رواية الكاتب المصري الكبير محمد البساطي الجديدة (فردوس) درة روائية بديعة بأي معيار من المعايير. أو هي قصيدة روائية شفيفة تجسد جماليات البساطة الآسرة، وتستمد سحرها من بساطتها المتناهية تلك. وهي في الوقت نفسه رواية بالغة الكثافة والثراء، برغم سطحها البسيط الخادع، مترعة بالمشاعر والإضاءات القادرة على الكشف عن الحيوات التحتية والعوالم السرية المضمرة لشخصياتها، وعما تتمتع به هذه الشخصيات من ثراء إنساني خصب. فهي أولا وأخيرا رواية هذا الموضوع التشيكوفي الأصيل، رواية الجمال والنبل والرقي والرقة والدعة في مواجهته للقبح والفجاجة والتدني والفظاظة والقسوة، وانكساره أمامها. ولكنها في الوقت نفسه رواية اكتشاف القرية، واكتشاف الإنسان المصري البسيط للمسرات الحسية الصغيرة، من الأكل والتدخين والتلمظ الجنسي في واقعه الفظ العاري من المسرات. رواية اكتشاف عالم اللذة السري وخفاياه البسيطة والموجعة معا، ومنطق هذا الاكتشاف المراوغ وقد أصبح الاكتشاف نفسه جزءا لا يتجزأ من حركية التغيير الذي ينتاب القرية المصرية ويتسلل إلى رواسيها فيزعزها بهدوء لايقل احتداما وعرامة عن أي عنف شرس. لأن الرواية تكشف لنا عن غواية الاكتشاف ذاته بالنسبة لشخصيتها الأساسيتين: «فردوس» التي يوقعها الاكتشاف في أحبولته فلاتعرف كيف تتخلص من شباكها، و«سعد» الذي يقدم لنا قسمات هذا الإكتشاف وهي تتخلق بشكل جمعي من خلال حوار الشبان مع بعضهم البعض، واختباره الأريب لوقع هذا الحوار على موضوع الاكتشاف نفسه «فردوس»، التي تتحول في النص إلى مركز الرغبة الجماعية لشباب العزبة كلهم، ويتحول «سعد» إلى التجسيد الفردي لهذه الرغبة الجمعية المحبطة، رغبة اكشاف الحياة نفسها ولمسها والتعرف عليها والدخول في خرائط هذه الرغبة المعقدة.
وهي لذلك رواية مأزق المكتشف ــــ بكسر الشين ــــ وتخبطه في فيافي اكتشافه ذاته وعدم قدرته على الإفلات من إنشوطتها، ومأزق المكتشف ـــ بفتح الشين ـــ معا، وقد تحولت إلى موضوع للاكتشاف وأداة له في آن. وهي في بعد من أبعاد التفسير الروائي لها رواية عن الحياة البسيطة في الريف المصري، الحياة الثرية بالمشاعر والرغبات الحسية برغم تقشفها وفقرها. وعن طقوس هذه الحياة اليومية وما تتسم به من غنى طقسي لا يكشف عن نفسه بسهولة للعين العابرة. وهي في بعد آخر رواية عن آليات الحرمان المراوغ الذي يتحمله الإنسان المصري بجسارة لا تفصح عن نفسها إلا من خلال الترفع عن الشكوى، والاعتصام بالجلد والكبرياء، والقيام بالواجب الاجتماعي وكأنه طقس مقدس لا يمكن التساؤل عن أقداره الغاشمة التي تفرض الحرمان في كثير من الأحيان على أكثر الشخصيات نبلا وجدارة بالتحقق، بينما تغدق على شخصيات أقل منها قيمة الكثير. وهي في بعد آخر رواية الكشف عما يمكن دعوته بالجوانب الكونية في القرية المصرية أو تجسيد ماضيها المؤتلق في كينونته الأزلية التي اختزنتها الذاكرة، وهاهو الفن يسعى إلى تجسيدها في نص مترع بالشعر والخصوبة ويقترب من تخوم الفلسفة. وهي في بعد آخر تقطير لجوهر الإنسان المصري البسيط في الريف المصري، جوهره الدائم الذي لا يغيره كر الزمن منذ كانت الحياة في وادي النيل، ولا تنال من ثوابته عوادي التغيير، فالرواية تدور بشكل من الأشكال خارج الزمن التاريخي وفي إطار ما يمكن دعوته بالزمن السرمدي الثابت الذي لا يتغير برغم دورانه المستمر.
