يواصل محمد البساطي في روايته الجديدة الجميلة (ويأتي القطار) تلك الرحلة السردية الشيقة التي قدمها في روايته السابقة (أصوات الليل)، أو بالأحري ىواصل بعدا سرديا من أبعاد هذه الرحلة، وهو هذا البعد الذي يمزج الذاكرة بالتاريخ، ويستقطر من هذا المزيج نوعا من السرد الشعري الشفيف التي تتميز به كتابته القصصية في المرحلة الأخيرة. فقد استطاع محمد البساطي أن يبلور لنفسه أسلوبا سرديا له خصائصه الشعرية الفريدة ومذاقه السردي الخاص في الوقت نفسه. لأن شعر محمد البساطي السردي لا ينبع من معاضلات اللغة، ولا من الجري وراء المفردات القاموسية، ولا حتى من الولع بالاستعارات أو الصور الشعرية، كما يحاول غيره من الكتاب، وإنما من الحساسية الرهيفة للتفاصيل الواقعية البسيطة، والقدرة على استنطاقها بأقصى ما في طاقتها على البوح والتعبير. إذ تبدو التفاصيل الواقعية عنده للوهلة الأولى وكأنها لاتقول الكثير، أو وكأنها تفاصيل بالغة البساطة لا تخفي شيئا، ولكنك ما أن تتأملها قليلا حتى تجد أنها في حقيقة الأمر هي التقطير المصفى لعالم ثري من الرؤى والدلالات.
فهذه الرواية الجديدة الجميلة تبدو للوهلة الأولى وكأنها رواية تقص علينا طفولة صبي ريفي وصباه الباكر حتى مشارفة مرحلة البلوغ والشباب، ومغادرة القرية للدراسة في العاصمة. لأنها بالفعل تفعل ذلك على سطح الأحداث، وتستقطب القارئ في شبكة تفاصيلها الشيقة ذات المذاق المرح الخفيف، وترتد به إلى مرتع الطفولة، وشقاوة الصبا، وأشواق الشباب المحرقة. وهي من هذه الناحية رواية تهتم بالجانب الفكه أو المرح من رحلة الحياة، وتريق على أكثر تفاصيلها مأساوية حسا رقيقا من التهكم والسخرية، فتنتزع البسمة من بين الدموع. ولكنها خلف ذلك الرداء الشفيف من السرد البالغ البساطة والعذوبة تقدم لنا تحولات القرية المصرية، وما انتابها من تغير على مد فترة حرجة من تاريخها الحديث. فليست التفاصيل الصغيرة في هذه الرواية قاصرة على ما يبوح به منطوقها، ولكنها منتقاة بعناية بالغة لتنسج خلف غلالة هذه الحياة البسيطة العذبة آليات التغير القاسية، وما اعترى القرية، والواقع المصري من ورائها، من تحولات اجتماعية وسياسية وبنيوية.
