لا يكاد يمر عام واحد من دون أن تصدر للقاص والروائي المصري محمد البساطي رواية أو قصة جديدة بحيث بلغت مجموعاته القصصية التسع فيما بلغت رواياته الأربع عشرة. وإذا كان البساطي في سنواته الأخيرة قد ألحّ على كتابة الرواية دون القصة، فلم يكن ذلك من طريق الصدفة المجردة بل لأنه تمكن من إيجاد المعادلة المناسبة التي تجمع بين الفنين المتقاربين بحيث تبدو الرواية شبيهة بقصة طويلة ملمومة حول بؤرتها السردية أو نواتها الأم من دون أن تذهب بعيداً في التبعثر وتشتيت الحدث. أما شخصيات رواياته فغالباً ما تكون قليلة العدد بحيث يمكن ضبط إيقاعها ومتابعة حركتها من جانب المؤلف. كما أن البساطي يجهد في تقديم هذه الشخصيات بصفتها رموزاً لحالات اجتماعية وإنسانية تمكن معاينتها بوضوح في وطنه مصر كما في العالم العربي لا بصفتها نماذج عليا للبطولة والتفرد، وهو ما يبدو بوضوح في روايات من مثل «ليال أخرى» و «بيوت وراء الأشجار» و «دق الطبول» و «جوع» وغيرها.
في روايته الأخيرة «أسوار» يتصدى محمد البساطي لموضوعة جديدة ولافتة هي عالم السجون والمعتقلات وما يدور داخل أسوارها من وقائع وأحداث غريبة سواء في العلاقات القائمة بين المساجين أنفسهم أو بينهم وبين الحراس والسجانين. ففي ذلك العالم المعتم والمغلق على نفسه تسود قيم متحللة من أي وازع أخلاقي وعلاقات محكومة بشريعة العنف والقوة والانحراف بكل أشكاله. ليس فقط لأن عالم السجن مكوّن من أفراد قادمين من المجتمع القائم في الخارج ويحملون عاداته وتقاليده وبذرة فساده، ولا لأن المسجونين يحاولون أن يقيموا مجتمعاً آخر قائماً كالأول على الاستحواذ والسيطرة وقهر الآخر، بل لأن هؤلاء مسكونون بهاجس الظلم والاضطهاد وغياب العدالة، لذلك فهم يحاولون الانتقام من المجتمع كما من أنفسهم عبر التحلل من نظام القيم وانتهاك الأعراف السائدة. فضلاً عن أن الكبت الذي يعيشونه والحال المزرية للسجون العربية لا تترك لهم ما يفعلونه سوى اللجوء الى الشذوذ والانحراف الجنسي والسلوكي. أما السجانون بدورهم فلا يبدون أقل انحرافاً من مسجونيهم لأنهم يشاطرونهم السجن نفسه وقسوة الحياة إياها ولأنهم يشعرون مثلهم بالغبن والإهمال والتخلي، فضلاً عن أن معايشتهم عالم الجريمة والفظاظة والقسوة تجعلهم في خوف دائم من تعرضهم للعنف على يد مسجونيهم، الأمر الذي لا يترك لهم خياراً آخر سوى تقليد هؤلاء والتماهي مع سلوكياتهم المنحرفة. يختار محمد البساطي أحد حراس السجون بطلاً لروايته «أسوار» ويترك له أن يروي بضمير المتكلم ما يدور في الداخل من أحداث. أما الخارج فلا يبدو مختلفاً كثيراً، لأن منزل حارس السجن، الذي لا يكترث المؤلف كثيراً لإيراد اسمه مغلِّباً الحالة والرمز على الهوية الشخصية، لا يبعد من السجن نفسه سوى مئات الأمتار. لا بل ان الحارس كان يراقب من منزله العائلي أحوال السجن وحياة نزلائه اليومية منذ كان طفلاً في العاشرة. ولأن أباه كان يعمل في المهنة نفسها، فقد كان يرافقه الى داخل السجن مرة كل أسبوع، ما عرّضه في إحدى الزيارات لتحرش جنسي من جانب أحد السجناء. كما أنه وبتشجيع من أبيه راح يحمل خفية بعض الرسائل التي يبعث بها المسجونون الى أشخاص مختلفين ينتظرون في الخارج، كما يحمل رسائل أخرى في