(1) سيستمر رعد ثورتي تونس ومصر يملأ آفاق الوطن العربي، وبرقهما ينير الأبصار والبصائر. ومثلما فعلت أخت لهما من قبل، في يوليو 1952، فان أصداءهما ستظلُّ تملأ آفاق أرض العرب لعقود قادمة. وما علينا إلا الإنتظار لتفاجئنا الثورتان بما لم نحلم به. ولنتذكّر أن الثورات هي مثل الأمواج الزّاحفة، ما إن تصعد إحداها وتهبط حتى تتبعها موجة أخرى فتدفعها نحو الصعود. وهكذا، فبعد أن رانت على أرض العرب ظلمة سياسية حالكة عبر العقود الأربعة الماضية فانّ علينا أن نهيّئ أعيننا لتتعايش مع أنوار ساطعة مبهرة عبر العديد من العقود القادمة. وعليه فانّ الذين يودُّون التعلم من سيرورة الثورات يجب أن يدركوا أن السّيرورة لا تقف عند سقوط هذا الطاغية أو ذاك وإنّما تمتد عبر السّنين والعقود وتتعايش مع أحلامها بنفس طويل وبانتصارات تراكمية لا تتوقّف.
(2) لقد قتلت أنظمة الاستبداد السّابقة في مصر وتونس المئات من الشّباب المتظاهرين المسالمين العزّل، لكنّها لم تقتل الثورتين، ولو كانت تلك الأنظمة أكثر فهما لعرفت بالقول المأثور من أن الحكومات النّابهة اكتشفت أن شهداء الثورة الأموات هم أكثر خطرا من الثوّار الأحياء أنفسهم، فالشهادة لها عبق يزيد الثورات قوة وصلابة. الإنصاف يتطلب منّا أن نقرّ بأن انتصار الثورتين كان في الدرجة الأولى من صنع تضحيات الأموات الشهداء. وإذا كان الأخوة في تونس ومصر يريدون لروح الثورتين أن تبقى عبر الزّمن الطويل كمهماز لحراك الجماهير فعليهم أن يكتبوا أسماء شهدائهما في السّاحات التي سقطوا فيها، تخليدا لذكراهم العطرة وإيقادا مستمرا متجدّدا لروح وعزيمة الثورتين وتأريخا لانبعاث إرادة الشعبين.
(3) منذ أسبوعين كتبت كيف أن حكم الاستبداد شوّه وظيفتي مؤسّستي الأمن والإعلام وجعلهما أداتي تخويف وترهيب وتزوير. وناديت بوضع ضوابط مجتمعية لمنع استعمال جهازي الأمن والإعلام من قبل البعض لأغراض تخدم مصالح أنانيّة ضيّقة. ولقد أثبتت صور البطش بالمتظاهرين المسالمين وحملات الإعلام الرسمي الكاذبة لتشويه سمعة الثوّار والدسّ على الثورتين، أثبتت صدق تشخيصنا، وتضاعف صدق التشخيص بعدما خرج الآلاف من منتسبي أجهزة الأمن والإعلام في تونس ومصر ليعترفوا أمام الملأ بأنهم أرغموا على ما ارتكبوه من خطايا تجاه شباب الثورتين وتجاه ألقهما ونقائهما. هذان الجهازان، في ظلّ عدم اكتمال مسيرة الديموقراطية القادرة على المساءلة والمحاسبة، يجب أن يكونا تحت رقابة سلطة الدولة وسلطة المجتمع. انهما يحتاجان إلى مرجعية، قد تكون في شكل مجالس تضمُّ ممثلين عن الجهازين مع ممثلين عن السلطة التشريعية وممثلين عن مؤسسات المجتمع المدني، مرجعية تضع الاستراتيجيات التي تحكم الجهازين، ونوع الثقافة التي توجّه تصرفاتهما تجاه الحكومة والمواطنين، والسياسات التي تبعدهما عن السريّة المفرطة وعن وجود مراكز قوى تفسدهما، والخطوط الحمر التي لا يجب أن تتخطّاها أيّ من التنظيمات من داخل الجهازين.
ليس الهدف من ذلك هو الوصاية أو التدخّل في الأنشطة اليومية، وإنما الهدف هو منع السياسيين أو المتنفّذين الفاسدين المغامرين من استغلال هذين الجهازين المالكين لقدرات هائلة بإمكانها أن تفسد الحياة المجتمعية وأن تضلل الرأي العام. وإذا كانت بعض الدول قد أقامت مجالس من مثل مجالس التعليم أو التنمية أو الأمن الوطني أو القوات المسلّحة أو الثقافة أو الصحّة إلخ، من مجالس لتساعد وتراقب وحتى لتحاسب، فما الذي يمنع وجود مثل هذه الرقابة المشتركة بين الدولة ومجتمعها؟ وعلى أي حال فقد تكون هناك خلافات حول التفاصيل ولكن فكرة منع الشّطط في التصرفات ومنع الاستغلال من قبل الانتهازيين هي الدّافع والمبرّر. لقد أثبتت أحداث ثورتي تونس ومصر، والتي أظهرت لعب الأدوار السلبيّة السيّئة وحتى الحقيرة من قبل الجهازين، الحاجة الملحة لإنقاذ الجهازين من نفسهما الأمّارة بالسوء ومن وساوس شياطين الإنس العابثين، وبالتالي إنقاذ المواطنين والمجتمعات، بل وحتى أنظمة الحكم نفسها
(4) لم يوجد منظر مضحك أكثر من بهلوانيات ساسة ومسؤولي الغرب وهم يعطون حكومات تونس ومصر والقائمين على الثورتين توجيهاتهم اليومية. فجأة تنبهت دول الغرب، التي ساندت ولا تزال تساند كل أنظمة الاستبداد، والتي تصرّفت طيلة القرون حسب مصالحها الأنانية الاستغلالية ودون اي التفات إلى قيم الحق والعدالة والأخلاق الإنسانية، فجأة تنبّهت لوجود حقوق ومظالم وأحزان شعوب أرض العرب. وحتى هذا التنبّه كان انتهازيا متماشيا مع تيّار جارف لا يستطيعون السيطرة عليه وكان غادرا لئيما لمن خدموهم ونفّذوا أوامرهم كالعبيد طيلة سنين حكمهم. كل ذلك أظهر أن ما قاله وكتبه الكثيرون عن عدم الاعتماد قط على مواقف أو عهود أو وعود حكومات الغرب كان صحيحا. كما أظهر أيضا أن الشعوب القويّة الواعية المريدة لا تحتاج لهذه الجهة أو تلك، خصوصا إذا كانت تلك الجهات متقلّبة تكيل بألف مكيال وتختفي وراء ألف قناع وتتكلم بألف لسان.
حقا، إن ينبوع الثورتين العظيمتين لن يجفّ ولن يصبح ماؤه الرقراق آسنا.