رواية "صخب البحيرة" حكاية الماء في علاقته بالمكان والإنسان. وجد المكان أولا، ثم جاء الإنسان ليعيد تشكيل المكان الخاضع لحركة الماء مدا و جزرا. والقارئ للنص، يكتشف منذ الصفحة الأولي، شساعة المكان الذي يقترب من الكون أحيانا، كما أن هذا المكان يأخذ، أحيانا أخري، حجم نقطة مهمشة من هذا الكون الواسع.
ولعل هذا هو الدافع الذي انطلق منه السارد "العليم بكل شيء" بهدف تحقيق معادلة صعبة تجمع بين «الأسطوري» و «اليومي». ف«الأسطرة» تتجلي في حركية الماء، ترعة وبحرا وبحيرة، المنتجة للحياة والموت، الوجود والعدم، الصبا والشيخوخة، الدورة الإنسانية، تبدأ بين اللقاء الأول بين الصياد العجوز، المقطوع من شجرة، والأرملة بطفليها الصغيرين الملتصقين بها ليل نهار. اثنان لا ثالث لهما إلا الماء. الماء يأتي بالرزق اليومي، وبكائنات ما وراء البحيرة القادمة مع رياح العواصف الموسمية، أو المناسبة - من ناحية أخري مع حركة الماء العادية في اللحظات الهادئة أو الطبيعية.
الماء يشكل تضاريس المكان، والأمزجة، والحسابات الكبيرة (هجوم الإسمنت المسلح) والأطماع الصغيرة (صراع الشخصيات حول ما يقذفه البحر).
تلك هي بعض صور اليومي الذي قد لا يبقي حبيس الأفعال البسيطة للأفراد، بل يرتفع الفعل علي مستويات نمطية بالمعني الإيجابي لتصبح دالة علي الفعل الإنساني مستوحية تجارب الإنسان تجاه هذا الكون البحر - الزاخر بمختلف الدلالات.
وفي كثير من الأحيان تداخل الأسطوري مع اليومي، وتحول هذا الأخير إلي «أسطوري»، و«الأسطوري» إلي يومي. إننا نعيش بالماء وحده، بل نعيش بكل ما يحمله هذا الماء بتاريخه الطويل منذ بداية تشكل العالم إلي الآن، وإصرار الموج علي حركته، هو إصرار هذه «اللغة البحرية» علي التذكير بحكايات كل الذين مروا بالماء، أو مر بهم الماء يوما ما، الذي غير المصائر والأوضاع.
حرث البحر: يقوم النص علي بنية رباعية: صياد عجوز/ « نوة» / براري / ورحلوا.
يحكي القسم الأول عن علاقة الصيد بالأرملة، وهي علاقة خضعت للضرورة والرغبة- في آن واحد- في تأليف المكان الموحش أسرة مكونة من أربعة أفراد- الولدان ينتسبان إلي الأرملة تواجه البحر كل لحظة وحين في حالات الغضب أو الهدوء.
أما القسم الثاني فيقدم لنا «جمعة» وزوجته من جهة، والعاصفة (النوة) البحرية التي تجتاح البحيرة من جهة ثانية. وإذا كانت العاصفة تدمر كل الأشياء القائمة (المقهي، الحانوت الوحيد... الخ)، فإنها منجم لا ينضب بالنسبة للزوجين، فالبحر«قد لا يعطي السمك» و لكنه يمنح الأعاجيب من ألبسة وأحذية وتحف غريبة وحلي .. الخ. و«النوة» آتية لا ريب فيها، ولذلك لا مدعاة للعجلة من أجل الحصول علي فردة حذاء، أو قرط إحدي الأذنين، فالبحر يحس بالإنسان، وغضبه (النوة) يكشف عن معدنه الثمين.
في القسم الثالث حكاية الصديقين المتجاورين: صاحب المقهي (كراوية)، و صاحب الحانوت (عفيفي). مناوشاتهما لا تهدأ، ولكن لا غني لأحدهما عن الآخر، خاصة عندما تعصف العاصفة بكل شيء، جارفة معها تلك الكائنات الهلامية الآتية من جزر بعيدة، خلف البحيرة، والمتعطشة للزيت و«الجاز» والحلوي الرخيصة عند «عفيفي»، ولأنفاس الجوزة بمقهي"كراوية".
في القسم الأخير الذي لا يتعدي ورقة ونصف الورقة نجد حكاية الأرملة، من جديد، التي تعود، رفقة ولديها اليافعين، لتسترجع رفات الصياد الشيخ الذي توسدت عظامه الصندوق.
صندوق الغناء و صندوق النحيب: تحتوي الأقسام الأربعة علي ثيمة مشتركة مجسدة في الصندوق.
