يتسم المشروع السردي للكاتب محمد البساطي بزخم و فرادة كبيرين، كاشفاً عن تنوع سردي خَلاق، و هذا ما يجعل تجربته السردية واحدة من أهم التجارب في مسيرة القص العربي لا لزخمها و تنوعها فحسب، بل لكونها أيضاً حاوية على مغامرة تقنية و رؤيوية متجددة.
و في (جوع) لا يبتذل البساطي عنوان روايته، و لا يتعاطى معه باعتباره كافياً وحده لتخليق حالة أولية من التعاطف (الزائف)، بل يستبر جوهر هذا الواقع (الآسن) محاولاً إعادة قراءته من جديد، و لذا فإنه يصدر الرواية بمقطع دال "ادخلوها بسلام آمنين"، حيث تبرز المفارقة بين العنوان الكاشف، و المقطع المفارق/ الساخر، حيث لا يجد الداخل سوى "الجوع" كتيمة مركزية تتكئ عليها الرواية.
يبدو البساطي مسكوناً بالمكان، يملك قدرة التوظيف الدال له، واعياً بطبيعته، ولذا فهو يفرد له المقطع الممهد للنص، و الذي يصبح بمثابة التقديمة الدرامية للرواية Exposition، حيث التوصيفات المتعددة للمكان المركزي في النص (بيت زغلول)، و المكتوب عليه المقطع المشار إليه (ادخلوها بسلام آمنين)، رغم الفاقة و البؤس الشديدين: "واجهة البيت من الطوب الأحمر- انتفخ أسفلها بسبب الرطوبة، و تساقطت بعض حجارتها- فجوات كبيرة جرى ترقيعها بالأسمنت- الباب من الخشب السميك، كتب على الحائط فوقه بفرشاة في لون أبيض.
-ادخلوها بسلام آمنين-"
يتشكل النص من (تنويعات/ حركات) ثلاث (الزوج/ الزوجة/ الابن)؛ تتقاطع في مناحٍ متعددة، متجلية في طرح التيمة المركزية في النص، و كذلك في الشخصيات المحورية بداخله (زغلول/ سكينة/ زاهر)، وصولاً إلى مشهد الرواية المركزي، و المستخدم في مناطق عدة من الرواية: "كعادتها حين ينفد العيش من البيت تصحو سكينة في البكور و تقعد على المصطبة، يلحق بها زوجها و الولدان و النعاس لم يفارقهما، كانا في الثانية عشرة و التاسعة، الصغير -رجب- يرمي بنفسه و رأسه على فخذها و يروح في النوم، الكبير-زاهر- يقرفص جنب حلق الباب و زوجها بالطرف الآخر من المصطبة يسلك أسنانه بعود قش."
ولعل هذا المشهد المركزي يكشف عن أمرين- في رأيي- أولهما وعي البساطي بطبيعة البيئة التي يكتب عنها، حيث ثمة عالم رتيب يتغير ببطء شديد، و ثانيهما إشارته من طرف خفي إلى زمنية السرد داخل الرواية، حيث يمكن أن نتعاطى مع هذا المشهد باعتباره نوعاً من الاسترجاع للمواقف السردية، حيث تبدو قعدة سكينة على المصطبة و كأنها نقطة الارتكاز التي يتحرك عبرها السارد الرئيسي Main narrator مستخدماً الفلاش باك Flash back، و مستعيداً ما حدث، و ما يدعم هذا أننا لسنا بإزاء زمن تتابعي/خطي في هذه الرواية، بل نحن أمام أبنية دائرية تتحرك في سياقها الشخصيات.
في تنويعته الأولى (الزوج/زغلول) نلحظ ثمة تحولاً درامياً مبرراً- في رأيي- في الشخصية المركزية في هذا الفصل/التنويعة، حيث يصبح سماع (زغلول) لحوارات التلاميذ بمثابة نقطة التحول في شخصيته، و يكون هؤلاء التلاميذ ممثلين حينئذ لما يسمى بالشخصية الحافزة أو المحركة Catalyst Character ، وهي تلك "الشخصية التي تحدث تغييرا أو تمزقا في الموقف الدرامي الراكد." ثمة سارد رئيسي قابض على زمام الحكي في النص، مستخدماً ضمير الغائب الذي أتاح له قدرة الغوص في سيكولوجية الشخصيات التي يحكي عنها.