فأنت تقرأ هذه الرواية ولا تعرف حقا متى دارت أحداثها من الزمن التاريخي، اللهم إلا من هذا الهدوء الرازح الذي يخيم على الحياة الرخية في عزبة النص المصرية الصميمة التي تعود بنا إلى زمن يبدو لنا من قراءة النص وكأنه غابر ناء بعيد، لا علاقة له بريف مصر القبيح في زمننا الرديء، وإلى آليات عمل الذاكرة، وهي مصدر هذه التجربة الفنية الخصبة. وهذا المناخ الهادئ الرخي يدفع القارئ للتساؤل: أتدور الأحداث في ثلاثينات القرن الماضي أم في أربعيناته؟ فلا يوجد في النص إلا إشارات واهنة للزمن التاريخي، نستخلصها بصعوبة من ذاكرة النص الداخلية مثل الإشارة لدخول التليفزيون القرية، لا في البيوت وإنما في مقهاها الوحيد الواقع عن أطراف العزبة. ولذلك فلابد أن الزمن هو أوائل الستينات بعد دخول التليفزيون مصر وبدايات تفتيحه لعيون مراهقي القرى من الشباب على ما لم يعرفه جيل «فردوس» من قبلهم أو ما لم يجرؤ علي الخوض فيه. وهذه الإشارة الواهنة إلى بدايات الزمن الستيني ــــ زمن ما قبل الهزيمة التي رفضتها الوطنية المصرية في حرب الاستنزاف، ثم كرسها الصلح الساداتي مع العدو الصهيوني البغيض ـــــ تكشف لنا عن وعي النص ببذور الانكسار وهي لم تزل أجنة لم تتخلق بعد في رحم الواقع، ولكنها تكشف لنا في الوقت نفسه عن أن هذا الواقع وخاصة في بعده الريفي كان لايزال سادرا في زمنه السرمدي الثابت لم يتغير شيئ من عاداته وقيمه ورؤاه، وكأن مسيرة المجتمع المصري في زمن التغيير الناصري لم تؤثر فيه كثيرا. وإن كان النص يكشف لنا في الوقت نفسه بدايات هذا التغيير من خلال بزوغ تلك اللغة المغايرة، لغة «سعد» التي زلزلت كيان «فردوس» وقوضت كثيرا من رواسي عالمها الثابت القديم.
فالرواية في بعد من أبعادها هي رواية المواجهة بين «سعد» و«فردوس» بين جيلين وثقافتين ومرحلتين منظومتين قيميتين، أو هي بالأحرى رواية القطيعة بينهما في غيبة نسبية لدور الأب، برغم حضوره الشكلي، الذي أخذ يتخلى بالتدريج عن دوره وتتآكل سلطته الأبوية التقليدية. إذ تبدأ الرواية تلك البداية الدالة المركزة «عندما قالت فردوس لزوجها أن ابنه حاول معها، نفث دفقة دخان من منخريه وضحك. قال: الواد كبر. هز رأسه خفيفا وضحك مرة أخرى»(ص5) وشر البلية ما يضحك كما يقولون. لم ينفجر صارخا، ولم يرغد أو يتوعد، ولم ينهر الإبن أو ينبهه إلى ما في تصرفه من «عيب» أو «حرام»، وإنما ضحك مرتين، حتى إذا ما فاتت القارئ دلالات الضحكة الأولى فلن يستطيع التغاضي عن الثانية. ولذلك تنبهنا فردوس مباشرة بعد ذلك إلى أنها «لم تسترح لهزة رأسه، ولا لضحكته» ولم تكتف بعدم راحتها، وإنما وبعد أن مرت في رأسها أفكار كثيرة قالت «كنت تكلمه كلمتين. نفث دخانا كثيفا وابتسم: آه كبر، شفت شنبه»(ص5) هذه البداية التي تكشف عن تباين ردود الأفعال، وعن مغايرتها لكل التوقعات التقليدية المألوفة تجسد لنا منذ الكلمات الأولى أزمة «فردوس» وقد تخلى رجلها عن دوره في حمايتها من تطاول ابنه المراهق عليها، وأصبح عليها أن تتصرف وحدها في هذه المسألة الشائكة الحرجة. ولذلك فإن الرواية تصبح من هذه اللحظة الباكرة فيها رواية «فردوس» بحق، ليس فقط لأن هذا هو ما يقوله لنا العنوان الذي يمنحها تلك المركزية الروائية وينبه القارئ إلى محوريتها فيه قبل أن نبدأ القراءة، ولكن أيضا لأن الصوت المسيطر على السرد في الرواية كلها والذي يستأثر بمنطور الحكي فيها هو صوت فردوس وحدها.
