منذ أن بدأت خطى ابراهيم أصلان الإبداعية والثقافية وهو يلفت النظر بقوة، رغم أنه كان بعيداً عن مراكز التأثير الصحفية والإعلامية عموماً. كان دوماً يؤثر الابتعاد عن هذه المراكز، وظل نائياً في وظيفته البسيطة بالهيئة العامة للمواصلات السلكية واللاسلكية، ودام فيها سنوات عديدة يمارس أنواعاً من الحياة والفرجة. وكانت هذه الوظيفة أحد روافد إبداعه الكبيرة إلى جانب ضاحية "إمبابة" التي برزت في الأحداث السياسية مؤخراً، وظل نائياً باختياره في هذين الركنين الكبيرين. هذان الهامشان العريضان، صنع منهما أصلان أجمل ابداعاته، وكان نصيب "إمبابة" في روايته "مالك الحزين" التي تحولت فيما بعد إلى فيلم "الكيت كات" والذي يعده النقاد واحداً من علامات السينما المصرية، وكان حظ الوظيفة روايته الثانية "وردية ليل"، وبالطبع تناثر الركنان في شتى قصصه ورواياته ومقالاته التي لا تبتعد كثيراً عن القصص. فهناك قواسم مشتركة كثيرة تربط كل هذه الكتابات بعضها بالبعض الآخر. فهناك مثلاً- الذاكرة البصرية التي يتمتع بها أصلان بدرجة قصوى، ودوماً ما كان يتحدث عن هذه السمة في شخصه ذاته، فلا يوجد حدث مرَّ به إلا ويكون حاضراً معه أشخاص وصور ومفردات ملموسة، كان أصلان دوماً مدمناً للتشخيص، ولا يعنى بالتجريد ورغم ذلك كانت كل تشخيصاته تضج بالمعاني الانسانية الرحبة، ورغم دقة ما يسرد ويصف ويشرح إلا أنك لابد أن تلحظ نوعاً من التأمل الذي يقترب من الفلسفة أو الرؤية يتصاعد من هذه الدقة التي تكاد تكون دقة الرياضيين. لذلك كانت جملة بول فاليري: "يا ناثانيل، أوصيك بالدقة، لا بالوضوح" هي الجملة الأولى التي يكتبها على صدر الصفحة الأولى في "مالك الحزين". ورغم أن الرواية التي تجوس في قلب الأماكن والأشخاص والأحداث لكن الدقة لا تفارق الكتابة، هذه الدقة الممتزجة بحميمية وليست دقة هندسية جافة، دقة تندهش من روح تفتيش باندهاش وتعيد انتاج هذه الدهشة في لغة صارمة.
ابراهيم أصلان كان يفرض على لغته أنواعاً من الحذف والاقتصاد والتكثيف، ولو اقتبسنا من كتاباته ما يدل على ذلك سنجد تقريباً أن هذه السمة تنطبق على معظم ما كتب .. مثلاً: "من مكانه على حافة الشاطئ عبر الطريق الذي تقطعه العربات والناس، ورأى اللافتة الكبيرة المعلقة والمصابيح ذات الطرابيش المعدنية المقلوبة التي تضيئها (شركة مخازن حدايد) من ناحية و(صلي على النبي) من الناحية الأخرى، والجدران الخارجية المطلية باللون الأزرق والأصفر، ومدخل المكتب بواجهته الزجاجية المغلقة والميزان القباني، وبقية المداخل الطويلة التي تكشف فتحاتها عن أسياخ الحديد المبرومة" .. هذه الفقرة لا تحتاج إلى شرح وإطناب ولكنها تنطق وتختصر الطريقة التي كان يؤثرها أصلان، أو الطريقة التي كانت النداهة الأولى بالنسبة له، و ظل يسلكها ويسير فيها ويقتحم عوالمها تجربة بعد الأخرى، والذين كتبوا عن إبداعات أصلان كثيرون، منذ خطاه الأولى واستقبال الحياة الثقافية له. ففي أغسطس عام 1966 أصدرت مجلة "المجلة" والتي كان يرأس تحريرها الكاتب والمبدع يحيى حقي عدداً خاصاً عن القصة القصيرة، وكتب الدكتور شكري عياد مقالاً عن قصة "بحيرة المساء"، وأشاد بالكاتب والكتابة، هذه الإشادة التي صنفت أصلان باعتباره الكاتب الأبرز الأهم من أبناء جيله زادت ابراهيم التزاماً ووفاء لما يكتب، وبناءً على ذلك قرر ابراهيم حذف كل ما كتبه قبل هذه السنة، ولم يضمنه أياً من مجموعاته فيما بعد، وكان قراراً حاسماً وصارماً لم يتراجع عنه طوال حياته، ولكن بعد مناقشة طويلة وحادة بيني وبينه وافق أنه سينظر فيها مرة أخرى وينتقي منها بعض "الأشياء" !! ويضمنها لكتبه ويضع لها عنواناً خاصاً.
هذا الاحتفال الذي كان يتزايد بأصلان ويزيده تألقاً كان يرافقه شعور بالمسؤولية المتزايدة، لذلك لم ينحرف للكتابة السهلة مطلقاً، ولم تغره العروض المتزايدة والمتفاقمة لاستكتابه، والأصدقاء القريبون منه كانوا يعرفون ذلك تماماً، وعندما كان يكتب مرتين في الأسبوع الواحد في السنوات الأخيرة كانت هذه المسألة تؤرقه جداً، وكان يفرض على نفسه نوعاً من الطوارئ، ويعتبر أن هذه المسألة مزعجة جداً ولا يستطيع أن يستمر هكذا كثيراً، لأنه قضى عمره كله كاتباً وليس مكتوباً، مريداً وليس مراداً، صانعاً وليس مصنوعاً، ورغم أن ملامحه كانت تزداد وضوحاً ودقة وجمالاً في كل ما كتبه في سنواته الأخيرة، إلا أن ذلك زاده إرهاقاً على إرهاق وتعباً على تعب.