يلتقط البساطي عائلة معدمة في الريف المصري، حيث ثمة شخوص يتضورون جوعاً (زغلول/ زاهر/ سكينة/ رجب)، أملاً في لحظة شبع مبتغاة، غير أنها لا تحين!، و إذا حانت فسرعان ما تنتهي، هذا هو المسار السردي الرئيسي في رواية (البساطي)، و الذي تدعمه عدد من الحكايات الفرعية التي يضفر بها الكاتب روايته (حكاية سامية بنت خليل في التنويعة الأولى/ حكاية عبده الفران في الثانية) مثلاً.
في تنويعته الأولى (الزوج) تصبخ الإشارة إلى (الشخصية المركزية/ زغلول) ممهدة للحكي عنها، يصف البساطي شخوصه جيداً، فزغلول يعيش على هامش الريف، يبدو غير مكترث بما تعانيه أسرته من شظف العيش، غير أن تحولاً درامياً مبرراً يطرأ عليه، حين يتعرف على مجموعة من (المتعلمين)؛ حيث يقف على تخوم طرح الأسئلة، و نرى ثمة وعياً جديداً يتشكل، يكون من جرائه أن يصطدم زغلول ب (الحاج رضوان)، فزغلول ينطلق من بكارة (السؤال)، و رضوان من رسوخ يقيني، يُقصي الآخر (زغلول) و يصادره، و بالفعل يضرب زغلول و يقطع جلبابه، و يخرج كسيراً: "جذبه الشيخ و كفه الممتلئة مرفوعة تتأهب لصفعه، بإصبعها الوسطى خاتم بفص كبير، سطع لحظة في ضوء الشمس و همست المرأة المليحة و كانت تقف بباب المحل:
-ذهب عيار 24- لمعته- أعرفه و لو على بعد مترين.
فوجئ الشيخ بالجلباب ينشق بسهولة في يده، بدن زغلول العاري شديد الشحوب، و عظام صدره بارزة، و سرواله بلون الطين، دفعه الشيخ بعيداً عنه و قعد لاهثاً على الدكة:
-الكافر- أنا- أنا إللي يتقال له الكلام ده.
كف الأخرون عن ضربه- أنفه ينزف، و رأسه به ورم في حجم البلحة و شفتاه منتفختان، و حول عينه كدمة حمراء."
تبدأ التنويعة الثانية (الزوجة) بالمشهد المركزي نفسه (قعدة سكينة على المصطبة)، و الذي يتلوه حدث سردي يدفع بالنص إلى الأمام، لنصبح أمام انتقال سردي دال، حيث يبدأ السارد الرئيسي في الحكي عن بيت الحاج (هاشم)، و ما به من سر الخادمتين، و في هذه التنويعة تتكشف مصائر الشخصيات داخل الرواية، و تبدو شبكة العلاقات محكومة بالإخفاق، فالحاج (هاشم) يموت، مثلما مات من قبل الحاج (عبد الرحيم)، لينقطع خيط الأمل لهذه الأسرة المعدمة في إمكانية تجاوز محنة الجوع، لتعود إلى النقطة الأولى نفسها، و هذا ما يؤكد فكرة (الأبنية الدائرية) التي يتشكل منها النص، فلحظات (الشبع) مستعصية و (الجوع) يظل جاثماً على الأنفاس: "جاءت سكينة جرياً و خلفها الولدان، احتوت زغلول وكان ينتفض بين ذراعيها، و مشت به إلى حجرتهم، أرادت أن تعطيه كوب ماء فردها بيده، لم تصبر حتى يهدأ تماماً و ذهبت إلى حجرة الحاج. غابت قليلاً و رجعت، نظر إليها مستفهماً، قالت:
-رحمة عليه."
و بموت الحاج هاشم تنتهي التنويعة الثانية نهاية دالة، تختمها مقولة سكينة "كنا أكلنا لقمة قبل ما نخرج". و مثلما ابتدأ الفصل بسكينة انتهى بها، ففي البداية تجلس على (المصطبة)، و تبحث عما يسد الرمق، و في النهاية تتمنى لو أنهم أكلوا قبل الخروج من بيت الحاج هاشم بعد وفاته!!..
و في التنويعة الثالثة (الابن)، يطل علينا مشهد الرواية المركزي منذ البداية، و فيها نرى الإشارة إلى (زاهر/الابن) الباحث عن حل لأزمة الجوع، لتبدأ علاقة حميمة بين (زاهر/الابن) و (عبده الفران) المتعاطف معه، حتى يصلا إلى اتفاق ضمني يأخذ بمقتضاه زاهر العيش (الكسر) كل أربعة أيام: "-تعال اكنس الفرن و املأ حجرك.
