في الوسط الثقافي المصري لا ينكر أحد موهبة الكاتب الكبير إبراهيم أصلان، ويتفق الجميع بلا استثناء علي أنه الصورة المثالية للكاتب العصامي، ويعطي بمشواره المثال الأنقي علي الإخلاص للأدب، فمنذ بداياته الأولي احتمي بموهبته وسعي إلي تنميتها بالقراءة لكنه لم يحرم نفسه من الاتصال بالبشر فهو ـ ليس من مثقفي الكتب ـ يعرف أن للمعرفة مكانا بين الناس. ويخيل لي كلما خالطته واقتربت منه أنه "جواهرجي بشر"، هو "ابن البلد" بالمعنى الإيجابي للكلمة وبألف لام التعريف، يتعامل مع كل شخص على "قد عقله" لا يفرط في الكلام مع من لا يطمئن إليهم. يطلق أمام الكثيرين كلمة موجزة صارت اليوم مثالا في حياتنا الأدبية، يقول كلما حاول أن يبدي قدرا من الدهشة والاهتمام بشيء يسمعه لأول مرة "يا راجل"، ولكن إذا أفرطت في إبداء الإعجاب به يقول لك بتواضع "أنا مش كاتب للدرجة دي!!"
وربما كان هذا سرا من أسرار أصلان الكثيرة والتي جعلته "فتاح سكك" في الكتابة وصاحب قدرة فريدة في جمع "المقتنيات البشرية". يقول في حوار له "علاقتي مع الناس كانت دائماً علاقة متكافئة، وعشت عمري كله عندي قدرة علي إقامة علاقة مع مستويات مختلفة من الناس، وأصدقائي يتفاوتون ما بين "سائسي عربيات" وناس "مبسوطين بشدة". يبدو أصلان مثل صياد ماهر لأكثر اللحظات حميمية وهي لحظات تستعصي علي الكتابة، لكنها تلين بين يديه لتتحول إلى "حياة من لحم ودم" فالبشر هم السر الحقيقي في كل ما أنجزه أصلان كما يري كتاب جيله أنه الكاتب الأكثر حظاً.
عندما أسترجع مسيرة أصلان أكتشف أن موهبته كانت مثل' الضوء' الذي من الصعب إنكار قدرته علي كسر قانون الظلام. لذلك لا تعجب إذا عرفت أن كتاب جيله هم أنفسهم من قرر الاحتفاء بموهبته مبكرا وتكريس عدد خاص عنه في مجلة' جاليري68' وهي مجلة طليعية كانت أقرب إلي مصنع مواهب لايزال إنتاجه يمثل فخر المخيلة الإبداعية المصرية. في هذه المجلة بدا لقراء الأدب أن الأدب لديه موعد مع كاتب له طريقته المميزة في الاختزال، يؤمن بأن الكتابة هي فن الحذف، وكثيرا ما قال لي أصلان "لا أحب أن أكتب ما يعرفه القارئ، فالأفضل دائما أن أحذف كل ما قد يتوقعه". هذا الدرس تعلمه أصلان من كاتبه المفضل الأمريكي أرنست هيمنجواي الذي يحلو له أن يعود لقراءته من وقت لآخر أو الكتابة عنه، وقد التفتت دراسات أكاديمية عنه إلى هذا التأثير ومنها دراسة مقدمة بالإنجليزية بجامعة عين شمس للباحث. شكري عبد المنعم محمد حول تأثير همنجواي في القصة المصرية القصيرة "إبراهيم أصلان وبهاء طاهر نموذجاً"، لكن المصدر الثاني الذي علم أصلان فنون الاقتصاد اللغوي إن جاز التعبير هو "أدب يحيى حقي" الذي ـ بالإضافة إلي هذا الدرس ـ مكن أصلان من إدراك درس آخر يتعلق بـ"النحت في اللغة" والبحث عن مصادر أخرى للإلهام في الكتابة لا تتصل بالأدب مباشرة، فعندما يواجه الكاتب مشكلة في البناء الفني ربما يجد لها حلاً في فن آخر "هكذا تعلم أصلان من حقي وأخذ يعلم نفسه بنفسه الكثير من المهارات، فهو من "عشاق الأيدي الذكية" كما قال لي وهو يقصد "الأيدي التي تنشغل بابتكار شيء" لكن الدرس الأهم والأعمق الذي تلقاه أصلان من قراءة حقي تتعلق بالحاجة إلي إيمان بتجاور الفنون والأنواع الأدبية لذلك تندهش وأنت في حضرة أصلان من حديثه عن السينما واتجاهات مخرجيها كأنه ناقد سينمائي محترف أو من ذائقته الرفيعة في الفن التشكيلي، وعندما تسأل تجد الإجابة المتواضعة التي يقدمها لك كدرس فهو يقول "أنا مهووس باكتشاف الأعمال الأدبية والفنية التي تمكن أصحابها من ابتكار حلول لمشكلات التعبير الفني "أذكر مرة أنني قرأت كتاباً جميلاً للمخرج أندريه تاركوفسكي يتضمن تأملاته تحت عنوان (النحت في الزمن)، وحين اتصلت بأصلان أخبره عما وجدته في الكتاب من إجابات عن أسئلة تشغله وجدته يفاجئني بمقال كتبه عن نفس الكتاب ونشرته صحيفة الأهرام.