فالرواية تبدأ براوٍ يروي لنا ما جرى قبل ولادته، وكأننا بإزاء (تراتسترام شاندي) من نوع جديد. لا تستهويها لعبة الإرجاء السردي إلى مالانهاية، كما فعل هذا الروائي الانجليزي الذي سبق عصره بقرون، لورانس شتيرن مؤلف (ترسترام شاندي)، وإنما تسعى إلى إكساب السرد الواقعي بعدا شعريا، وبعدا آخر أسطوريا. صحيح أن فصل الرواية الأول ذاك يبدأ بـ«تقول أمي» بما يوحي به زمن المضارعة من حضور، ويتسم بخفة الدم الشديدة التي تدعو القارئ للابتسام، ومعالجة الأمر كله على أنه طرفة شيقة، ولكن ما حدث لداية القرية ليلة ميلاد الراوي تلك، وما جادت به الطبيعة ليلتها من عواصف ورعود، وما حكته الداية عن العفريت الذي يظهر لها ويغويها، ثم موتها الذي تواقت مع ميلاد الراوي، وإعلانه لبداية عصر جديد تعيشه البلدة لأربعين عاما ــــ لاحظ دلالة الرقم ــــ مع داية أخرى شرسة الطباع، كل هذا يغلف الميلاد الطالع من شرنقة الموت والرعد والبرق، والمؤذن بعصر جديد مع داية جديدة شرسة، بدلالات لها طابع أسطوري من ناحية ولها علاقة بعملية التغير الاجتماعية القاسية من ناحية أخرى. أو تستدعي إبقاء هذا البعد في لاوعي السرد على الأقل. كما أن الإشارة إلى أن عصر الداية الجديدة دام لأربعين عاما، وهي إشارة تستبق القص كله من حيث الزمن، ويتجاوز زمنها الزمن الروائي كله، هي إشارة تطرح استباق الأحداث باعتباره مدخلا سرديا للتعامل مع مختلف أبعاد هذا النص الروائي البديع. لأن الرواية تقف بنا قبل أن يبلغ راويها العشرين من عمره، وقبل أن تمر نصف المدة التي استغرقها عصر الداية الجديدة. مما يؤكد لنا أن هذا القص كله قص مستعاد، وأن الراوي المضمر، والذي قد يتوحد مع الكاتب، وقد يختلف عنه، يروي لنا هذا كله بعدما أنصرم أكثر من أربعين عاما ـــــ على الأقل ــــ على حدوثه.
وبرغم ذلك، فإن هذا الراوي المضمر لا يعرب عن نفسه أبدا، ولا يتدخل في السرد، بل يحرص على أن يتيح لبطله السيطرة الكلية على منظور القص، وعلى أن ينسب كل ما دار قبل أن يستطيع الراوي السرد إلى أمه مرة، وإلى جدته أخرى. وحتى عندما ينسب السرد الوقائع السابقة على وعي السارد لآخرين، فإنه يفعل ذلك دون أن ينزع من السارد سلطته السردية، أي أنه يبقي له على رواية كل شيئ بضمير المتكلم، وهي لعبة ترهف ــــ في لاوعي السرد ــــ البعد الأسطوري له، وتؤكد في الوقت نفسه ذات السارد، حتى نلتفت لما تتعرض له هذه الذات من أخطار. لأننا لو أعدنا كتابة السرد المروي بضمير الغائب، بضمير المتكلم ـــــ في درس رولان بارت الشهير الذي يختبر فيه المنظور ــــــ سنجد أن منظور السرد كله هو منظور الراوي، حتى فيما يتعلق بالأجزاء التي دارت قبل أن يبلغ درجة من الوعي تمكنه من القص. والواقع أن الفصلين الأولين من الرواية، والذي ينسب أولهما للأم، بينما ينسب الثاني للجدة والأم معا، مكرسان لتجسيد هذا البعد الأسطوري للشخصية، وكيف أنها استطاعت مراوغة الموت والأخطار المتلاحقة في شهورها الأولى، ولكنها أسطورية من النوع الذي يمكننا دعوته بالأسطورية الواقعية الطالعة من إهاب حياة خشنة ومتقشفة. صحيح أنها تبدو وكأنها تقترب من الخوارق أو تنحو قليلا صوب المبالغات، ولكنها تحرص على أن تظل عرى علاقتها بالواقع وثيقة إلى أقصي حد. لأن دلالة هذه الاستراتيجية السردية، كما سيتكشف لنا من خلال القراءة، هي إبراز ما تنطوي عليه الحياة العادية لإنسان بسيط طالع من قرية مصرية من جلد وبطولة. فلا يتغيا هذا البعد السردي إخراج البطل من حيز الواقع، بل إكساب هذا الواقع بعدية الشعري والأسطوري، وتحويل الرواية إلى أنشودة عذبة لمجالدة الإنسان المصري في زمن يزري بالمجالدة والبطولة.
