيامها الثلاثة وقد بدت فيها، وهي الحبيسة أكثر حرية من مسعد ومن أخته معا. كان طبيعيا أن تؤكد أمينه حسمها بمجرد وصولها، وبعد أن أسلمها مفتاح القاعة التي حبسها بها، فتحت الباب «لم تر شيئا في العتمة، أطلقت بصقتها في الاتجاه الذي يأتي منه التنفس اللاهث، ثم أغلقت الباب»(ص13). هذه اللقطة الصغيرة الدالة على نوع الحسم الذي تعد به: حسم عملي جبان، نتعرف على حقيقته حينما «فرشت ملاءة سرير على الأرض وأفرغت ما في الدولاب من ملابس سعدية، وجمعت زجاجات العطر من فوق التسريحة، وجاء زوجها وجلس على عتبة الحجرة. فردت أمامه بعض قطع الملابس الداخلية وهي تلوي فمها، ثم رمت بها إلى الملاءة. فتحت الأدراج وأخرجت ما بها من عقود الخرز والشرابات ولفت الملاءة ومدتها إلى زوجها»(ص13) الذي حمل لفتين على حماره وانصرف. نحن إذن بإزاء لصة صغيرة كانت تنتظر فرصتها لتنقض على كنوز سعدية التي تستهويها برغم عدم إجازتها لها أو مصادقتها عليها، ولتحقق انتقامها الصغير من تلك «البندراوية» المتعالية التي رفضت أن تسمح لها بالمبيت معهما في البيت ليلة زواجهما. ها هي فرصتها للانتقام قد حانت، لكن وقوعها في شراك حاجات سعدية الحلوة ورغبتها في الاستحواذ عليها يلهيانها عن كل شيئ عداهما، فبالرغم من أنها، هي وغيرها من نساء القرية لا يوافقن على تصرفات سعدية فإنهن يتطلعن جميعا إلى حاجياتها الجميلة التي تتألق في فضاء الريف الكالح ببريق المدينة المغوي. فعلاقتهن بها علاقة حب/كراهية لا يستطعن منها فكاكا، فهي العلاقة التي تشد القرية إلى غواية المدينة التي دائما ما تجلب عليها الدمار.
ويتكشف لنا سلوك أمينة عن رغبة حقيقية في احتذاء سعدية بالرغم من افتقارها لجمالها الباهر الذي تتحدث به النساء قبل الرجال، ولغيره من المؤهلات التي تمكنها من أن تكون نسخة ولو مشوهة منها. فأمينة لا تجمع كل حاجيات سعدية وتبعث بها إلى بيتها فحسب، ولكنها ترتدي قميصها الحريري المفتوح وشبشبها المزركش. وسوف تكشف لنا الأحداث عن أن تبادل المراكز الذي منح أمينة الضعيفة سلطة التحكم في سعدية الواثقة من نفسها وجمالها، وأحالها إلى سجانة لها لم يفلح في إخفاء ضعف أمينة إزاءها ورغبتها في احتذائها. فعلاقات القوى الحقيقية تنبع من داخل الشخصيات قبل أي شيئ آخر. ومن هنا ظلت أمينة برغم جشعها وتحكمها الظاهري في سعدية ضعيفة إزاء كل ما يتصل بسعدية من أشياء وصفات. وإزاء هذا الجشع الذي تنطق به كل تصرفات أمينة تتكشف سعدية عن نموذج مغاير بل ومناقض كلية. فأول ما طالبت به في محبسها لم يكن الطعام أو الحرية، وإنما الاستحمام. وهو أمر أدهش أمينة وفاجأها، كما فاجأها رفض سعدية لها وقد أتت مستسلمة لجمالها تعرض عليها أن تدعك لها ظهرها. هذا الرفض الحازم الذي رنت صفعته في أعماقها كان هو الذي دفعها إلى أن تهوي بكفها المعروقة على وجه سعدية في نوع من الدفاع المستميت عن النفس. لكن هذه المعركة لم تغير من ميزان القوي الحقيقي شيئا لأن البساطي يرينا كيف تحولت أمينة بالتدريج إلى لعبة في يد سعدية، إلى خادمة لها لا سجانة. تلبي كل طلباتها وتحصل بالطبع على الثمن قطعة إثر قطعة من مصاغها. تستمر لعبة القوة والاستحواذ تلك لثلاثة أيام يتزايد فيها خوف سعدية من أن يكتشف أخوها أنها هي التي أخذت مصاغ زوجته ويسترده، خاصة وأنه جاء في فجر اليوم الثاني وانتزع ساعته من صدر زوجها. وتنمو قوة سعدية التي ترفض حتى أن تعاملها بندية أو تلعب معها «السيجة»، حتى ولو كان الثمن أن تترك باب زنزانتها مفتوحا.