الغريب أن أصلان بدأ منذ فترة مبكرة من حياته تعليم نفسه بنفسه، فهو لم يتلق تعليماً نظامياً لظروف أسرية وبدأ في العمل في هيئة المواصلات السلكية واللاسلكية، هناك التقى أصدقاء وزملاء عمل نقلوا موهبته التي كانت في طور النمو لمرحلة أخرى، يسميها ماريو فرجاس يوسا مرحلة "تحويل الموهبة من ميل أدبي إلى احتراف" وفي هذا المناخ الذي يعود إلي أوائل ستينيات القرن الماضي كتب أصلان قصصه الأولى الموجودة في "يوسف والرداء" و"بحيرة المساء" لكن خبرته في تجربة العمل في البريد تجد لها أصداء حاضرة في روايته القصيرة البديعة "وردية ليل"، وفي كتابه العصي على التصنيف "خلوة الغلبان"، ففي الكتابين الكثير من أطياف هذه التجربة الإنسانية التي مكنته من تطويع لغته وأخذها باتجاه "الاقتصاد" لتكون لغة عارية من الزخارف البلاغية.
يقول أصلان: "عندما انتدبت من هيئة البريد إلى المواصلات اللاسلكية مع مطلع الستينيات وجدتني في مكان الكلام فيه بفلوس ـ لاتوجد كلمة واحدة هنا من دون ثمن مدفوع ـ وفي آخر النهار ـ هناك إحصاء عام لكل الكلمات ـ وهذا أمر قد يتجاوب فوراً مع رغبتك في عدم الكلام ـ وسوف يعزز إيمانك بأن للصمت فضيلة ولو واحدة". وفي الكاونتر الخاص بهذا المبنى التقى أصلان بعملاء ممن يريدون إرسال برقياتهم إلى خارج البلاد، إنهم يتباينون في كل شيء إلا أنهم يتحولون جميعاً أمام الشباك، بمن فيهم الأمي، إلى عباقرة في فن صياغة الكلمات واختصارها، كل كلمة مرسلة إلى الخارج بمبلغ والبرقية على بعضها مكلفة جداً، وهم يريدون أن يرسلوا أكبر قدر ممكن من المعلومات، في أقل عدد ممكن من الكلمات".
لكن الخبرة اليومية ذاتها عاد أصلان وكتبها في الأهرام وتوقف أمام شخوصها المؤثرين ومنهم الناقد محيي الدين محمد الذي كان يكتب أيامها في مجلة' الآداب' وكانت ذات شنة ورنة في الحياة الأدبية العربية، كما التقي بالفنانة الراحلة فاطمة رشدي التي تعرف عليها في مقهي عز الدين المواجه لمبني' شركة ماركوني' حيث كان يعمل، يصف أصلان مشهد اللقاء قائلا:' تعرفت بالفنانة الراحلة فاطمة رشدي التي كانت تضع ساقا ممتلئة علي ساق في ركن المقهي، تدخن وتخضب سجائرها بأحمر شفتيها، وتمسك فنجان القهوة من أذنه الصغيرة بإصبعين، وتباعد ما بين بقية أصابعها، كما تعرفت برأفت الهجان في الفترة التي كان اسمه فيها أحمد العلايلي، وعدد كبير من ممثلي الإذاعة والعازفين الذين كانوا ينتظرون دورهم في تسجيل الأعمال التي يشاركون فيها.
قضي أصلان نحو خمسة عشر عاما يعمل في وردية الليل بهيئة المواصلات اللاسلكية ـ علي حد وصفه ـ يطل من الطابق الرابع علي شارع رمسيس من هذه الناحية، وعلي شارع الجلاء من الناحية الأخري، كنت أعرف من لا ينامون مثلي من نوافذهم المضيئة المتناثرة في البنايات البعيدة، أقمت علاقات مع بعضهم، وعرفت مع السنين أن بعض النوافذ إذا أظلمت فإنها إجازة يقضيها صاحبها في مصيف أو آخر. يقول:'أردت أن أكتب كيف أنك عندما تقضي سنوات طويلة ليلة وراء أخري مع زملاء لا يتغيرون، سوف تكتشف أن الناس في الليل يكونون غير الناس وأن تأثير السهر في واحد ليس مثل آخر. يعود أصلان بذاكرته إلي ما يمكن تسميته بسنوات التكوين قائلا:' كنت مندفعا أيامها بكل طاقتي إلي الاطلاع علي أعمال الكبار من المفكرين والكتاب قفزا علي من هم دونهم، وهكذا كنت ألتقي بكثير من الكلمات التي لم أكن عرفت معناها بعد، إلا أنني كنت أتعرف علي معانيها من السياقات التي تنتظمها، ولايزال الواحد يتذكر متعة الاستقبال الأول لكل مفردة جديدة والاحتفاء بها.