في القسم الأول نجد صندوق الصياد المشار إليه آنفا، وفي القسم الثاني نجد صندوق «جمعة» الذي يرسل المقاطع الغنائية العجيبة والأصوات الغريبة. وفي القسم الثالث الصناديق (الفوارغ) الكارتونية الصغيرة الطافية فوق الماء بعد أن التهمت الكائنات القادمة من ما وراء البحيرة، الحلوي الرخيصة.
وفي القسم الأخير يحمل صندوق الصياد، مرفقا بعظامه، من قبل الأرملة و ابنيها واختفي الكل خلف الأمواج.
والصندوق في هذه الحالات الأربع مغلق علي أسراره، وفي حالة انفتاحه، أو فتحه، لا يكشف عن سره، فصندوق الصياد الشيخ يحوي ملابس داخلية وأوراقا مختومة وحبات مسبحة ناقصة. وصندوق جمعة غريب الموسيقي واللسان الذي عجز عن ترجمته أستاذ اللغات بالمديرية. وصناديق الحلوي الصغيرة الفارغة لا تكشف عن سر هذا الوله بالصناديق فارغة أو مملوءة. و بالرغم من اختلاف الصناديق، من حيث محتواها، فإنها تظل حاملة لدلالة الموت والحياة، فالصندوق الأول بمثابة تابوت يحمله الصياد الشيخ، في حله وترحاله، في انتظار لحظة الموت- الصندوق الثاني يحمل لغات الأموات الأحياء المصحوبة بإيقاع موسيقي غريب أما فوارغ الحلوي الرخيصة فهي وسيلة لدفع غائلة الجوع أو الموت في لحظات العاصفة. يبقي صندوق المقطع الأخير الذي يحمل دلالته الصريحة دلالة التابوت.
كائنات برية و أخري بحرية: لعل البحيرة، حتي في حالة غضبها، قد لا تشكل خطرا علي ساكنيها، وبالرغم من كون العاصفة الموسمية "النوة" تقذف الغرائب والعجائب، فإن الكائنات البحرية الغريبة التي تسترها أسمال الشباك لا تشكل هجمتها تقويضا لنظام البحيرة. إنها دورة موسمية لحركة المد والجزر، أما الخطر الحقيقي فيكمن في الكائنات البرية المسلحة بالمراكب السريعة و المستنبتة لأعمدة الخرسانة بعد أن عاثت الجرافات فسادا في منطقة المضيق الفاصلة بين البحيرة والبحر. هنا أقيم السد «فيحل المضيق وركدت مياهه، وتعري جانباه بما فيهما من فجوات كثيرة وشقوق وأحجار سوداء، تفوح منه رائحة عطر، وتملأه طحالب تقذفها البحيرة إليه من حين لآخر».
إنه الحكم الأخير علي البحيرة، وأهلها، بالموت أو العدم. ولم تجد الأرملة العائدة مفرا من العودة بعد استرجاع رفات زوجها الصياد العجوز وصندوقه. فهو لم يعرف إلا البحيرة، وقاربه بالرغم من زواجه منها. كان لا يغادره في اليقظة أو النوم أما أن تصبح البحيرة ميدانا فسيحا للمضاربات العقارية فالارتحال يسمح بالإبقاء علي ذكري الشيخ الطيب. و«التفتت المرأة قبل أن تصعد القرب و أشارت بعصاها نحو البيوت. ونظر الرجلان حيث تشير. وانطلق القارب إلي عرض البحيرة».
يبدأ هذا النص الممتع بالماء و ينتهي بالماء، وكأنه صياغة لتشكلات الكون بمفردات الواقع اليومي، واقع عالم مهمش لا يحسن إلا لغة الماء. و لعل زاوية الرؤية التي اتخذها سارد يقظ الحواس، ذو عدسة عميقة، تسهم في نصاعة الصور المتلاحقة، هذه الزاوية التي- كما فعل يوسف إدريس.. مع عمال التراحيل في روايته «الحرام» - تعيد الاعتبار لفعل الإنسان الدؤوب لإعطاء وجود معني معين. وليس من الضروري أن تكون وجودا فلسفيا مجردا، بل إن حماية أرملة بولدين يتيمين في مكان معزول عن الدنيا، يعد في حد ذاته، دلالة علي بطولة الماء قبل بطولة الإنسان. هكذا تتحول البحيرة إلي أم رءوم أو أب قاس صديق يضعف أمام ضغط اليومي أو حكيم يحكي في سر الأزل؟ المكان يصبح تجربة حضارية تداخلت فيها أصوات الماضي والحاضر... والمستقبل، وإصرار الموج علي مخاطبة الشاطئ دلالة علي أن الصخب، صخب البحيرة. لم يهدأ، في يوم من الأيام، بالرغم من الهجوم الخرساني علي المكان.