كما أن هذين الفصلين يسعيان إلى تجسيد نزعة هذا الطفل الطبيعية للخروج إلى العالم والانفلات من الأغلال التي يكبله بها الواقع باستمرار، حقا لا مجازا. وتظل المجالدة لانتزاع أبسط حقوق الإنسان الطبيعية هي لحن هذا العمل الرئيسي. لأن الفصل الثالث يكشف لنا كيف دربت الحياة بطلنا منذ «نعومة أظافره» حقا لا مجازا على الصراع من أجل انتزاع أبسط حقوقه الطبيعية، وهو حقه في الغذاء، وحقه في الحرية والانفلات من سجن البيت المحدود. وكيف كان عليه أن يصارع ابن المرضعة من أجل الحصول على شيئ من لبنها، وهو لايزال رضيعا زغب الحوصلة. وكان عليه كذلك أن يصارع أخطارا عديدة، من الخطف إلى هجوم حيوانات القرية الأليفة عليه، إلى الأمراض والأوبئة التي فتكت بالكثيرين من أقرانه، إلى الغرق في الترعة وقنوات المياه القريبة من البيوت. وأن يتغلب على هذه الأخطار جميعا ويفلت من أنشوطتها المهلكة.
ومن مفارقات الرواية المثيرة للاهتمام أن هذا البطل/الراوي/ الذات المركزية في النص/ غير مسمى، وعدم تسميته هي محاولة لتحويله من فرد خاص إلى رمز عام لكل أبناء القرى في هذا العصر، أو إلى شهادة عامة على الفترة التاريخية التي تتناولها الرواية. صحيح أن الآخرين يشيرون إليه مرة بإبن الأستاذ إبراهيم، وأخرى بأبي إبراهيم، لكن إغفال اسمه ينطوي كذلك على موقف ريفي جوهري من الذات الفردية، يتعامل مع الطفل أو الصبي باعتباره تابعا لأبيه، ولذلك يدعى « أبو إبراهيم» أو «إبن الأستاذ إبراهيم»، ويغفل اسمه، لأنه ليس ذاتا بالمعنى الكامل لهذا المصطلح. لكن النص يقدم لنا في بعد من أبعاده محاولة هذا الصبي لأن يكون «ذاته» ويكافح الأخطار التي تتهدد هذه الذات. فالرواية في بعد من أبعادها هي رواية تكوّن الذات الفردية في الريف المصري بعيدا عن رقابة العالم الاجتماعي الصارمة، أو بالأحرى بالرغم منها. وكيف تجد هذه الذات منافذ خاصة تمكنها من تحقيق ذاتها في عالم يحول بينها وبين التحقق الفردي باستمرار، ويكبها بقيود مرئية وغير مرئية في كثير من الأحيان. وتكشف لنا الرواية من خلال متابعة ذات الراوي الفردية وهي تتشكل في فضاء القرية الاجتماعي كيف تبلور هذه الذات هويتها وتعيش تجاربها الصانعة لشخصيتها. وبعدما استطاع الراوي غير المسمى الإفلات من رقابة العالم الاجتماعي الصارمة كان عليه أن يواجه مجموعة من التجارب والرحلات.
أولها هي رحلته مع الوعي والمعرفة. وهي الرحلة التي تبدأ مع الفصل الرابع للرواية حينما أخذه أبوه ذات صباح إلى كتاب القرية. وهي رحلة تمتزج فيها المعرفة بالعنف من ناحية، وبالثمن الفادح الذي علينا أن ندفعه من أجلها من ناحية أخرى، فلا يرد التعليم على الذاكرة المصرية إلا مقرونا بعصا المدرس أو فلكة الفقيه. فشقاوة الصغار التي ينطوي عليها هذا الفصل ليست بأي حال من الأحوال معزولة عن انتهاك الفقيه الأعمى لطفولتهم ونضارة أحاسيسهم بترك عورته أحيانا مكشوفة تحت أنظارهم، لذلك كان من الطبيعي أن يوجه لها هذا الطفل «الشقي» نبلته. وأن يعاقب الجميع على ذلك عندما طاحت فيهم زوجته ركلا وضربا وعضا. وينطلق الرواي بعدها في رحلة المعرفة واكتشاف العالم، فالمعارف التي نكتشفها بالخبرة لاتقل أهمية عن تلك التي نتلقاها في قاعات الدرس. ويظل اللعب في هذه الرحلة الصعبة ممتزجا بالعنف: عنف الكبار ضد الصغار، وعنف الصغار ضد بعضهم البعض. وما حكاية الاعتداء على ابن عبده بائع الفول، وتعرض أبوه للمهانة وهو يشكو المعتدين لآبائهم، إلا نموذجا فذا لهذا العنف الذي يسري في الحياة منذ بواكيرها. فلا تقتصر هذه الحادثة على عنف الصغار ضد بعضهم البعض، وكيف أن عزلهم لابن عبده الفوال هو الذي دفعه لأن يعرض نفسه عليهم، حتى يرضيهم وينضم إلى زمرتهم، ويشعر بأن عليه أن يصبح ولدا عاديا مثلهم، مهما كانت فداحة الثمن الذي عليه أن يدفعه ليصبح فردا مقبولا من المجموع. ولكنها تكشف لنا أيضا عن عنف الكبار ضد الصغار، وكيف عزل الأب ابنه، ونزع منه اختصاصاته دون أن يناقشه، أو يسمع لما رتبه في عقله من دفاع.