لكن الأهم أن عالم الرواية نفسه هو عالم «فردوس» لأن هذا العالم محدود جغرافيا بالعزبة التي تعيش فيها، ودارها التي تتكون من حجرة واحدة بحوش صغير، بها عشر دجاجات وأربع بطات، وكتاكيت في قفص، وعنزة. ومحدود زمنيا بحدود حاضرها وماضيها، لأننا لانعرف شيئا عن ماضي بقية الشخصيات الأساسية في الرواية من زوجها «موافي» إلى ابنه «سعد»، بينما نعرف كل قصة «فردوس» ماضيها وحاضرها وما جرى لها منذ طفولتها وحتى مواجهتها لهذا العالم الذي تخلى فيه الرجل عن مسئوليته: مسئوليته الزوجية، ومسئوليته الأبوية، ومسئوليته الأخلاقية على السواء. وأصبح فيه على المرأة، ولا أقول وعلى مصر برمتها، أن تعيش حياتها دون رجل يحميها أو منظومة قيم راسخة ترتكن إليها في عالم يتوهج بالشهوات المحبطة حقا، ولا ينجح في إخصاب «فردوس» التي تظل عاقرا، ولكنه يتردى كل يوم في مزيد من الانحدار. لأن أحد خيوط الرواية الأساسية هو خيط عوادي هذا التردي والانحدار وهي تتسلل في نسيج الحياة اليومية في القرية، وتفت في عضد شخصياتها، خاصة شخصية الأب «موافي» الذي يؤدي تخليه عن أدواره المختلفه إلى ما تعانيه «فردوس» من أزمات مضمرة. لأن «فردوس» تبدو في هذه الرواية وكأنها تعيش حياة عادية تحرص فيها على قيمها التي تؤدي بدورها إلى حرمانها من التحقق من ناحية، وإلى إحكام حصار العزلة من حولها من ناحية أخرى. فالرواية تحرص من البداية ـــ وطوال سردها الذي يتسم بالتدفق والسيولة وليونة التتابع وعذوبته ــــ على ألا يبدو أنها تتناول واقعا يعاني من التأزم أو الانحدار، وكأنها تدرك أن اللاوعي بالانحدار كان أحد سمات هذا الانحدار الذي لايعي نفسه كانحدار، وإنما كواقع يومي عادي، وكان سر تفشيه.
وتقدم لنا الرواية من البداية عالما واقعا في قبضة التحول، فبعد افتتاحها بالتحول العضوي الذي يعيشه الإبن المراهق «سعد» وقد خط شاربه، وبدأ يتحرش بزوجة أبيه الشابة الجميلة «فردوس»، وقد «فلت عياره ولم يعد له أمان»(ص10)، تسارع فتقدم لنا تحولا آخر في سلوك الأب نفسه. «خمس سنوات عمر زواجها. السنة ونصف الأولى لم يفارقها ليلة»(ص16) «عام ونصف، ثم بدأ يغيب، يغيب بالأسبوع ويأتي، يقضي ليلة ويمضي، والأسبوع امتد لأسبوعين والأسبوعان يمتدان لشهر، يمر بها ويأخذ قعدته على المصطبة ويمضي وكأنها لم تكن كل حاجة عنده. هي لاتصدق في الأحجبة والأعمال، يخطر لها أحيانا أنها الخلفة، عام ونصف وحين لم تظهر بشائر عاد هناك»(ص22) ويوازي هذا التحول الاجتماعي تحول «سعد» العضوي ويتفاعل معه. ليقدم لنا آليات نوع من الصراع المضمر القوي بين تخلي «فردوس» عن حقوقها، وانتزاع «ضرتها» اللامسماة ــــ وهل هي في حاجة إلى اسم؟ أليست هي «أم سعد» في منطق العزبة وأعرافها المسيطرة؟ أليست هي كما يحيل إليها «موافي» دائما أم عياله؟ ـــــ كل شيء من بين يديها، الزوج، والقش، والقطن وكل شيء بالتدريج، حتى الإبن «سعد» الذي زوجته مبكرا، وذكرت أباه بفاتحة قرأها قبل عشر سنوات مع أخيها «سالم» (ص103)، حينما عرفت انشغاله بـ«فردوس» وشغفه بعالمها المغوي الجميل.