في جلساته لا يكف أصلان عن وصف محيي الدين محمد والإشادة به قائلا:' كان صوتا بارزا في الثقافة العربية ذلك الوقت، كان صاحب ثقافة رفيعة ويكتب في الأدب والشعر والموسيقي والفنون التشكيلية وما أمكن، وهو بعدما عمل مراسلا لمجلة الآداب خلفا للراحل رجاء النقاش صارت مقالاته التي حملت دفاعا حارا عن حرية الفكر والتعبير، التي كان ينشرها في مجلة حوار وأدب وشعر من المقالات ذات الصدي في الواقع الثقافي العربي، وله مؤلف عن (ثورة الأدب العربي المعاصر) كما ترجم (الجزر الوحشية) لـ( هرمان ميلفل) وقد أخذ عليه أستاذنا محمود أمين العالم في كتابه القديم ( قضايا فكرية) أنه أحد كبار دعاة الفكر الوجودي في زمن اشتراكي قح. ومن محيي عرفت الكتابات الأولي لأدونيس ويوسف الخال وأنسي الحاج والسياب وشوقي أبوشقرة وغيرهم، وهو كان التقاهم في مؤتمر الأدب العربي الذي عقد في روما وصاحبه صخب كبير، وصارت بينه وبين السياب صداقة قوية، وكنت اطلعت علي بعض من مراسلاته التي يحدثه فيها عن مرضه، وكان بصدد وضع كتاب عنه اعتمادا علي هذه الرسائل واستعار مني ديواني (ابن الرومي) و(المتنبي) من أجل هذا الغرض، وهو لم يضع الكتاب ولا أعاد لي الديوانين.
ويتابع: عندما تعرفت بمحيي كنت محموما بالقراءة إلا أنني كنت أقرأ في كل شيء ودون خطة ما، وهو بدأ يضع لي قوائم بالكتب، القائمة الأولي كانت تتضمن الأعمال الكاملة لـ(دستويفسكي) والأجزاء الخمسة الأولي من( قصة الحضارة) لـ( ديورانت) واتفقنا علي ألا نتحدث حول الكتب إلا بعد الانتهاء منها، حيث يمكننا الانتقال لقائمة أخري، وهكذا، عندما بدأت الكتابة كان حظي كبيرا لأنني اختبرت محاولاتي الأولي كلها مع ذائقته الرفيعة النادرة. وهو كان شرع في الزواج، ثم بدأ يبتاع الزهور وهو ذاهب لزيارة خطيبته، ومرة رأيته يمشي في شارع رمسيس بصحبة واحدة من أشجار أعياد الميلاد، ثم توقف تماما عن الكتابة وسافر للعمل في قطر، ظل هناك سنوات طويلة وسمعت أنه عاد قبل عشر سنوات تقريبا، ولكنني لم أره منذ سافر حتي الآن.
ومن تلك السنوات البعيدة لا يزال أصلان يتذكر الصلات الأولي التي ربطته بكتاب جيله لا سيما ضياء الشرقاوي ومحمد حافظ رجب ويحيي الطاهر عبد الله والأخير بالذات كانت غالبية الكتابات النقدية الأولي لجيل الستينيات، تضعه موضع المقارنة مع أصلان الذي قال لي مرة' كانت هناك شوية غيرة فنية بيننا ولكن يحيي كان كاتبا ذواقا فعلا، وذات مرة حاول الزملاء الوقيعة بيننا وجاء لبيتنا في الكيت كات ليتشاجر معي ويضربني، لولا أنني سبقته وقلت يا يحيي: أنا كاتب قصة جديدة وعايزك تسمعها، فقرأت عليه قصة جديدة وخرج من بيتنا قبل أن يشرب الشاي، وعندما نزلت لوسط البلد قابلت كل الناس الذين أعرفهم بيتكلموا عن القصة' الحلوة' فعرفت أن يحيي الطاهر تولي بنفسه عملية الدعاية لها'.