بعد هذه الرحلة الأولى بتجاربها التي تمزج المعرفة بالعنف تقدم لنا الرواية أول مراوحاتها السياقية أو ابتعاثاتها للتواريخ القديمة الدالة. فالفصل السادس الذي يؤكد في بعد منه هذا العنف الذي يتحكم في علاقات القبول في الجماعة والاستبعاد من فراديسها من خلال حكاية الولد الذي يمنعه أبوه من اللعب مع أقرانه، ويهاجمه هؤلاء الأقران كلما بعث به أبيه لشراء الجريدة، ويخشى تمزيقهم إياها، يهتم القسم الأكبر منه بابتعاث عالم قديم له دلالاته على مرحلة تاريخية بعينها من تاريخ مصر. عالم الصحف الحزبية في الثلاثينات والأربعينات من هذا القرن. حينما كانت الصحيفة عنصرا ثقافيا جديدا في القرية، وكان يتبادل قراءة الصحيفة الواحدة عدة أفراد من المتعلمين القلائل فيها. ويتحلق حولهم الفلاحون وما أعذب تعليقاتهم على ما يرونه في الجريدة من صور، أو ما يسمعونه من قرائها من أنباء. وما أعذب صفحات هذه التجربة في روايتها لتخلق ملامح المتخيل القومي في القرية، بعيدا عن معمعة السياسة الحزبية، ولكن دون الانفلات من آثارها المؤثرة. وكيف تصبح الجريدة أداة من أدوات الوجاهة الاجتماعية أو سبيلا من سبل التميز أو حتى التمرد الاجتماعي.
ومن خلال الجريدة التي نتعرف عبرها على سياق الأحداث التاريخي من ناحية، وعلى عالم القرية الأعرض من ناحية أخرى، والراوي ينقلها من بيت لدكان، ومن دكان لبيت يدخل الراوي عالم الرحلة الثانية: رحلة اكتشاف الجنس الآخر، وما يعد به هذا الاكتشاف من لذات حسية، وعوالم شبقية ممتعة. فقد كانت بداية اكتشافه لهذا العالم من خلال ما يتعمده الأستاذ «بلال» الذي يشارك أباه قراءة نفس الجريدة (المصري) من رفع صوته بالحديث عما تنطوي عليه من أنباء بينما بصرة معلق بالكاعب الحسناء، العروس الجديدة التي لاتزال صبغة الحناء بيديها وقدميها وهي تنشر الغسيل على السطح المقابل. كما كانت الجريدة هي مدخله لأول تجاربه مع المرأة، مع عروس الحاج عطوه الصغيرة الجميلة ــــ والتي كانت من تلاميذ والده السابقين في المدرسة التي يعلم بها ـــــ التي تجيد القراءة والكتابة، والتي جذبته إلى داخل الدار ذات يوم لتقرأ الجريدة، ولتطلعه خلسة على مباهج الجسد الحسية، تقبله مرة، وتعبث