فنحن هنا بإزاء هذه المنافسة المكتومة والضارية معا بين ضرتين، وبين منطقين، ونمطين أو منهجين في الحياة. تتسلح أولاهما «فردوس» بقيمها المدنية الراقية، فقد «تربت في البلدة، وذهبت للمدرسة في صغرها حتى نهاية المرحلة الأولية، وطول عمرها في البيت. أبوها تاجر الحبوب، كانوا كلهم في العزبة يعرفونه»(ص17) وبمعرفتها للأصول «عام ونصف وكانت تدفعه للذهاب إلى البيت الآخر، ويتكاسل، وتلح عليه: أولادك يا موافي تبص عليهم. ويقول: مالهم أولادي»(ص18) وبجمالها ونظافتها المفرطة وأثاث حجرتها البسيط النظيف المرتب. وبترفعها عن التدني وعن الصغار. أما الأخرى «ضرتها» فقد تسلحت للمعركة بأولادها الذين يتكاثرون بانتظام كالأرانب، وبحسها العملي القوي الذي يعتني بأدق التفاصيل، وبشراستها المستمرة واستماتتها في انتزاع كل شيء بالحيلة والقوة معا. فهي لاتهتم بنظافة بيتها أو بالعناية بأولادها، ولكنها تستميت في الحصول على أخر ندفة في آخر لوزة من لوزات القطن. وتحرص على أن تكون حاضرة في يوم الحصاد، وعلى أن يذهب كل القش في نهاية الحصاد إلى سطح بيتها، ولا تأخذ «فردوس» منه قشة. وتحرص على أن تبعد أطفالها عن «فردوس» وعن عالمها المغوي لهم بأكله الشهي ونظافته وفنونه المغرية. وتشعر «فردوس» من البداية أن لا مستقبل لأي علاقة طيبة بينهما «لم يحدث أبدا أن تخاصمتا أو تبادلتا كلاما مسيئا، غير أنها أحست من أول مرة تلتقيان أنهما لن تتصاحبا أبدا»(ص20). حيث يظل الصراع بينهما هو الخيط الرئيسي، أو بالأحرى أحد الخيوط الأساسية في هذه الرواية ذات الخيوط السردية المتضافرة أو المتناسجة في نسجية أو جدارية ريفية مدهشة التفاصيل متنوعة المشاعر والألوان.
وبالإضافة إلى هذا الصراع المضمر المخافت بين «الضرتين» هناك صراع مواز له يتفاعل معه باستمرار هو ذلك الصراع بين رغبة «سعد» المحرمة في «فردوس» واستجابة «فردوس» المراوغة هي الأخرى لهذه الرغبة، أو بالأحرى مقاومتها المستحيلة لها. وهي الرغبة غير المتحققة التي ترسمها الرواية على خلفية رغبتين متحققتين: أولاهما رغبة محرمة أخرى، وإن تحققت هذه المرة، وهي رغبة «صاحبه الذي ينام مع أخته غير الشقيقة من أمه. تركتها عند أهل زوجها بعد طلاقها تأخذه ويصعدان للسطح. ترتمي فوق القش، هي في الخامسة عشرة، تأخذه في حضنها وتبوسه ويتقلبان فوق القش. وتقول له أن أحلى نوم على القش. وكبرت وتزوجت، وتأتي لزيارة أمها مرة كل ثلاثة شهور. وهو أيضا كبر. ينتظران حتى ينام كل من في البيت، ويصعدان إلى السطح، يشلحها وتأخذه في حضنها. وتقول له إنها تحلم بالقش وهي في بيتها»(ص90). وثانيتهما رغبة مشروعة ومتحققة هي رغبة أختها الصغرى وحياتها الزوجية، وهي تتحدث عن «سيرة زوجها وعاداته، يخفت صوتها وكأنها تكلمها عن أسرار لا يجب أن يعرفها غيرهما وحين يريدها في ليلة يلبس الجلباب الأزرق الخفيف قبل النوم بساعتين، ويكون أمامها الوقت الكافي لتعد نفسها وترتب الفراش، وتغير الملاءة وأكياس المخدات، وتشعل عود بخور فهو يحب رائحته، وتستحم وتلبس قميصا تعرف أنه يفضله عن كل قمصانها، وتتوقف عن الحكي، لاتمضي أكثر من ذلك»(ص54).
