الكتابة عن الموت كالسلام في الجنازة، هكذا لخص مؤمن المحمدي طقوس التفاصيل التي لا بد منها، في لحظة استثنائية يفترض بها أن تخرج ما هو استثنائي، فإذا بها تخرج ما لا طائل منه أو فيه، لكن الكتابة أيضا عن موت روائي بحجم محمد البساطي، عن موقع هذا الروائي في ذهننا تبدو اشتباكا لابد منه مع كلاشيهاتنا المحببة عن الأدب والتمايز فيه، وعن تصنيفاتنا الحديدية للكتابة الجميلة والعادية، وعن حضور جيله بما اعتبرناه لؤلؤاً أو أصدافاً خاوية.
الحقيقة أن جيلي من القراء والمهتمين بالأدب، غالباً ما كان يضع البساطي في موقع أقل في تصنيفات جودة جيله. فمن أتى من خلفيات أدبية تثمن السياسة وتجلياتها المختلطة بالفن الكتابي كان ميالا بحجم قراءات الشباب إلى صنع الله أبراهيم مثلا، أو إلى تاريخية و بناء الغيطاني، أو ندرة وقدرة أصلان على نحت الثمين والنادر والمقتصد فيه، في حين بدت نظرتنا إلى البساطي سجينة تبجيل عمله الأولي والأشهر «صخب البحيرة»، لا لشيء فيه أو عليه، بل لكسلنا البليغ في محاولة إعادة تصنيف كتابته النامية بإضطراد ككائن حي داخل منظومة أوسع من المشهد الأدبي، وساعدنا في ذلك هو نفسه، حين أصبح غير ميال إلى الظهور العام، أو التخابث علينا بإشاعة ما أشعناه عنه بوصفه حكاء ريفياً عادياً، غير ملتقطين أو عازمين على التعامل مع صبره ودأبه في الكتابة، إلا بوصفها تكرارا مملا أو غزلا على صوفة عمله الأول، من دون ان نلحظ إلا في لقطات نادرة ما اعترى هذا النول الكتابي من غرز وتنويعات لونية وخامات جديدة.
مع موت البساطي بسرطان الكبد في مستشفي سيئ كسوء بنية حياتنا الواقعية، ينضم ويتخلص جسده من بهاء الروائي ليتصل بكل أبناء جيله من ضحايا المياه الملوثة وتمدين الريف الستيني على يد الضباط الأحرار. الكبد، يا عزيزي القارئ، هو من سيسلم رأس عبد الناصر غالبا إلى مقصلة الآلهة، والريفي الساذج الذي كانه إبن بحيرات شمال الدلتا لم يكن مهتما بتقديس أبيه السياسي، لا بالتمرد عليه ولا بالدفاع عنه. أغلب أعماله تناولت أحراش شمال الدلتا الغنية بمظاهر التداخل الجيموفولوجي، بين بحر ونهر، عذب ومالح، اضمحلال الأخضر وسيطرة أصفر الصبر المتوسطي، تلك البيئة المختلطة على تخوم الإنتقال العنيف من الريف إلى الساحل، في صراعها المرير مع تقدم البحر المستمر ونحر اليابس، عذاب الزراعة البائسة تحت حمى الجفاف وتكلس الأرض، وما أنتجته مدنية السد العالي، التي أخرت الطمي وحبسته - من تلظي سواحل مصر الشمالية بداء تأقزم الحياة، كانت كتابة البساطي عن مهمشي تلك المناطق التي هي بالطبيعة مهمشة. وبفعل الإجراءات الزراعية الكلاشيهية لتوزيع الأراضي مع الإصلاح الزراعي الكاذب، كانت كتابته لا هي ريفية كما حاولنا التصنيف، ولا هي سرديات إجتماعية عن بؤس تقليدي لريف كلاسيكي. كانت عواء كاملاً وغرائبياً دفعني في اللقاء الأول معه إلى اكتشاف ما خلف تخابثه من حكمة نادرة.