بشعره أخرى، وتتركه يعبث بشعرها ثالثة، وتمنحه كعكها دوما، وتنجح في جميع المرات في إثارة غرائزه الغضة التي لما تتفتح بعد على عالم الجنس واللذات الحسية. وتتحول المرة إلى مرات، يتعمد فيها دوما التريث أما بيتها وانتظار أن ينفتح الباب ليدلف منه إلى عوالم شيقة تتوهج فيها النفس بالخبرة والمعرفة، لذلك ما أن يحدث ما يعكر صفو هذه التجربة ويجهز على استمراريتها، عند مفاجأة زوجها لهما في أحد الأيام وقد لاقته في ثوبها المبتل بالغسيل، وقد شف الثوب عن استدارات الجسد، وأبان فجوة صرتها المعتمة. وسرعان ما تجهز هذه المفاجأة سيئة الحظ، لأنها تجيئ في لحظة تفتح التجربة بالوعود، على هذه التجربة الجديدة، وما فتحته له من لذات حسية، حتى نحس مع الرواي بوجع الفقدان، وبتبدد عالم أثير جميل لا تنفع معه السلوى، ولا أمل في استرجاعه أبدا، فما مضى لايعود. هذا هو أحد الدروس القاسية التي يتعلمها صبينا في بواكير الصبا وميعة الشباب.
ومن خلال هذه التجربة الأولى نتعرف أيضا على زمن التجربة حينما نقرأ انباء تقدم رومل في الصحراء الغربية مع مطالع عام 1942، ولا تكتفي الرواية بتذاكر أخبار الحرب عن بعد، كلما قرأت الزوجة الجميلة أخبارها في الجريدة، ولكنها تحكي لنا كيف لفظت الحرب المشتعلة ذات يوم جنديا انجليزيا في شوارع القرية. فلا أحد ولا شيئ ببعيد عن نيران هذه الحرب أو أتونها المشتعل. لكن الطريف في الأمر أن الفصل السابع الذي يحكي عن هذه التجربة يقدمها لنا كملهاة ساخرة، يشفق فيها على الجندي الضائع، ويسخر منه، ولكنه لا يستطيع أن يتوحد به، أو يتماهى مع تجربته التي تقدم من خلال حلاق القرية. فمع أن الرواية تسرد علينا بشكل فكاهي ساخر كيف اكتشفه «سيد» الحلاق الذي سبق له أن عمل بمعسكرات الانجليز، أو حلق لهم في المدينة الساحلية المجاورة، وتعلم شيئا من لغتهم ذات صباح، وكيف حمل أمره للعمدة، وكيف حاول العمدة التنصل من أي مسئولية تجاهه، وحثّ «سيد» على التخلص منه، وإركابه القطار، فإن هذا كله يدور وكأنه يتعلق بعالم آخر، غريب عن القرية وأجنبي عنها. بصورة يصبح معها هذا الحدث معادلا سرديا لواقع مصر كلها التي كانت الحرب مفروضة عليها، وغريبة عنها في الوقت نفسه.