وفي مواجهة التناقض الصارخ بين أمينة وسعدية تقيم الرواية تماثلا بين مسعد وأمينة، من حيث موقف كل منهما من سعدية، وتناقضا بينها وبين مسعد. فمسعد الذي أعلنت أخته موته الضمني وبدأت هي وزوجها عملية وراثته وهو لايزال على قيد الحياة، بعد أن جردت زوجته من جل ممتلكاتها، يشعر هو الآخر بضعف إزاء سعدية بالرغم من حبسه الظاهري لها، وهو يستعين بأخته عليها ولكنها عاجزة عن أن تعينه. فمسعد هو الآخر لا يصدق أنها قبلت به زوجا «يقول إنه لا يصدق حتى الآن أنها امرأته. يسألها: لم رضيت بي»(ص48)، وقد ترك كل حياته السابقة وصداقاته بالمقهى ليستمتع بما أصبح له دون أن يصدق أنها أصبحت له. «فرحا بها يتربع في ركن الحجرة على الشلته وعيناه لا تفارقانها»(ص47)، لكنها سرعان ما تضيق به، وبعالمه المحدود، وبعجزه عن الدخول إلى عوالمها، العوالم التي تفتحها لها قراءة الملجلات والإنصات للراديو. من هذا المدخل دلف عامر، وجاء لها بمجلاته الأدبية المليئة بالأشعار والقصص، وبقصصه عن زميلاته في الجامعة وجارته في السكن، ثم يبدأ هو الآخر قصته المتلعثمة معها. ويبدو أن عجز مسعد عن ولوج عالمها، وإخفاق كل محاولاته للتواصل الحقيقي معها هو الذي دفع به إلى المجيئ بعامر معه كل يوم، وكأنما يحكم بيده الأنشوطة حول عنقه. لكن عامر لم يكن بالنسبة لسعدية أكثر من رجل آخر في سلسلة الرجال الذين يشتهونها ولكنهم لا يستحقونها. رجال القاسم المشترك بينهم هو ضعفهم إزاءها، وعجزهم عن أن يكونوا أندادا لها، أو يواجهوها بصراحة باشتهائهم لها.
فجوهر علاقة جميع الشخصيات الرجالية بسعدية هو الغرام بها والتخلي عنها، والإحساس بأنهم جميعا أقل منها ولا يسحتقونها. من خطيبها الحلاق البورسعيدي الذي اعترف لها بأنه كان يخشى أن ترفضه، «وقال إن كثيرين يعرفهم أخافهم جمالها، يقولون إن حظه سيئ الذي يتزوجك، فمثلك يسبب قلقا دائما للرجل. ويتساءلون عن الرجل الذي يمكن أن يملأ عينك. يحدثها وكأنها غير المقصودة بالكلام»(ص66)، إلى مسعد الذي «يقول إنه لايصدق حتى الآن أنها امرأته» (ص47) إلى أحد الأخوة الثلاثة في غرفة المدرسة التي اقتسمتها أسرتها مع أسرتهم وأقاما بها حاجزا فاصلا من الخشب تسللت يده من تحته تجوس في الظلام وفي حدائق الجسد البكر فانتهكتها في نوع من الإحباط العبثي المدمر، ولم يجرؤ حتى على الإفصاح عن نفسه في الصباح، وحتى عامر الطالب الجامعي الذي أغرم بها وتخلى عنها هاربا في لحظة المفاجأة التي أعلنت الفضيحة، مع أنها لم تشعر في حضوره بأي حرج «فالولد مثل البنت أبوه بركات اشتكى لطوب الأرض من الولد الذي ذهب للجامعة وعاد مخنثا»(ص79). ومن هنا فإنها حينما تترك البلدة في نهاية القصة تبدو برغم وحدتها وكأنها أقوى منهم جميعا، فقد قتل الحلاق، وسقط مسعد ميتا، أما عامر فلايزال مطاردا، بينما بقيت سعدية أكثر منهم جميعا اعتزازا بذاتها، وحفاظا على كرامتها.
