رواية جوع للقاص والروائي المصري محمد البساطي كانت قد وصلت لمرحلة القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، من بين أكثر من مائة رواية. إلا أن الجائزة ذهبت لرواية عزازيل للكاتب والروائي يوسف زيدان. تحكي الرواية قصة أسرة تتكون من الأب (زغلول)، والأم (سكينة)، وطفلين هما رجب الصغير، وزاهر الكبير، تكون هذه الأسرة تقطن في بيت فقير، وتعتاش على ما يجنيه الأب من مال، من بعض الأعمال القليلة التي يصدف وأن يعمل بها.
الرواية بشكل عام عبارة عن مشاهد باطنية لهذه الأسرة، والتي تكون جالسة على المصطبة تنتظر طلوع النهار. تبدأ المشاهد على لسان ربة الأسرة (سكينة) التي يكون فكرها مشغولاً متى سوف يطلع النهار: «لتمر على بيوت من تعرفهن تستلف رغيفين» ص8 وتنتهي الرواية والأسرة لا تزال على حالها في نفس المكان، بعد مشاهد متعددة المعاني والصور تركز على تعميق الإحساس بجوع هذه العائلة، بطريقة دائرية عجيبة محكمة، ولا يستجد على المشهد سوى كلب يبدو أن الكاتب قد تعمد إضافته ليزيد عدد قافلة الجوعى. تكون سكينة جالسة هي وأفراد عائلتها الأربعة الذين: «ناموا ببطون فارغة (ص 7)، رجب الصغير في حضنها، وزاهر الكبير يقرفص جنب حلق الباب. أما زوجها فيكون بالطرف الآخر من مصطبة بيت قديم ومتهالك «واجهته من الطوب الأحمر، انتفخ أسفلها بسبب الرطوبة، وتساقطت بعض حجارتها، فجوات كبيرة جرى ترقيعها بالأسمنت» ص 5.
ولقد برع الروائي محمد البساطي في تصوير فقر هذه الأسرة على نحو قد يصعب تخيل وجود مثله في أيامنا هذه: فهذه الأسرة تعيش أولاً بأول، ويوماً بيوم، فإن عمل الزوج أكلت، وإن لم يعمل نامت بالجوع، فتضطر الزوجة لاستلاف بعض أرغفة الخبز من الجارات، أو الاكتفاء بكسر الخبز، مغموسة بملح الطعام فقط، وأحياناً دون غموس. و«أحياناً يسألها زوجها إن كان هناك غموس؟ وتقول: منين؟ طيب بصلة؟ منين؟ ولا حبتين ملح؟ تعطيه الملح، ويتجرع الماء وينام» ص 21 إن صورة الجوع في هذه الرواية غريبة حد الاندهاش، وهذا في ظني سبب تميزها، فقد بدا الجوع وكأنه وحش استوطن في الأسرة لا هو يفارقها، ولا هي تعمل على طرده، واستمرأت وجوده في أكلها ولبسها، وبدا الجوع هنا ليس قلة أكل وعدم توفره، بل هو متكرر، سلوك حياة.
وأحداث الرواية تجعل الشعور بالجوع يغزو الأوصال، والمعدة تحس بفداحة الحرمان، فهذه الأسرة نادراً ما كانت تحظى ببعض الأكل اللذيذ، وما هي سوى أيام معدودة عملها زغلول عند أحد الميسورين في القرية. وما عدا ذلك فهي جوع في جوع، لا يضاهيه حتى ذلك الشعور الذي يصيب الصائم في الأيام الأولى من رمضان.
»رب الأسرة» زغلول
شخصية زغلول الشخصية الرئيسية بدت بسيطة جداً، وسلبية جداً، فهو لا يبحث عن عمل، وإن عمل «لا تطول أيام عمله، تراه قادماً والجلباب ملقى على كتفه. فينتفض قلب زوجته لمجيئه، وهي تفكر في الخبيز بعد أن كاد العيش في القفص أن ينفد» ص 20. وهو إلى جانب ذلك كثير النوم: «وينام كثيراً»: «يومان بليلتين يظل نائماً... يصحو ليأكل ثم يعاود النوم.... وهكذا يكون شخصية خاملة، والأعمال التي يتولاها تكون أيضاً مصادفة، سواء عمله عند الحاج عبدالرحيم أو عند هشام، وحتى عمله نادلاً في المقهى لا نعرف إذا كان هو قد سعى إليه، أم أنه هو الآخر قد عرض عليه مصادفة. وحتى هذا يهجره لأن الزبائن شتموا أمه:
- ما بحبش حد يشتم أمي.