وفي مقابلة واضحة مع ذلك الحدث، علينا مقارنته بتصرف العمدة نفسه بعد ذلك بسنوات قليلة، عندما جاء الصيادون الذين حرق الانجليز قريتهم المجاورة، لأنهم ساعدوا أحد الفدائيين الجرحى عندما اشتعلت حرب الفدائيين في منطقة القناة مع مطالع الخمسينات. وكيف أنه خرج معهم وساعدهم في الاستقرار في البلدة، بل وجمع لهم من أهل القرية ما يبدأون به حياتهم الجديدة فيها. بالرغم من أن وظيفة العمدة الرسمية كانت تقتضي أن يساعد الجندي الانجليزي في العثور على معسكره، وألا يساعد الصيادين الذين يطاردهم الانجليز لإيوائهم فدائيا ومساعدته. ولكن واجبات الوظيفة شيئ، ودواعي الوطنية شيئ آخر، في هذا الزمان البعيد الجميل. وإذا ما اصطدم الاثنان، كانت الغلبة لدواعي الوطنية بطبيعة الحال، فأين نحن الآن من هذا كله؟ فالنص مشغول على امتداد السرد فيه بابتعاث التواريخ وإرهاف حدة الذاكرة الجمعية التاريخية قدر انشغاله بتتبع التجارب التي صاغت حياة البطل/الراوي وكونت ذاته الفردية والاجتماعية على السواء. كما أن منطق البنية الروائية في هذا العمل يعتمد على التكرارات والازدواجات، بمعنى أنه لا يقتنص الحادث مرة واحدة، وإن كان لا يكرر حدثا قط أكثر من مرة، ولكنه يعمد إلى تكرار الموقف ذاته ولكن في تبديات جديدة مرتين، ليكشف لنا من خلال تغير الاستجابة له عما جرى من تغيرات، أو عما تنطوي عليه القرية من مواقف لاتفصح عنها إلا بطريقة مراوغة وغير مباشرة. كما أن هذا التغاير هو الذي تتخلق عبره البنية الروائية المعقدة، بينما يبدو ـــــ للعين السطحية ـــــ أن السرد يتقدم في سلاسة لا تخضع لأي بناء.
وتتواصل فصول تجربة اللذات الحسية مع تقدم الراوي في العمر، واكتشافه لممارسات الكبار الجنسية، ومتابعاته والآخرون من صبية القرية ونسائها لممارسات الحيوانات لها، ولعمليات «تعشير» البهائم وطقوسها المثيرة للشهوات. ثم ممارسته مع أقرانه للعادة السرية، وتعرفه على عالم الجنسية المثلية التي تأخذ شكل الجنس التعويضي في عالم القرى أكثر ما تأخذ شكل الشذوذ الجنسي. وتبلغ هذه التجارب ذروتها في تجربة هذه الممارسة الحسية الفعلية مع «كريمة» إبنة «العدوي» تاجر الحشيش، وما يحيط هذه التجربة من عبث و«شقاوة». وتردنا هذه التجربة إلى بنية التكرارات والاردواجات التي أشرت إليها باعتبارها الأساس البنائي للرواية، لأن هذه التجربة لا تفصح عن كل دلالاتها بتناولنا إياها باعتبارها التجلي الجديد لتجربة الراوي مع زوجة الحاج عطوة الصغيرة الجميلة فحسب، ولكن أيضا لأن جانبا مهما من هذه التجربة، وهو سرقة الراوي لـ«طربة» الحشيش من المكعبات الضخمة التي يخفيها «العدوي» بعناية، والتي كان إطلاع «كريمة» الراوي على سرها هو طريقتها الغضة الخاصة في إعرابها عن ثقتها به وحبها له. هذا الجانب المهم لابد لنا من مقابلته مع تجربة الصغار في سرقة حمار «المغاوري» وإعادته له بعد أن دفع لهم جنيها كاملا. أما سرقة «طربة» الحشيش فقد تجاوزت قدرات الصغار على «الشقاوة» والتصرف، ولهذا فقد دفنت في الأرض وتركت بها، لتبقى هذه النزوة نزوة مجانية، ودليلا على إخفاق الراوي الفادح في فهم الرسالة الغرامية العذبة التي استأمته «كريمة» عليها، ولكنه لم يستطع الحفاظ على الإمانة. ولم يحسن التعامل مع الحب الذي أتيح له فجأة وانفتحت فراديسه أمامه، ولكنه أخفق في أن يكون في مستوى الفرصة. ويالكثرة التجارب التي لا نحسن التعامل معها في صدر الشباب فنفقدها، ولا تبقي في الحلق بعدها إلا مرارة الفقد، حتي ولو لم يدرك الراوي علقمها لصغر سنه، وقلة خبرته