لكن هناك مع ذلك عنصرا من عناصر التماثل بين سعدية ومسعد، فكل منهما يرفض في أعماقه الانصياع للقدر الاجتماعي الذي يمليه عليهما الواقع. وهو رفض نتعرف على سره من خلال تناول محور السرد الثاني الذي يقدم لنا كل ما جرى لسعدية في بورسعيد قبل عمليات التهجير التي سبقت حرب الاستنزاف، وقصة زواجها الذي لم يكتمل من الحلاق، كما يقدم لنا تجربة زواج مسعد الأولى وطلاقه وتفاصيل علاقته ببركات وابنه عامر، ومجموعة الحبكات الثانوية المهمة في الكشف عن أبعاد الحدث الرئيسي،. وفي هذا المجال نجد أن كل الحبكات أو الأحداث الثانوية التي تتعلق بعالم البلدة تقابل تلك التي تتعلق بالماضي وواقع مرحلة ما قبل التهجير. فكل أحداث البلدة وإناسها تشير إلى عالم مشحون بالعداءات والإحن. وخاصة تلك المتعلقة بذلك العداء الأبدي بين الحاج مختار والحاج بسيوني والذي يبلغ حدا عبثيا من الكراهية والمقاطعة. أو قصة عامر الهارب من اضطهاد الأب القاسي الذي لا يفهمه «بركات»، ولا يقيم وزنا لاختلافه أو تعليمه، إلى أحضان أب بديل «مسعد»، ثم قتله الرمزي لهذا الأب البديل والحلول محله في سريره. أو قصة أمينة مع زوجة مسعد الأولى التي هددت بفضيحته وكشف سرقته لأرض الحكومة، وكيف عاملتها أمينة بقسوة وفظاظة وحسم، وألقت بها هي وملابسها في عرض الطريق. إزاء هذه القصص أو الحبكات الثانوية تقدم لنا الرواية قصة زغلول وحنطوره، واعتزازه السافر بكرامته وتصرفه مع زوجة عبدالسلام صاحب شادر الخشب. ففي أحداث هذه المواجهة التي يلخص فيها النص بعض أسرار قصة سعدية مع مسعد بطريقة غير مباشرة، نكتشف عمق التباين بين ثقافتين، وقد استحال في سرد النص لها إلى خلاف بين لغتين، تدرك حقيقته امرأة عبدالسلام التي حكت عن «الرجل وتقديره للأصول وصمته، وكيف أنه جعل زوجها لايساوي شيئا»(ص56). وهذا أيضا هو ما فعلته سعدية التي جعلت جل رجال النص لا يساوون شيئا. هذه التفاصيل الصغيرة التي تبدو للقراءة العابرة وكأنها مجرد جزئيات نصية تمنح المشهد واقعيته وتغرقه في التفاصيل اليومية هي التي تبلور الاستقطاب بين عالمين، ولغتين، ومرحلتين تاريخيتين، وتشي لنا بهذا الضعف الفظيع إزاء كل ما ينتمي للعالم الجديد، والاستهانة التي تبلغ حد التفريط بكل ما ينتمي لنا.
ففي مستوى من مستويات التأويل النقدي لهذه الرواية الجميلة تبدو رحلة مسعد المخفقة من دكانه إلى حانوت بركات، ومحاولته الخائبة لتصحيح الخطأ الفادح الذي وقع عليه وكأنها إعادة كتابة عصرية لرحلة دون كيخوته التي يبدو فيها عنتر وكأنه سانشو بانزا جديد، خاصة وأن النص يعي في ذاكرته الداخلية شيئا من هذه الاستعارة فيشير إلى رحلة يقطع عنتر بعض أجزائها على ظهر حمار عجوز كحمار سانشو، بينما مسعد يمتطي صهوة بغلته المطهمة، وكأنها المعادل الريفي لحصان دون كيخوته. كما تبدو سعدية وكأنها دولسينيا الجميلة التي خلبت لب مسعد بالفعل منذ أن وقع نظره عليها وهي تشتري منه «نصف كيلو» من اللحم. لكن القصة تقدم لنا في مستوى آخر من مستويات التأويل تنويعا مصريا على شخصية هاملت التي يودي بها ترددها وإحساسها المبهظ بالواجب معا. غير أن هذه الأبعاد التناصية في العملية التأويلية ليست إلا عناصر في نسيج بالغ الكثافة والتعقيد تكتسب فيه المأساة طابعها المصري الخالص، وتموضعها ذاكرتها الداخلية في مرحلة محددة من تاريخ مصر، تتبدى فيها سعدية وكأنها المعادل الروائي لمصر المهيضة الجميلة معا. تصطرع في شخصيتها كل عوامل التألق والدمار، وكل صراعات المدينة والقرية، وتنصب فيها كل صبوات العشاق دون أن يستطيع واحد منهم أن يملأ فراغ حياتها أو أن يستحوذ على قلبها، وإن نالوا جميعا شيئا من عطفها، وساهموا كلهم في تجريحها والتخلي عنها. لذلك لم يكن غريبا أن تترك سعدية هذا العالم في نهاية الرواية، وتلقي نظرتها الأخيرة على بيوت البلدة وراء الأشجار، وهي متأكدة من وصول القطار الذي ستبدأ به رحلة جديدة.
رسم رحلة مسعد من القوة إلى الضعف والتعرف على المسارب التي تسلل منها هذا الضعف، ورسم رحلة سعدية المعاكسة في مقابلها.