- ومين شتمها ؟
- الزبائن مرة، والمعلم صاحب القهوة مرة، أهو.
- ويشتموها ليه ؟
- اسأليهم. شتيمة الأم مزاج عندهم. (ص 20)
في هذا الموقف تبدو شخصية زغلول شخصية متمردة، يقبل الموت لأولاده من الجوع، مقابل أن لا تشتم أمه، ويهرع للمساعدة في رفع أحمال ثقيلة دون مقابل مع أنه بحاجة إلى أي مليم، لكنه لا يقبل المساعدة من أحد دون عمل، شخصية متناقضة، رغم أن أسرته هي التي تدفع الثمن: تنام جائعة، والأطفال محرومون من التعليم، وماء زوجته يراق على عتبات البيوت وهي تستلف أرغفة الخبز، وهو بلا إحساس، ينظر إلى زوجته نظرات يطلب منها تدبير عشاء لجوعه، فأي عالم هذا؟ «وزوجها بالطرف الآخر من المصطبة يسلك أسنانه بعود قش» ص 7.
من جانب نراها أحياناً شخصية متصالحة مع نفسها، ومع مجتمعها، فهو لا يمارس كراهية ما لأي نوع من البشر، ولا يغضب تجاه أي شيء، يرضى بالقليل جداً، ولا يقاوم، لا يمارس أي نوع من العنف سواء في بيته رغم فقره، أو في الشارع، وحتى أولئك الذين شتموا أمه لا يقابلهم بالعنف، وأقصى ردة فعل عنده تكون تركه العمل احتجاجاً على شتم أمه، أو الجلوس أمام البيت ونكش أسنانه. وهو على استعداد للجلوس فترة طويلة أمام مصطبة بيته وهو ينكش أسنانه دون أن يخطر على باله أن زوجته وأطفاله الذين يجلسون قبالته هم بأمس الحاجة ليقوم ويعمل من أجلهم، لا بل ينظر إلى زوجته لتسرع في جلب ما يسكت جوعه: «وزوجها بالطرف الآخر من المصطبة يسلك أسنانه بعود قش. هي تدرك ما يرمي إليه بتسليك أسنانه، هو جائع ويذكرها بأن تسرع للبحث عما يسكت جوعه» ص 7.
والحقيقة التي توصلها الرواية أن لا يوجد فائدة لوجود زغلول في حياة هذه الأسرة، فأيام عمله من أجلها قليلة جداً: «لا تطول أيام عمله، تراه قادماً والجلباب ملقى على كتفه. ينتفض قلبها (زوجته ) لمجيئه ص 20». وهو لا يسعى لزيادة عدد هذه الأيام ليوفر على زوجه انتظار طلوع النهار، وعناء اللف على الجيران لاستلاف أرغفة خبز، والرواية لا تقدم لنا مبررات عدم مثابرته على العمل، ونزوعه إلى الكسل.
الزوجة
أما الزوجة فتكون شخصية نشطة تحاول سد النقص في البيت نقص الرجل، ونقص الخبز، شغلها الشاغل تدبير بعض الأرغفة، وكيف ستعيدها لأصحابها: «كعادتها حين ينفد العيش من البيت، تصحو في البكور، وتقعد على المصطبة (ص 7)» تنتظر النهار لتسرع في البحث، وبخاصة أن «الأربعة ناموا ببطون فارغة (ص 7)». وهي تنتظر طلعة النهار لتمر على بيوت من تعرفهن تستلف رغيفين، أحياناً تجد، وأحياناً لا تجد. ترد دائماً ما تستلفه، ص 8. وهي قلقة وخائفة من أن ترجع خالية الوفاض: «تخشى لو ذهبت إليهن مرة رابعة يجدن الدين يصبح كبيراً لا تستطيع سداده فيختلقن أعذاراً يوجعها سماعها »، 114. «قد تتأخر، غير أنها ترده، لا تنتظر أن يطلبن منها» ص 8. وتتمنى لو أن زوجها يطيل عمله لبضعة أيام أخرى على أمل أن تؤمن بعض الأرغفة: «أسبوع كل ما اشتغله. يكفي الخبيز مرة... لو أسعفها بأسبوع آخر، أو حتى أربعة أيام، كانت خبزت مرة أخرى» ص 21.