أظن أن ظاهرة الاحتفال بأصلان رافقته بقوة، ففي عام 1969 صدرت مجلة "غاليري68" الطليعية، وأعدت عنه ملفاً لافتاً. نشرت المجلة 5 قصص قصيرة له مصحوبة بدراسات نقدية للنقاد الأهم والأبرز مثل غالب هلسا وادوارد الخراط وابراهيم فتحي، وخليل كلفت. وقد أثار هذا الملف قدراً كبيراً من الجدل لما يقدمه أصلان من عالم إبداعي جديد، عالم يتجاوز هرم القصة القصيرة المصري "يوسف ادريس" والذي كان يشكل حاجزاً كبيراً أمام الجيل التالي. وكان هناك وهم يقول بعدم القدرة على تجاوزه وتخطيه، ولكن جيل الستينيات طرح شكلاً آخر من الكتابة، وكان أصلان مأخوذاً جداً بعملية الشكل والاجتهاد في إبرازه، فالشكل عند إبراهيم أصلان هو الذي يحدد قدرة الكاتب الفنية، وأيضاً هو صانع الروح وخالق الحالة التي يتجنس بها النص الإبداعي، ويكتب خليل كلفت عام 1971 مقالاً تحت عنوان: "ابراهيم أصلان في مرحلته الجديدة" يقول: "تمثل قصص ابراهيم أصلان منذ قصته (اللعب الصغيرة) مرحلة جديدة في فنه القصصي، وهناك اعتباران يبرران هذا التقدير، من ناحية بلغت أساليب الكاتب الفنية درجة عالية من النضج، بحيث استطاع أن يضفر من تجاربه الفنية السابقة أسلوباً جديداً يستفيد من أدق خلجات تلك الأساليب ليصور ببراعة مذهلة العالم القصصي الفريد والمرهف في المرحلة الجديدة".
وبعيداً عن هذا الاحتفال والاحتفاء وأشكال التكريم التي كانت تحيط بابراهيم أصلان، كان كاتبنا يرد على ذلك بمزيد من التجويد، ومزيد من الريبة من الانزلاق إلى كتابة تفقده هذا التكريم، وظل مخلصاً لدرجة تصل إلى حد التصوف وإدمان العزوف عن الأضواء التي كانت تطارده. فكان قليل الظهور في التليفزيون بل نادر الظهور، وكان لي شرف الاشتراك معه في آخر حلقة ظهر فيها، وكان متردداً، ولكنه قرر الموافقة بعد أن اطمأن للمحاور، وكان كذلك نادر الحضور في الندوات وكثيراً ما كان يعتذر عن الأسفار إلى الخارج، و بالطبع لعب ارتباك المسألة الصحية دوراً كبيراً في ذلك.
وكانت المسألة التي أزعجته في مسيرته، هذه القضية الخاصة بنشر رواية "وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر. وكان هو المتهم الأول في نشرها، وقامت ضده مظاهرات سخيفة ولكنه كان قوياً قوة الرجل الذي يدافع عن تاريخه الشخصي، وقوة الجندي الذي يدافع عن بلاده التي يحلم بها، وأظن أن محاضر التحقيق التي أجريت معه لو خرجت للنور سوف تكشف وجهاً آخر لابراهيم أصلان. ففي ظل تلك الهجمة الشرسة التي كانت تحركها تيارات رجعية تجد أن ابراهيم أصلان يقول عن الرواية: "هي واحدة من أهم الروايات العربية على وجه الإطلاق، ليس هذا رأينا و لكنه رأي استقر عليه الواقع الثقافي والعربي" .. ثم يستطرد مهاجماً جريدة "الشعب" التي كانت تقود الحملة ضده وضد الرواية فيقول: "المناحة التي أقامتها جريدة "الشعب" عن الرواية واستعداء الناس علينا وسبنا واتهامنا في ديننا أمر بالغ، ولا يمكن فهمه إلا في إطار مختلف تماماً"، كان ابراهيم يقول ذلك بعد أن كان الإرهابيون قد قتلوا فرج فودة 1992، وحاولوا اغتيال نجيب محفوظ بعد ذلك عام 1994، وكان أصلان مرشحاً لذلك بعد استعداء الناس عليه وبعد أن تخلى عنه بعض الموظفين في وزارة الثقافة، وتركوه وحده يحمل وزر المدعي. وأظن أن التحقيقات التي جرت ستكشف وجوهاً أخرى لمثقفين تركوا ابراهيم وحده في هذه المحنة والتي لم يعتبرها محنة بأي وجه من الوجوه.
هذه المواجهة التي ابداها ابراهيم لم تكن جديدة. فهو قد شارك في بناء كافة الجماعات الثقافية المتمردة والطليعية منذ "جاليري 68، ثم "جمعية كتاب الغد"، ووجوده في هيئة تحرير مجلة "أدب ونقد"، ثم "حركة كفاية"، و"أدباء من أجل التغيير" .. ابراهيم أصلان كان مناخاً نتنفسه ونحياه.
الهواء الذي كنا نتنفسه