هاتان الرغبتان المتحققتان تشكلان الظهار الذي تدور عليه الرغبة الأساسية المحرمة في الرواية، رغبة «سعد» في «فردوس» التي بدأت بها الرواية وتستمر فصولها السردية من خلال مختلف تجلياتها أو بالأحرى من خلال الكشف عن تجلياتها المراوغة وهي تتحول إلى حياة كاملة بالنسبة للشخصيتين الأساسيتين فيها. فمنذ أن بدأ «سعد» يكتشف تفتح براكين الرغبة التي يضج بها جسده وقد دق أبواب البلوغ أخذ في التحرش بـ«فردوس» موضوع الرغبة الجمعية لشباب العزبة جميعا، وموضوع سمرهم الدائم. «كنا بنعوم وواحد سأل عن الواحدة إللي نفسنا ننام معاها كلهم اختاروك، وقالوا أنهم لم يروا واحدة في حلاوتك» (ص28) أو إقرأ تلك الصفحات (ص 81-85) التي تذكرك برائعة يوسف إدريس الجميلة «ليلة صيف» التي تتحول فيها المرأة الشهية/ امرأة المدينة/ المرأة المدينة، إلى موضوع جمعي لرغبة شباب القرية حديثي البلوغ فيشقون الليل بحثا عنها ويتحول سمرهم إلى نوع من المعاقرة الجمعية لخمرها المسكر والبحث الجمعي عن سبيل للوصول إليها عبر الكلمات وسمر الليل. لكن «سعد» هنا يسعى سعيا فرديا لاعتراف موضوع رغبته به. وقد بدأ هذا السعي عندما بدأت تطرده من بيتها «قال: ياخالة لاتطرديني قال أنه ذاهب ليصطاد وسيأتيها بالقراميط التي تحبها، عارف أنك تحبينها يضحك: سأعطي أمي السم؛ وأنت القراميط، وأتعشى عندك»(ص23)
والقراميط رمز فرويدي واضح. وقد جلب لها القراميط بالفعل، وجاء للعشاء مع أبيه وقد أعدت لهم الأرز المطبوخ بالبصل المحمر وطاجن القراميط. و«هي متربعة تأكل في مهل انتبهت للقدم التي تتحسس قدمها تحت الطبلية، والأصابع التي تطبق على إصبع قدمها الكبيرة. ومن أين له بتلك الأفعال؟ ربما التليفزيون الذي يسهر أمامه في المقهى، أو السينما التي يمشي إليها في البلد. لمت قدمها تحت ساقيها. سكوتها على ما يبدو شجعه. مد يده في سرعة خاطفة وقرصها خفيفا في فخذها. توقفت الملعقة في يدها. التفتت إليه تكاد تنفجر من الغضب. أحنى رأسه متحاشيا نظرتها»(ص25) ويكشف لنا النص بعد دخول تحرش «سعد» بها هذه المرحلة من الجرأة الصريحة عن رد فعل الأب الذي يوشك أن يشجع الإبن على تطاوله من خلال طلبه منها أن تتربع، ومن خلال تحسسه لعجيزتها أمام ابنه من ناحية، كما يكشف لنا من ناحية أخرى عن طبيعة المأزق الذي وجدت «فردوس» نفسها فيه وعن القيود التي تكبل ردود فعلها. لأنه يعود بعد ذلك ليكشف لنا عن تفاصيل حكاية «فردوس» مع أسرتها التي قامت فيها بدور الأم بعد وفاة أمها «عندما كانت في الرابعة عشرة، وأختها في الحادية عشرة، وأخوها في الثامنة»(ص50) وكيف تزوج أخوها وترك البيت، ثم تزوجت أختها وبقيت هي ترعى أباها. ولما مات الأب صفى أخوها أعماله في المدينة وعاد ليقيم مع زوجته في البيت، وتحول البيت الذي كانت سيدته لما يقرب من خمس عشرة سنة إلى مكان غريب عاثت فيه زوجة الأخ فسادا وتغييرا، وعصف أبناء أخيها بهدوئه وبمكانتها فيه وعاملوها وكأنها «شغالة في البيت»(ص59). ولذلك كان طبيعيا أن تقبل الزوج الذي جاءها بعدما تخطت الثلاثين كي «تغادر البيت وتبعد عن زوجته»(ص58).
