بوفاة محمد البساطي، بلا صخب تقريباً، بعد غياب خيري شلبي وابراهيم أصلان في غضون عام تقريباً، تكون الرواية المصرية فقدت الدهاء الساخر لجيل الستينيات الملعون. وهؤلاء الثلاثة تحديداً كان لهم امتياز توسيع فضاء الرواية إلى تلك التخوم التي يصطدم فيها الوعي الريفي بالقلق المديني، وحيث اللغة تتحول إلى حقل اشتغال الذاكرة الشفوية والحساسية الشعرية للكتابة. وهذا "الاصطدام" على كل حال سيكون هو السمة الأولى للثقافة العربية طوال العقود المديدة، منذ أواخر الخمسينيات وحتى اليوم، وهو الصدع الذي سيعبر مجمل الروايات العربية.
بالطبع لا يمكن السهو عن تذكّر عبد الحكيم قاسم ومحمد مستجاب وابراهيم عبد المجيد ومحمود الورداني وصبري موسى وعبده جبير وصنع الله ابراهيم. فهؤلاء مع البساطي وشلبي وأصلان، أخرجوا الرواية من حارة نجيب محفوظ الى تلك المطارح النائية، والى الهوامش المُدقعة والرثة، وإلى العوالم غير المصنفة في الترسيم الاجتماعي. وكان خروجهم هذا متّسقاً مع الحيوية الفائقة لمصر الناصرية، بما خالجها من اضطراب وصراع ثقافي ايديولوجي واعتراض سياسي (لم يخلُ من قمع ونفي وسجن). لكننا نحسب أن قوة النتاج الروائي لهذا الجيل تبدّت أكثر في عهد التحولات الدراماتيكية ما بين السبعينيات والثمانينيات. فهذه التحولات بالذات هي مرتكز كتاباتهم، وهي البئر التي انتشلوا منها كنوزهم الروائية.
الحزن والفكاهة، المرارة والبهجة، الشاعرية والمجانية.. بل أبعد من ذلك، البوح كله والصمت التام. وعلى هذا التناقض الهش والخطر، كانت تنعقد روايات أمثال البساطي وأصلان وقاسم، برهافة وأريحية تدفعنا باستمرار إلى القول متعجبين: "هؤلاء المصريون كم يعرفون كيف تُروى الحكايات".
جاءت الرواية معهم من الشقاء والفقر وبساطة الفطرة ونباهة المنبوذين والدعابة الشعبية والسذاجة الريفية وحنكة المتكسبين، وحتى من النفحات الروحية والصوفية للمشردين، ومن الانحطاط الاخلاقي للسوقيين واللصوص والمتبطّلين...
كان اختيارهم لهذه العوالم تمزيقاً متعمداً لقماشة الرواية السابقة عليهم، بنموذجها المحفوظي، الواضحة والمرسومة بخطوط أنيقة. فمصرهم التي رأوها واحتفلوا بها إنما هي تلك العوالم الصاخبة والفوضوية والمهزومة اجتماعياً، ومكتوبة بخلطة سحرية تجمع الفنتازية المتقشفة والواقعية الباذخة.
نظن ان شهرة محمد البساطي كانت مع رواية "صخب البحيرة". لكنا نجد أن "دق الطبول" هي الأكثر تعبيراً عن قدرته على التقاط اللامعقول "الواقعي". وهي الاقتراح الفذ في البناء الروائي الحديث، وفق مرجعية أدبية تراثية كألف ليلة وليلة. فهذه الرواية هي أولاً ذروة انجازه في شعرية الحوارات. وهي الرواية التي خرج منها الريف في تحول مدهش نحو مدن "التجرية الخليجية"، كما أنها الرواية التي يخفّ فيها الثقل الدرامي الى نواة مكثفة وصلبة، فيما لغته الهامسة والمقتضبة تصير لقطات تصويرية مفعمة بالمدهش والكابوسي في آن معاً.
اللقطات المتكررة مثلاً لسيدة القصر، البدينة، المنطرحة على الدوام في فراشها وهي تحاور وتأمر وتراقب خادمتها، وذاك المشهد الذي لا يُنسى للخادم المصري، الراوي، وهو ينثر يومياً امامه تلك الملابس الداخلية التي يشتريها لزوجته البعيدة عنه (تسليته الوحيدة في غربته هي تسوق الملابس الداخلية المثيرة وحفظها في حقيبة بانتظار عودته الى الوطن وإهدائها الى زوجته). كذلك مشهد المقهى مع الرجل الأفريقي الذي يقوم باستعراض فحولته، التي تبدو لجميع الوافدين الى تلك الامارة الخليجية شبه مستحيلة، طالما أن "لعنة" أصابتهم منذ ان وطأوا المكان وأحالتهم إلى عاطلين عن أي فعل جنسي.
براعة البساطي في "دق الطبول" هي تلك الهندسة المستمدة من تقنية الحكاية في ألف ليلة وليلة، لكن ذلك لا ينكشف إلا ببطء وبتضافر متمهّل لخطوط هذه الهندسة، فلا تكتمل ولا تتوضح إلا في خاتمة الرواية.
بهدوء يرصد البساطي المسار الحتمي لمأساة تجربة الاغتراب والهجرة الى تلك الإمارة الصحراوية، حيث الثراء من جهة، وفقر الخدم والوافدين الذين يقومون بشؤون الإمارة وكل أوجه العمل اليومية وفق شروط مجحفة من جهة ثانية. ويكتب البساطي "بهدوء" أي بلا مبالغات أو افتعال درامي ومتوتر، كما فعل الكثير ممن كتبوا عن التجربة الخليجية. فهو شديد الانتباه للمآزق الوجودية التي يعيشها هنا كل البشر، الخدم والأسياد سيدة القصر والمدبرة، السائق أو الأطفال. والأهم أن مقاربته في الكتابة تظل باستمرار منحازة الى الاختصار الشعري والتلميحي، والى سكب الدعابة الطازجة والعفوية في وسط التوتر الحزين، وفي داخل الكآبة اليومية الروتينية التي تسيطر على زمن الرواية. وبهذا المعنى تظل روايته مفتوحة على التعاطف الإنساني.
مع رحيل محمد البساطي سننتبه أكثر الى الفاصل التاريخي بين حقبة جيله، وحقبة نجيب محفوظ ويوسف ادريس. كما سننتبه الى السخاء الذي وهبه جيل الستينيات هذا لكل الاجيال اللاحقة في مصر والعالم العربي. فهم على الأرجح جعلوا الرواية "ديوان العرب" لأول مرة منذ ألف ليلة وليلة.