كنت مسلحا بإتهام جاهز ومشهّر وأنا أحدثه عن رواية فردوس، الرواية التي نشرت لدى الصديق محمد هاشم وأدخلت كتابات البساطي إلى متناول جيلنا الذي لا يرحم، جيلنا الذي جلس على الشاطئ منتظرا أن يرشح من جيل الستينات ويجف من جف، فنلوك سيرتهم وقد أعجزتهم الهمة عن اللحاق بمستلزمات خيال الأدب المعولم، كنت ذاهبا إليه بإتهام أنه نحت شخصيته الأساسية في الرواية من شخصية زوجة الأب في رائعة «مديح زوجة الأب»، هالني نفيه لقراءتها، نفيه الكامل النقي المصدق، نفيه الذي اضطرني لتجاوز صدقية عقلي، جلس يحدثني عن جذور شخصيته، عمته الصموت البائسة، فأعاد إلى وعيي غير القابل لإداراك الصدفة كما يحكيها سؤال الأدب الأزلي: هل نكتب جميعاً رواية واحدة؟ هل من نقاء مطلق لأصول أي رواية حديثة في بعدها عن عشرة أفكار موجودة بكامل بهائها في أعمال كلاسيكية؟ وهو كان كلما أوغل في دفاعه عن فردوسه الخاص كنت أتأمل في حماسه الكلامي وضحكته الباذخة حين يفتح بؤبؤ عينيه مندهشا مما لا دهشة فيه، كنت أقاوم إحساسا مدوخا بإحتضانه ومصاحبته وهو الكاره لاقتحام خصوصيته المنزلية.
تحمست للقائه مرة ثانية بعد روايته المتأخرة «دق الطبول»، كنت قد أكلت الرواية أكلا في ليلة واحدة وهالني المزج المدهش فيها بين خيط وثائقي هش متمثل في مشاركة منتخب إمارة خليجية في كأس العالم، وبين ما نسجه من عوالم في تلك الإمارة التي خلت لخدامها بعد أن هجر المواطنون ديارهم لتشجيع منتخبهم المتواضع، حيث أصبح الصبح على جزيرة انفرد فيها العبيد بالهواء لمدة أسبوع من دون أسياد، وجلسنا كعادة لقاءاتنا النادرة نفكك الرواية إلى عناصرها الأولى، كان المشهد الرائع من إكزوتيك المهجر المصري في العراق لعامل يتلصص عليه الناس في خلوته وهو يرفع بذكره دلاء الماء فيما ينتصب العشرات خلف ثقب التلصص في غرفته. سمعنا طرفاً منه أو نسجاً على منواله في حكايات جيل الهجرة الثمانيني، لكن أكثر ما أدهشني في العمل هو قدرته على وصف العمالة الآسيوية في بساطة عشقها وعبوديتها، غير بعيدة عن مأزق أهل البلد الأصليين في لوثة حداثتهم العائمة على بحر النفط الرخيص، فتتحول أعمال السخرة والعبودية إلى مروية جديدة لألف ليلة وليلة على نمط مابعد الألفين.
جلس البساطي يحكي وأقاطعه بالحكي، كانت عيناه تدمعان من الضحك الرائق، كنت مندهشا من تلك الحساسية الجديدة في كتابته المتأخرة، حساسية التخييل الكامل، المنبت الصلة عن عوالم شمال الدلتا. كنت في إحتفائي بالرواية وتوصيتي بها للأقربين كمن يكفر عن خطايا تجاه هذا الكاتب الجميل، أو كأنني أعتذر عن مجمل التلخيصات المجتزأة التي سجنّا فيها جيل الستينات، فلا تاريخية الغيطاني نفعته في اكتساب الاحترام لاحقا، ولا ريادة وثائقية صنع الله أنجته من التكرار المبتذل، فصبر البساطي على التقليل من شأنه كاتباً عظيماً كان درساً أخلاقياً في معني الحرفة التي لا تتأثر بتصفيق الجمهور، ودأبه على الكتابة تجريباً وتمحيصاً في ثنايا منفلتة وغائبة عن وعينا، كانت مصداقاً لوعود الكتابة، التي لا تقف عند حدود انعكاسها في مرآة واسعة، كان البساطي ولازال لمحة لايمكن اضمارها في مشهد عام، بل هي جديرة بتأمل أفقي لمجمل أعماله، حيث لا سلام في جنازة يوفيه حقه، ولا كلمات نادمة بعد موته ستجلب ما هو أكثر من ضحكته المتواضعة وهو يقرأها الآن.