محمد البساطي هو ثالث روائي يرحل من جيل الستينيات في مصر خلال الأشهر القليلة الماضية. قبله رحل خيري شلبي ثم إبراهيم أصلان. ويمثل هذا الجيل الذي اصطلح على تسميته جيل الستينيات، لأن طلائع أعمال كتابه ظهرت قبل نكسة 1967، بمثابة ثورة على نجيب محفوظ وعوالمه الروائية والقصصية، وطريقة رؤيته للعالم. وقد كانت أعمال هذا الجيل تحمل نقدا صريحا أو ضمنيا للواقع المصري في زمان حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. ويضم جيل الستينيات كتابا وروائيين وكتاب قصة قصيرة ونقادا من مراحل عمرية مختلفة، فإدوار الخراط الذي ينتمي لهذا الجيل ولد في نهاية العقد الثاني من القرن العشرين، وهو كان في الأربعين من العمر عندما لمع نجم كتاب هذا الجيل، لكنه عُدّ واحدا منهم لأن روحية عمله تقترب كثيرا من روحية أعمالهم وانشغالاتهم الشكلية والمضمونية.
محمد البساطي كان واحدا من هذا الجيل، وإن كان اسمه برز في العقود الثلاثة الأخيرة بعد أن تفرغ تقريبا من عمله الوظيفي في وزارة المالية المصرية. كما أنه عرف في البداية ككاتب قصة قصيرة، ثم جنح إلى عالم الرواية، وظلت رواياته تحمل ملامح القصة الفصيرة على صعيد الشكل، والميل إلى الاختزال والجمل القصيرة، وتطوير الحدث ورسم الشخصيات بنوع من النمنمة ورصد التفاصيل الصغيرة بعين ماهرة تلتفت لأدق الأشياء بحيث يغوص القارئ إلى دخائل الشخصيات عبر الوصف الخارجي الذي يقدمه الكاتب لها. إنه بالفعل واحدا من أبرز كتاب جيل الستينيات رغم أنه كان يبدو مقيما على حافة هذا الجيل لخفوت صوته وبساطته وتواضعه وعدم حديثه عن نفسه، وانشغاله المستمر بتطوير عمله الروائي والقصصي.
ينتمي محمد البساطي على الصعيد الأسلوبي إلى الكاتب الأمريكي إيرنيست همنجواي من حيث العناية بالوصف الخارجي الذي يفضي إلى التعرف على دخائل الشخصيات، راسما حركتها في المكان ليكشف عما يدور في رؤوسها من أفكار. كما أنه ينتمي على صعيد مادته التخييلية، أي المادة التي يخلق منها شخصياته وعوالمه القصصية والروائية، إلى تيار القاص والمسرحي والروائي الروسي أنطون تشيخوف لأنه يرصد بعدسته المكبرة مادة الحياة اليومية في الأرياف والمدن الصغيرة المصرية؛ شخوصه ينتمون إلى طبقة العمال والفلاحين وصغار الكسبة، والبرجوازية الصغيرة، بل إنهم يتكونون في الأغلب من الفقراء المعدمين الذين يحلمون بالرغيف والحياة الكريمة. يشكل البساطي عالمه بنبرة خافتة كصانع ماهر لعوالم يتخايل فيها الواقع الممض الأليم لشخوص تسعى في مناكب الأرض لتحصيل لقمة العيش.
شخصية محمد البساطي تشبه عوالمه الروائية، لا من حيث تقارب تلك العوالم مع أحداث حياته، بل من حيث خفوت الصوت وبساطة العيش والانزواء عن صخب الحياة في الخارج. أطول سهرة جمعتني معه، بحضور الصديق الروائي والقاص المصري عزت القمحاوي، كانت في أحد مقاهي الأدباء في القاهرة قبل سنوات قليلة. جلسنا نتحدث إلى ساعات الفجر حول كل شيء تقريبا، وكانت تلك أول مرة أرى فيها البساطي يتدفق ويتحدث عن الثقافة المصرية، ويعود ليستذكر الأيام التي جمعته مع الروائي الأردني الكبير غالب هلسا. كان يتحدث بحميمية عن غالب، وكأنه مازال بيننا. بلى إن الاثنين ما زالا بيننا حقا، رغم رحيلهما عن هذا العالم.
التاريخ : 17-07-2012 - جريدة الدستور المصرية