هكذا يحكم النص الحصار من حولها، فلايعود لها من مفر إلا التعامل مع تحرش «سعد» معها بنفسها. ينط من الشباك مرة، ويتهجم عليها فتقاومه بضراوة. وتغلق الشباك برغم حر الغرفة الخانق، وتسد الباب، فيقفز إلى الحوش من السطوح كل ليلة، ويستمتع بما يجده لديها من أكل استمتاع تعويضي واستعاري دال: «ولا على البال. نصف فرخة مرة واحدة»(ص68)، «الله ياخاله! الله! لا أحب الأكل إلا من يدك. لو تفتحين الباب أبوسك من عينيك، وخدك كمان. آه ياخالة. نفسي أحط رأسي على رجلك زي زمان وأروح في النوم وصوابعك بتلعب في شعري»(ص76)، «نصف بطة بحالة، والصدر الذي أحبه. أنت تعرفين أنني أحب صدر البطة. والأونصة كمان والكبدة. ليلة آخر تمام. والملوخية، من يصدق؟ كله في ليلة واحدة نسلم يدك ياخالة، حتى الخيار المخلل لاتنسيه»(ص77) إنها لغة حسية جديدة تعد فيها «فردوس» الأكل لغذها، فيأتي «سعد» ليلتهمه بشراهة جسد مترع بالرغبات. ومع أن بينهما باب مغلق إلا أنه يواصل الحديث المثقل بالغواية والحكايات الحسية التي تلمس أوتارا حساسة من هذه المرأة المحرومة من الرجل، وتدفعها إلى التعري داخل غرفتها، وهو يتلصص عليها من ثقب المفتاح «عريانة ياخالة، عريانة آه ياخالة! عمري ما شفت واحدة عريانة».(ص71)
ويحكي لها عما يقوله الشبان عنها، وعن أنها أجمل امرأة في العزبة، أجمل من تحية كاريوكا، وربما أنها مازالت بكرا، ويتشاجر معهم دفاعا عنها، عن موضوع رغبته/ رغبتهم. ويمزقون ملابسه ويوجعونه كل يوم ضربا كي يعترف لهم بما يفعل معها، وهذا سره الدفين، أو عالمه التحتي الثري بالتحقق والحرمان معا. وتقول له أمه «كل يوم جلباب مقطوع. ومرة شفة وارمة، ومرة حاجب وارم وكل ده بسببها! إللي شافوك قالوا، شافوك بعد نص الليل تتعلق بالحبل وتطلع السطح كانوا يحكون لي وأنا مبلولة من الكسوف»(ص98) ويمتنع عن التردد عليها لفترة، فتذهب هي مدفوعة بطريقة غير شعورية بحثا عنه ويعرفها الشبان في المقهى برغم تخفيها. ويقول واحد «جاءت تبحث عنك»(ص96) ويؤكد هذا البحث عندهم ظنونهم بأنه على علاقة بها، ويتفشى الأمر في العزبة، فتسارع الأم بتزويج ابنها من ابنة أخيها «سالم» والانتقال به بعيدا عنها، ليقيم في بيت عروسه، في نصيب أمه في هذا البيت. ولا يتورع الأب عن أن يطلب منها أن تكلم أخيها كي يوفر له الرزق «كنت تكلمين أخاك لو أجر له فدانا سعد شاطر، ويعطيه عجلين أو ثلاثة يربيها»(ص104) وهكذا تحكم الفظاظة التي هربت منها «فردوس» حصارها من حولها من جديد، ولكن «سعد» يواصل المجيء بالليل يخربش بأظافره بابها في تلك النهاية المفتوحة التي تترك المأزق الإنساني مشرعا على احتمالات عديدة. لكنها تفتحه في الوقت نفسه على البعد الرمزي في الرواية والذي يحيلها إلى استعارة لمأزق مصر نفسها.