ويعود بنا النص مرة أخرى إلى رحلة المعرفة، ودخول الراوي المدرسة الابتدائية، بعدما انتهى من المدرسة «الإلزامية» التي كان أبوه يعلم فيها، وما يتعرض له في هذه المدرسة الجديدة من صنوف التمييز الاجتماعي. وخاصة في طوابير التفتيش على النظافة، وما يتعرض لها التلاميذ الفقراء فيها من مهانة بسبب الفقر أكثر مما هو بسبب إهمالهم في نظافتهم. لذلك كانت ضربة معلم سردية أن يقدم الكاتب في هذا الفصل صورة للطالب الموسر «يسري» ابن الصراف، الذي يفوز دوما بلقب أنظف طالب، وهو اسم على مسمى، بينما الراوي نفسه لا اسم له. وبعد ذلك يتسع نطاق اهتمامات السرد مع اتساع عالم الراوي ليشمل الكثير من جوانب الحياة في القرية وتناقضاتها. فنعرف من حكاية «بهيجة» وماسح الأحذية «خفاجة» كيف يمارس التفاوت الاجتماعي الكبير فيها صنوف القهر على من هم في القاع الاجتماعي، وكيف تتحول عملية التستر على أخطاء الأغنياء إلى أداة لترويض الفقراء وقهرهم، وإلى مورد رزق للدهشان الذي كان حلاقا، ولكنه وجد في عملية التستر على أخطاء الأغنياء وتدبير من يتحمل وزرها من الفقراء دخلا أكبر مما تدره عليه الحلاقة. ويواجه الراوي بعد هذه الحكاية تجربة المرض والموت بعد أن زحف داء الكوليرا من «القرين» والشرقية وطال البلدة، واختطف فيمن اختطف والده «الأستاذ إبراهيم». ووباء الكوليرا الذي اجتاح مصر عام 1946 هو أحد أدوات النص كذلك في استدعاء التواريخ القديمة وتحويلها إلى واقع مجسد مرقوش في أديم النص. وهو في الوقت نفسه أحدى فرصه الأساسية لتقديم البعد الميتافيزيقي للتجربة الإنسانية من خلال وطأة الوباء، ومعسكر المرضى أو بالأحرى معتزلهم الذي ترك أكثر أهل القرية في قبور لا يستطيع أحد تمييز بعضها من البعض الآخر، ففي الموت ينتهي كل تمايز طبقي أو فردي، وتوحد الصدمة الميتافيزقية بين الجميع.
ومع تجربة الموت الذي يختطف الأب، وهو لايزال في شرخ الشباب، ولايزال أبناؤه زغب الحواصل، ينتقل الجد للحياة مع أسرة ابنه ورعاية أحفاده. فنتعرف من خلال هذه النقلة على أحد الأبعاد المتشابكة لعملية التغير الاجتماعي التي انتابت القرية، وأثرت على مهنة الجد الذي أراد العودة من جديد إلى ممارسة تجارة الحبوب التي كان قد أقلع عنها منذ زمن غير قصير. ويواصل النص في فصول أخرى الكشف عن هذا البعد من خلال زيارات الأعمام، وطلبهم مساعدة الجد، وكيف أنه بدأ في بيع أرضه ليساعد الأبناء، برغم عقوقهم، في أزمتهم الاقتصادية الطاحنة. وهي الأزمة التي تؤدي إلى تفكك أواصر علاقات الترابط والتضامن بين أبناء الأسرة الواحدة. فالرواية من هذه الناحية هي رواية التغير الاجتماعي الذي انتاب القرية المصرية في ثلاثينات هذا القرن وأربعيناته، وحتى منتصف الخمسينات. إذ تسجل لنا في تفاصيل حية ومتوهجة دخول السينما لأول مرة إلى عالم القرية، وما ينطوي عليه عالمها من صراعات تحتية تلعب فيها الخرافة دورا حيويا، لا يقل عن الدور الذي تلعبه العلاقات الاجتماعية والاقتصادية. ولكنها قبل هذا وبعده هي رواية اكتشاف العالم، وما يتركه هذا الاكتشاف في النفس الإنسانية من عذابات ومواجد. وهي قصة مكتوبة بدقة توشك أن تكون دقة علمية صارمة، ولكنها لا تخلو مع ذلك من الشعر والعذوبة التي تتسم بها كتابات محمد البساطي في هذه المرحلة الخصبة من انتاجه السردي المصفى.