للتو، أي منذ ساعات، وربما منذ أيام، وقع ما يأتي:
في مساء رطب ومنعش لواحد من أيام معرض الشارقة للكتاب، وفي بهجة اللقاء بمن فاتني لقاؤه أو لقاؤها منذ سنة أو منذ عشر، أطلّ إبراهيم أصلان وجمال الغيطاني. وسرعان ما تحلقوا وتحلّقن حولهما، ولكن بعد أن ظفرت بعناق لا يبرد الشوق. وسرعان - أيضاً - ما تصدر إبراهيم المنصّة، فعاودني ما يراودني كلما رأيته في مثل هذا الموقع والموقف: أمتلئ إشفاقاً عليه، أكاد أنده: ارحموا هذا الطير. العمّ إبراهيم ليس رجل منصّة، العم إبراهيم مثله مثل بوعلي ياسين، دعوهما للجلسة غير الرسمية في مقهى، في بيت، بلا أضواء وبلا مكبر للصوت. لكن إبراهيم كذّب وساوسي كما فعل في كل مرة شاهدته فيها يتصدر منصّة.
بلا رسميات وبلا كلفة يحدث القاعة، صوته أقرب إلى الهمس، وعلى رغم ذلك لا يخفي ما أورثه التدخين من شروخ. عينان تناديانك إلى الغور، لتتوه بين المكر والبراءة والذكاء والسذاجة والطيبة والدهاء، وقد كان جلُّ ذلك مما أشعر به لأول مرّة، كما في كل مرة، فالعم إبراهيم من أولئك البشر الذين لا تفتأ تتعرف إليهم، ليس لغموض فيهم وحسب، بل لما يكنزون في دواخلهم.
حين طُلِبَ مني التعقيب على ما أنعم به إبراهيم أصلان على القاعة الصغيرة المحتشدة، تلعثمت كما تتلعثم يدي كلما حاولت أن أكتب أو أتحدث عن كتابته أو عنه، فأكتفي بالقول: إبراهيم أصلان يقطّر الرواية التي لا تُقطّر، ويقطّر القصة التي لا تُقطّر، كما لعله يُقطّر الحياة.
* * *
للتو أيضاً، أي منذ رفّة جفن، وقع ما يأتي:
في مساء بارد ومقلق لواحد من أيام (18 و19 يناير) اصطحبني محمد زاهد زنابيلي الذي أسس دار التنوير، إلى الصين الشعبية، أي إلى حي إمبابة، وبالضبط إلى وكر - لا إلى بيت ولا إلى غرفة - هو وكر إبراهيم أصلان، حيث حشرتنا الكتب والكراسي التي ليست بكراسي، والترابيزة التي ليست ترابيزة. وعلى وقع قرقرة الشيشة والصوت المشروخ وضحكة الأعماق وذيول منع التجول ليلاً وأصداء ثورة 18 و 19 يناير... على ذلك الوقع سكن العم إبراهيم روحي، إنساناً ومبدعاً، وما همّ من بعد أن تُباعد أحياناً سنواتٌ بين لقاء ولقاء، ففي غيابه هي ذي (وردية ليل) أو (يوسف والرداء) أو (بحيرة المساء)، هي ذي قصة ليست كالقصص، أو رواية ليست كالروايات، أي قصة - حكاية أو رواية - حكايات، بل هي ذي (مالك الحزين) أو (شيء من هذا القبيل) أو (خلوة الغلبان) أو (عصافير النيل)، هي ذي (حكايات من فضل الله عثمان) فما معنى اللقاء أو الفراق يا عمّ إبراهيم؟
* * *
بين لقاء إمبابة ولقاء الشارقة أربع وثلاثون سنة. وبين لقاء الشارقة وما يســـمى موت إبراهيم أصلان أو غيابه أو رحيله أربعون يوماً، تخــللها هاتف وحيد بيـــننا. وهكذا هو الزمن مع العم إبراهيم. وما دام لا حول لي ولا طول في ذلك، فسأنصرف عن الحزن وما شـــابهه إلى غواية إبراهيم أصلان الكبرى: غواية الإبداع المقطّر، أي: عالم من النكرات، من الألســـنة، من الشفوي، من اليومي، من الهامـــش، من مصلحة البريد، من الكيت كات، من الصاعق الذي يفجّر قصّة أو رواية أو حكاية، من اللقطة الأليفة المدهــشة في آن، من هذا الذي يســـمونه بفخامة: الاقتصاد اللغوي... ولكل ما تقدم دعوني أهمس في أذن العم إبراهيم: قوم بقى وكفاية موت.