الوجهة المعاكسة، لقاء مبالغ من المال كانت توفر للعائلة فرصة التلذذ ببعض الملابس والأطعمة التي لا تتوافر في العادة لحراس السجون. وإذ يرث الابن المهنة عن أبيه، يتاح له أن يعايش عن كثب دهاليز ذلك العالم المظلم الذي تتحلل فيه العلاقات من كل وازع في ظل تحول السلطة الى شريك في هذا العالم لا الى عامل على معالجته وضبطه وإرساء العدالة بين جنباته. تكتظ الرواية على قصرها بالأحداث الغريبة التي تقرّبها من الروايات البوليسية في بعض الأحيان وتجعلها مفتوحة في أحيان أخرى على الإثارة والمباغتة وشد أعصاب القارئ. فنحن نتعرف خلال الصفحات التي لا تتجاوز المئة والأربعين الى جملة من الوقائع المتلاحقة التي قد يحتاج روائي آخر غير البساطي الى ضعف حجم هذه الرواية على الأقل لتظهيرها ومتابعتها وسرد تفاصيلها. لكن المؤلف، سواء في هذه الرواية أو في سابقاتها، لا يبالغ في الوصف والإفاضة التعبيرية، بل يقتطع من اللغة ما يحتاجه تماماً وما يتطابق مع الحدث الروائي نفسه بمعزل عن الزوائد التوصيفية أو الوجدانية. هكذا تبدو الكتابة أقرب الى الواقعية الموضوعية منها الى الملحمية أو السرد الغنائي. والبساطي يروي لنا عن إطعام الحارس حماماته على سطح المنزل بالحيادية نفسها التي يخبرنا فيها عن حادثة قتل أو عراك دموي. كأنه يكتفي بتقديم الحياة المجردة للقارئ تاركاً لهذا الأخير أن يتفاعل معها وفق أحاسيسه الخاصة من دون أي تدخل أو ابتزاز عاطفي. نتعرف في رواية «أسوار» الى شخصيات مصابة بالشذوذ الجنسي السلبي كشخصية الفتى ذي الثمانية عشر عاماً الذي يتخاصم المسجونون حوله ويتسارعون الى كسب وده. كما الى شخصية «عجينة» الذي ينافس الفتى الوسيم في اصطياد المعجبين لينتهي مقتولاً على يد صديقه الأثير فارس. نتعرف أيضاً الى شخصية «أبو كف» الذي يمتلك قوة جسدية غير عادية والذي استخدمه أحد مسؤولي السجن في مهمة خاصة تقتضي منه تأديب أحد الصحافيين المناهضين للسلطة الحاكمة خارج السجن. وإذ يقوم «أبو كف» بالمهمة على أكمل وجه يعرّج على زوجته في المعادي، بعدما شعر بحاجته الملحّة الى لقائها، ليجدها في حضن رجل آخر فيقوم بقتله قبل أن يعود الى داخل الأسوار. كما نتعرف أيضاً الى مناخ المعتقل الذي يختلف عن السجن في كون نزلائه من المثقفيبن والصحافيين والأساتذة الجامعيين لا من المجرمين واللصوص والمنحرفين. وهو ما يتيح للبساطي أن يكشف عن المثالب السياسية والأخلاقية للسلطة القائمة حيث يتم إسكات المعارضين والمناضلين السياسيين والنقابيين وسوقهم الى المعتقلات. وهو ما يمكن القارئ من عقد مقارنات مختلفة بين مناخات السجون القاتمة والمغلقة على انحرافاتها ومناخات المعتقلات المضاءة بأكثر من حلم وبارقة أمل. وإذا كان الابن الحارس قد بلغ سن التقاعد من دون أن يصاب بالجنون فلربما كان ذلك عائداً الى فراره من عالم السجن المرعب وانضمامه الى عالم المعتقلات الأقل ظلامية ورعباً. إذ ليس من قبيل الصدفة أن يصاب الحارس الأب، مع عدد من زملائه الآخرين، بالعته والخبل بعد إحالته الى التقاعد، ذلك أن الجدران الفاصلة بين السجانين والمسجونين سرعان ما تتداعى لتتفتح أبواب الحياة على أكثر من جهنم ولكي يُسلم العقل قياده الى العبث والفوضى والجنون المطبق.