دخل زاهر- فوجئ بالرجل الذي لم يره من قبل قصيراً محني الظهر، لحست النار ذراعه و جانباً من رقبته و حلمة أذنه، و أخلفت جلداً ميتاً- كان واقفاً أمام فوهة الفرن بسروال طويل و صديري، سحب جلباباً و ترك المقشة لزاهر، و قعد بالمدخل يدخن سيجارة.
انتهى زاهر سريعاً، و وقف جنب طاولة العيش الكسر منتظراً، رمقه عبده الفران و قال.
-خد على قد ما تقدر.
و نهض ليساعده، فتح زاهر حجره على سعته، و غرف الرجل بكفيه مرات، و زاهر قال:
-كفاية- كده على الآخر."
و في هذا الفصل نلحظ توازياً بين نهوض زغلول من قعاده على المصطبة و حدوث أي بادرة تحول في حياتهم، فعندما يأتي زاهر بالعيش يخرج زغلول إلى العمل، و هذا فهم عميق لسيكولوجية الشخصية الروائية من قبل الكاتب.
و لا يغفل السارد الرئيسي الغوص بداخل شخصياته الهامشية، متجاوزاً بها تقنية (البطل المساعد)، فعبده الفران ليس مجرد متعاطف مع (زاهر) بل نراه يقيم علاقة حميمية/ مدهشة مع (النار)، يؤنسن من خلالها (نار الفرن)، فهو "يعمل الليل و ينام مع طلعة الشمس، يجاور النار، يرمقها خلال فوهة الفرن، و يرى ألسنتها عندما تتراقص و تستقر، هما أصحاب- هو و النار.
- عمرك سمعت حاجة زي كده؟
- هو و النار.
- آه- هو و هي.
- يطمئن لها و تطمئن له- حين تصدر فحيحاً يلتفت إليها، و يجدها تشكو من قطعة جذر رطبة و غليظة ترفض أن تشتعل، و تنفث دخاناً كثيفاً يكتم لهبها، و يمد حديدته و يسحب قطعة الجذر شديدة السواد، و يجدها استراحت، و يعود لهبها يرقص، و غناؤها يطقطق
- آه- بيقول كلام عجيب- قال النار بتغني."
وكذلك تبرز شخصية (عبد الله) الذي يمثل (البطل المساعد) و الذي يحتفظ بصداقة وطيدة مع (زاهر). و قد أجاد السارد الرئيسي حين جعل من عبد الله (طفلاً) رقيق البنية، حيث يسبغ عليه زاهر (الحماية)- في اتفاق مسكوت عنه- مما يدعم فكرة العلاقة بينهما رغم مغايرة الظرف الاجتماعي، و ما بين ركل (زغلول) من قبل الحاج عبد الرحيم في التنويعة الأولى، و صفع (زاهر) من قبل والد (عبد الله) في التنويعة الثالثة تتقاطع الصور المشهدية في مخيلة المتلقي كاشفة عن توحش المأساة و استمرارها، و لو أن ثمة رفضاً مشوباً بالمرارة تجلى- بشكل أكثر بروزاً- في موقف (زاهر) من صفعة والد (عبد الله) له:
"اختطف زاهر نظرة إلى فوق السطح، و لمح عبد الله ما يزال منبطحاً يمسح عينيه بقبضته. جاء الجلباب سريعاً- رماه الأب على كتف زاهر.
-خد بدل الخرقة إللي إنت لابسها.
و تراجع خطوتين و نفض جلبابه- و كان يتأهب للعودة حين رمى زاهر الجلباب على الأرض و ابتعد، و لاحقه صوت الأب:
-شوفوا ابن الكلب."
في (جوع) يبدو البساطي قابضاً على زمام نصه، مراوحاً بين الحكاية الأم/ الإطار)، و الحكايات (الفرعية) التي تتناسل منها، صانعاً بنية روائية متجانسة، يعيد فيها قراءة الراهن بصورة مغايرة. هنا نرى حنكة الروائي الذي خَبُر هذا الفن و عركته التجربة الحياتية بتنوعاتها، لنصبح أمام رواية تعري المأساة و تعمقها، يبدو فيها البساطي مقتصداً في سرده، تحمل جمله وهجها الخاص، و شحناتها الحاوية لزخم فكري و عاطفي دال.
مجلة ابداع : 3-04-2008