وفي هذا المناخ الحميم وجد أصلان من ينتصر لموهبته وينجو بها من مستنقع الوظيفة البيروقراطية، وربما يكون الكاتب الوحيد الذي زكاه نجيب محفوظ وكتب من أجله رسالة لإدارة التفرغ التابعة لوزارة الثقافة ليضمن تفرغه للأدب، واللافت للنظر أن أصلان لا يزال محتفظا بتلك الرسالة التي يعتبرها' شهادة بحق موهبته' ففيها أكد محفوظ أن أصلان' فنان نابه، مؤلفاته تقطع بموهبة فريدة وفذة، ومستقبل فريد، ولمثله كما يقول محفوظ، نشأ مشروع التفرغ وعند أمثاله يثمر ويزدهر، وإلي جانب شهادة محفوظ نال أصلان شهادة أخري من ناقدة كبيرة مثل لطيفة الزيات والتي علي الرغم من انحيازها اليساري لم تجد غضاضة في مساندة مشروع كاتب كانت له طوال الوقت انحيازات جمالية مغايرة لخط الواقعية الاشتراكية التقليدي الذي كان عنوانا لتلك السنوات.
الطريف أن أصلان بفضل هذه المنحة أضطر لكتابة الرواية: 'أنت تعرف أن نجيب محفوظ كان مهتما بالقصص القصيرة التي أنشرها، حتي لاحظ تغيبي عن لقاءات الجمعة، وعرف أن ذلك بسبب عملي في هيئة المواصلات السلكية واللاسلكية، قسم البرقيات الخارجية، إذ كنت أشتغل وردية ليل، فسارع إلي كتابة تزكية كي أحصل علي منحة سنة تفرغ، كما كتبت لطيفة الزيات وصلاح عبد الصبور، وحصلت علي منحة تفرغ سنة قابلة للتمديد، وبدأت تظهر الأخبار في الصحف، أن إبراهيم أصلان حصل علي منحة تفرغ كي يكتب رواية، فنفيت الخبر مؤكدا أنني كاتب قصة قصيرة، لكن اتضح لي أنه لا يوجد تفرغ للقصة القصيرة، وأن التفرغ يعني أن تكتب رواية أو مسرحية أو بحثا طويلا، فقلت: ما دام حصلت علي التفرغ فلا توجد مشكلة، سوف أكتب رواية. ولأنني لست روائيا، أو بالأحرى كتبت الرواية مصادفة، أردت أن أسميه كتابا. وهذا ما آخذه في اعتباري، كتاب لا ينتسب لملامح روائية ثابتة وشائعة ومعروفة من البشر إلي الأماكن حيث تحتل امبابة و«الكيت كات» بالذات المكان المركزي في كتابة أصلان الذي يقول لا يمكنني الكتابة دون الإحساس بجغرافية المكان، وإن لم أذكره لذلك كتب في استهـلال كتابه الأخير 'شئ من هذا القبيل' الذي يروي حكايات عن تجربته في الحياة في المقطم وهي تجربة بدأها منـذ ما يقرب من خمس سنوات:' أنزع الآن عن امبابة ــ كما تنزع قطعة لحاء جافة، وإن كانت حية ــ عن جذعها الطري، كما تلتصق بجذع آخر'.
شقة أصلان القديمة لاتزال في إمبابة وهناك ترك المكتبة التي تبدو مثل مسمار جحا التي تتيح له العودة إلي المكان كلما أراد. المؤكد الآن أن أصلان بما كتبه خصوصا في مالك الحزين، وعصافير النيل وحكايات شارع فضل الله عثمان خلد منطقة إمبابة بجميع تفاصيلها الحميمية، ثم جاء فيلم داود عبد السيد الرائع 'الكيت كيت' المأخوذ عن' مالك الحزين' ليعطي لهذا التاريخ طابع الوثيقة المرئية التي تقاوم بحضورها تغييرات الزمن ويضيف لكتابة أصلان بعدا جماليا آخر دائما ما يسعي إليه وهو' الكتابة البصرية' فهو إذا كان يتعامل مع اللغة أساسا إلا أن ذاكرته في الأساس بصرية، ففي حوار أخير له يقول: 'خناقتي' مع الكتابة، أني أسعي نقيضا لفعل القراءة، لا أريدك أن تشعر أنك تقرأ، أسعي إلي أن أجعلك تري، وتسمع، وتشم .. أسعي إلي تحويل المشهد إلي مشهد مرئي، وهذه إمكانية لغوية صعبة جدا'.
يراجع أصلان الآن البروفات النهائية لكتابه الجديد' حجرتان وصالة' وهو كتاب يركز علي تفاصيل الحياة اليومية لاثنتين من العجائز، كتابة تؤكد أن رهان أصلان في الكتابة لا يتوقف علي الشكل، فالنص الجديد وإن كان يشير إلي متوالية قصصية إلا أنه ينفتح علي عالم غني بالمشاعر الإنسانية اليقظة شأن كل ما كتبه الرائع صاحب (مالك الحزين).