الرواية بهذه النماذج الغنية، وكأنها تعقد مقارنة بين الجوع والتخمة: جوع عائلة زغلول، وتخمة بيت الحاج عبدالرحيم، وبيت هشام، وقد حرصت الرواية على تقديم هذا النوع من البيوت ليس لغنى أصحابها وحسب، ولكن لحاجتهم لمن يرعاهم أيضاً، فقد هجر الأبناء هذه العائلات إلى مدن بعيدة، وتركوا عنايتهم لرجل خامل
الأولاد:
أما أولادهما رجب الصغير تسع سنوات، وزاهر الكبير اثنتي عشرة سنة، لا يكترث أبوهما بتعليمهما، مع أنه بدا مهتماً بالتعليم عندما كان يلاحق طلبة الجامعة، ويتنصت عليهم.
ينخرط زاهر الكبير في عمل جلب كسر أرغفة الخبز من فرن عباس لقاء تنظيف الفرن، ويصور الكاتب كسر الخبز بمأساوية عالية كي لا يسمعنا إلا صوت الجوع، ليزداد شعورنا بمأساة الجوع التي تعيشها عائلة زغول: «رغفة معوجة، وأخرى احترق جانب منها، الكسر كثيرة، أرغفة تسقط أثناء إخراجها من الفرن أو نقلها إلى الطاولات» ص 116، وفوق ذلك كله لم تكن هذه الكسر من نصيب أسرة زغلول كل يوم، لأن الفران سمح لزاهر أن يأخذ كسر يومين فقط، فهناك أسر لها نصيب هي الأخرى، وعندما يغادر عباس الفران القرية تحرم الأسرة من هذين اليومين، وتغرق الأسرة من جديد في معاناة تدبير لقمة الأكل حتى ولو يمستوى كسرة خبز.
العائلات الغنية:
وتقدم لنا الرواية بيوت الغنى الكبيرة التي تقع في الطرف المقابل من القرية، وتغص بالخيرات التي يعرفها سكان القرية عندما يأتي موعد سفر الخزين في عربات مليئة بشتى أصناف الطعام من كل نوع «صفيحة الجبن والعسل الأبيض والعسل الأسود... وقفص مانجة وجوافة..» ص 78. وأقفاص الحمام والبط والفراخ والسمان، وزلع السمن والزبد، وأشولة الرز والفول والعدس. والرواية بهذه النماذج الغنية، وكأنها تعقد مقارنة بين الجوع والتخمة: جوع عائلة زغلول، وتخمة بيت الحاج عبدالرحيم، وبيت هشام، وقد حرصت الرواية على تقديم هذا النوع من البيوت ليس لغنى أصحابها وحسب، ولكن لحاجتهم لمن يرعاهم أيضاً، فقد هجر الأبناء هذه العائلات إلى مدن بعيدة، وتركوا عنايتهم لرجل خامل مثل زغلول إذا صدف وأن قابلوا واحداً مثله، فالحاج عبدالرحيم «له ولدان يعيشان في الإسكندرية، ويعملان هناك، لا يحبان البلدة، ولا من فيها، ومنذ عودته، لم يرهما ص 53»، وكذلك الحاج هشام الذي يظل وحيداً بعد موت زوجته، يموت وحيداً في البيت الكبير لا أحد بجواره سوى الخادمتين وأسرة زغلول، في حين نجد أسرة زغلول رغم فقرها تجد ملاذاً في صغيرها زهران يحضر لها كسر الخبز من عند عباس الفران.
إن التفاصيل المتوالية وقصص هذه العائلة عن الجوع تجعل الرواية لا تحتمل غير هذا العنوان: (الجوع). وهي لا تتحدث عن أسرة فقيرة وحسب، ولكنها تتحدث عن بطون خاوية تماماً من الطعام، وأحياناً تلتاذ بالملح فقط، أو بكسر خبز محروقة ودون غموس، مع أن بعض البيوت تطفح بكل ما يشتهي الإنسان، لدرجة الحيرة حتى لدى الخدم ماذا يختارون للأكل والطبخ.
واللغة في هذه الرواية جاءت بسيطة، وسلسة، لا لتكون سهلة القراءة، ولكن لتحدث شعوراً في الجوع داخلنا تماماً مثل ذلك الجوع الذي تعيشه أسرة زغلول. إنها بحق رواية الجوع عنواناً ومضموناً.
مجلة الرافد